الموقف مع شدة الباطل
من حكمة الله أن قدَّر الصِّراع بين الحقِّ والباطل، بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان إلى قيام السَّاعة،
- التصنيفات: الفقه وأصوله - - آفاق الشريعة -
من حكمة الله أن قدَّر الصِّراع بين الحقِّ والباطل، بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان إلى قيام السَّاعة، وحين قدر ذلك لم يترك أولياءه هملاً من غير أنْ يُبيِّن لهم ما يسلكونه في حال الرَّخاء، وفي حال الشدة، في حال قوة الحق، وفي حال ضعفه، بل بيَّن لهم ما يَكْفُل لهم النَّصر والبقاء، فمن ذلك أنْ شرع لأوليائه الصَّبر وكَظْمَ الغيظ وتَحمُّل الإساءة في حال ضعفهم، ففي مكَّة في بداية الدَّعوة، وكانت ضعيفة يتعرَّض المسلمون لصنوفٍ من الأذى على أيدي كُفَّار مكة.
ومع ذلك يأمر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أصحابه بالصبر وضبط النفس وعدم الاستعجال، فعن خبَّاب بن الأرت - رضي الله عنه - قال: شكونا إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - وهو متوسد بُردة له، في ظِلِّ الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا، قال: «كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيُجاءُ بالمنشار فَيُوضع على رأسه، فيشق باثنتين، وما يصدُّه ذلك عن دينه، ويُمشطُ بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله لَيتِمَّنَّ هَذَا الأمر، حتَّى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذِّئب على غنمه، ولكنَّكم تستعجلون»؛ رواه البخاري (3612)، فالطريق شاقٌّ، وينبغي أن تَتَهيَّأ النفوس لذلك، ومن ثَمَّ يأتي ظهور الحق وزهوق الباطل، ما أحوج بعض مَن يعمل لخدمة هذا الدِّين إلى العمل بهذا التوجيه النبوي، وتطبيقه على المرحلة التي يعيشونها!
حتَّى حينما يصل الأذى للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يبقى ضعفاء الصَّحابة ممن ليس لهم مَن يَحميهم مُمتثلين الأمر، وقد كفُّوا أيديهم حتى يفوِّتوا الفُرصة على من يبحث عن مبرر لاستئْصالهم، فعن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -: "إنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يُصلي عند البيت وأبو جهل وأصحاب له جلوسٌ، إذ قال بعضهم لبعض: أيُّكم يَجيء بسلى جزور بني فلان، فيضعه على ظهر محمد إذا سجد، فانبعَثَ أشقى القوم، فجاء به، فنظر حتَّى سجد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وضعه على ظهره بين كتفيه - يقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: وأنا أنظر لا أغني شيئًا، لو كان لي منعة! قال: فجعلوا يضحكون، ويحيل بعضهم على بعض، ورسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ساجدٌ، لا يرفع رأسه حتَّى جاءته فاطمة، فطرحت عن ظهره، فرفع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - رأسه، ثم قال: «اللَّهمَّ عليك بقريش» ثلاث مرَّات، فشقَّ عليهم إذ دعا عليهم، قال: وكانوا يروْن أنَّ الدعوة في ذلك البلد مُستجابة، ثُمَّ سمى، «اللَّهم عليك بأبي جهل، وعليك بعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط»، وعَدَّ السابع، فلم يحفظ، قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: فوالذي نفسي بيده، لقد رأيت الذين عَدَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - صَرْعى في القليب قليب بدر"؛ رواه البخاري (240)، ومسلم (1749).
فالمفسدة - وهي وضعُ السَّلى - قد حصلت، ولَمْ يبقَ إلاَّ طرحه، فلم يطرحه ابن مسعود - رضي الله عنه - فمفسدة طرْحه أعظم من تركه، فتركه؛ لأنَّ ابن مسعود هُذلي حليف، وكان حلفاؤه إذ ذاك كُفَّارًا، ثم أزالت المفسدة فاطمة، والعرب تأنَف من الاعتداء على النِّساء.
ما أحوجنا إلى ضَبط النَّفس، وعدم الاستجابة للاستفزازات التي تصدر مِمَّن لا يريد بنا ولا ببلدنا خيرًا.
إخوتي:
لنتعبَّد الله في حال الرَّخاء بما يناسبُ هذه المرحلة من الأقوال والأفعال، وفي حال الشِّدَّة بما يناسبُ هذه المرحلة من الأقوال والأفعال، فكلُّ قول أو عمل لا بُدَّ أن ينظر إلى ما يؤول إليه، والنَّظر في مصالحه ومفاسده إن وجدت، ومن ثَمَّ يكون الترجيح في الفعل أو الكَفِّ، فالعواطف الجياشة وحدها ليست كافية في جلب الخير أو دفع الشر، كما قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "كم من مريد للخير لن يصيبه!"؛ رواه الدارمي (204)، بإسناد حسن إن شاء الله.
فلا بُدَّ من النَّظر في المصالح والمفاسد في العمل، وهذه يقدرها العلماء العاملون، فهم المرجع بعد الله في الرَّخاء والشِّدَّة، فلْيَكُن حماس الشباب مضبوطًا برأي مَن بَلَغَ أشدَّه مِن أهل العلم والعمل؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيميَّة "الاستقامة" (2/165)، حينما هَجَمَ التتار على المسلمين: "زوال عقل الكافر خيرٌ له وللمسلمين، أمَّا له؛ فلأنه لا يصدُّه عن ذكر الله وعن الصلاة، بل يصدُّه عن الكفر والفسق، وأمَّا للمسلمين؛ فلأنَّ السُّكْر يوقع بينهم العداوة والبغضاء، فيكون ذلك خيرًا للمؤمنين، وليسَ هذا إباحة للخمر والسكر، ولكنَّه دفع لشر الشَّرَّين بأدناهما؛ ولهذا كنتُ آمُر أصحابَنا أنْ لا يمنعوا الخمر عن أعداء المسلمين من التتار، ونحوهم، وأقول: إذا شربوا لم يصدَّهم ذلك عن ذكر الله وعن الصلاة، بل عن الكُفر والفساد في الأرض، ثُمَّ إنَّه يوقع بينهم العداوة والبغضاء، وذلك مَصلحة للمسلمين فصحْوُهم شَرٌّ من سكرهم، فلا خيْرَ في إعانتهم على الصَّحو، بل قد يستحب أو يجب دفع شر هؤلاء بما يُمكن من سُكْر وغيره". ا هـ.
مع اشتداد الخطب وهيجان الباطل، يبقى الاعتقاد الجازم بأنَّ الله ناصر دينه ومُعز أوليائه، هو الهادي للصبر والثبات، وعلى قَدْر قوَّة الإيمان يكون الثَّبات على الحق، فحين الكربِ والشِّدة يظهر أَثَرُ ذلك الاعتقاد على التصرُّفات، فها هو رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يخرج من مكَّة طريدًا متخفِّيًا، ويدركه سراقة بن مالك - رضي الله عنه - فيَعِدُه بسواري كسرى، إنَّها الثِّقة بوعد الله، وفي غزوة الأحزاب حين تَكَالَب على المسلمين العرب واليهود، دَبَّ في القلوب المريضة اليأسُ واليقين بالهزيمة؛ {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب: 12]، أمَّا النفوس المؤمنة، فما يزيدها البلاء إلاَّ صبرًا وثباتًا وتسليمًا لقضائه وقدره؛ {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22]، فالنُّفوس المؤمنة بحسن ظنها بربها تعلمُ أنَّها ليس بها هوان على ربها، وأنَّها ليست أغير منه على دينه وشرعه، فتعمل ما تستطيعه في الرَّخاء والشدة.
إخوتي:
حِكْمة الله وسنته في رسله وأتباعهم جَرَت بأنْ يُدالوا مرَّة ويدال عليهم مرَّة أخرى، لكن تكون لهم العاقبة، فدين الله وشرعه، قد تكفَّل الله بحفظه ونُصرته، فلو كان التَّمكين والظهور دائمًا لأهل الحق، لدخل معهم غيرُهم، ولم يتميَّز الصادق من الكاذب، فلم يَحصل المقصود من البَعثة والرِّسالة، فاقْتَضَت حكمة الله أنْ جَمَعَ لَهم بين الأمرين؛ ليتميَّز مَن يتَّبعهم ويُطيعهم للحقِّ وما جاؤوا به، مِمَّن يتبعهم على الظُّهور والغلبة خاصة، وهذا مُشاهد في واقعنا، فَفي الفِتَن ننكر وجوهًا ألِفْناها، ونرى ونسمع منها ما لم نتوقَّعْه.
ومن حِكَم إدالة الباطل على الحقِّ: استخراج عُبُوديَّة أوليائِه وحزبه في السَّراء والضَّراء، فيما يُحبُّون وما يكرهون، فإذا ثَبَتوا على الطاعة والعبودية فيما يُحبون وما يكرهون، فَهُم عبيده حقًّا، وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد من السَّراء والنِّعمة والعافية؛ {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} [الحج: 11].
ومِن حِكَم إدالة الباطل على الحق: أنَّه مَطردة للفُتور والإخلاد للرَّاحة عن بعض مَن يعمل لخدمة هذا الدين، ففي حال قوة الحق يشعر بعض من يَحملون ميراث النُّبوة بعدم الحاجة إليهم، وأنَّ غيرهم كفاهم، فينشغلون في أمور دنياهم، أو في الأمور المباحة، فإذا زَمْجَر الباطل، وأطلَّ أهلُه برؤوسهم، عاد هؤلاء للمدافعة.
ومن حكم إدالة الباطل على الحق: تَبَصُّر كثير من المسلمين لِمَا يُحاك لهم، ويدركون أنَّهم مُستهدفون في دينهم وأعراضهم، فيتوبون إلى الله، ويقومون بما افترضه الله عليْهم في أنفسهم، ومَن تَحت أيديهم.
ولله حُكْمٌ لا يعلمه إلا هو - سبحانه وتعالى -: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين: 8]، بلى وربي.
عباد الله:
لنحذرْ من سوء الظَّن بربنا في مَواطن ضَعف الحقِّ، وإدالة الباطل عليه، فهو ظَنٌّ لا يليق بأسماء الله الحُسْنَى وصفاته العليا، وذاته المبرَّأة مِنْ كل عَيْبٍ، ظنٌّ لا يليق بحكمته وتفرُّده بالربوبية والإلهية، ظنٌّ لا يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه، وبكلِمته التي سبقت لرسُله أنَّه ينصرهم ولا يخذلهم، ولِجُنده بأنَّهم هم الغالبون.
إخوتي:
ليس من حسن الظَّن بالله ترك العمل، بل هذا عجز، حسن الظَّنِّ أن يعمل المسلم ما أُمِر به، ثُمَّ يَكِلُ الأمر لربِّه معتقدًا أنَّ الأمر كله لله.
__________________________________________________
الكاتب: الشيخ أحمد الزومان