العقلانيون، من هم؟
محمود الدوسري
ابتليت هذه الأمة بفرق ومذاهب عارضت بمعقولاتهم صحيح المنقول، وأوَّل مَن عُرف عنه ذلك هم الجهمية في أواخر عصر التابعين، ثم انتقلت إلى المعتزلة، ثم إلى الأشاعرة والماتريدية، وسائر مَن أخذ بعلم الكلام والفلسفة
- التصنيفات: قضايا إسلامية - - ثقافة ومعرفة -
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:
ابتليت هذه الأمة بفرق ومذاهب عارضت بمعقولاتهم صحيح المنقول، وأوَّل مَن عُرف عنه ذلك هم الجهمية في أواخر عصر التابعين، ثم انتقلت إلى المعتزلة، ثم إلى الأشاعرة والماتريدية، وسائر مَن أخذ بعلم الكلام والفلسفة[1]، مع تفاوتٍ فيما بينها من حيث المنطلقات والآليات والأهداف؛ إذْ لا يمكن بحالٍ من الأحوال أنْ نضع الأشاعرةَ والماتريدية في دائرة الجهمية أو المعتزلة.
العقلانيون ونسبتهم إلى العقل:
قبل الخوض في تعريف العقلانيين، لا بدَّ من الإشارة إلى أمرٍ في غاية الخطورة، وهو نسبتهم إلى العقل، فلا يُفهم من ذلك أنَّ مَنْ يُقابلونهم لا ينتسبون إلى العقل أو لا يُحسنون استعماله.
فالعقل ليس حكرًا على أحد، وليس لأحد أنْ يدَّعي أنه يملك الأدوات العقلية أو من القدرة العقلية ما لا يملكه غيره. والعقل قِسْمةٌ بين الناس جميعًا؛ قد يتفاوتون في درجة الفهم أو في القدرة على توظيفه، لكنهم في النهاية مُشترِكون جميعًا فيه، على المستوى الفردي، وعلى المستوى الجمعي، الذي يجمع بين تياراتٍ فِكرية مُعيَّنة لها أفكارها ومُنطَلقاتُها وأهدافُها وآلياتُها، لا يُمكن بحال من الأحوال أنْ تدَّعي فئةٌ على الأخرى أنها – في مجموعها – أكثر قدرة عقلية على توظيف العقل من غيرها.
ومن ثَمَّ؛ فإنَّ نسبة هذه المدرسة إلى العقل، وتسميتهم عقلانيين هي على سبيل ما اشْتَهَرت به بين المحافل العلمية، وإلاَّ، فإنَّني أرى ابتداءً أنَّ هذه التسمية ليست من حيث الشكل صحيحة، فهي أجدرُ أن يُتوهَّم من ورائها أمور غير صحيحة؛ ومن ذلك: احتكارهم للفهم دون غيرهم، أو التقليل والتهوين من شأن العقل عند مَنْ يُخالفهم في المنهج أو الرأي، أو إنصافهم للعقل في حين معاداة غيرهم له.
فيصبح كلُّ مَنْ يُخالفهم إنما يعادي العقل ويُخالفه ولا يُعاديهم، أو يُعادي ما يُنادون به، فيُنتَقَص من شأن مخالفيهم، وهذا واقع بالفعل عند المقارنة بينهم وبين المدرسة السلفية المُنضبطة بضوابط الشرع، إذْ تُكال لهم التُّهم بمعاداة العقل وعدم القدرة على استعماله، في حين أنهم أكثر الناس قدرة على استعمال العقل، ولكن وَفْقَ منهجٍ مُنضبط على نحو ما أشرنا إليه سابقًا.
عوامل ظهور المدرسة العقلية:
في العصر الحاضر ظهرت اتجاهاتٌ ومدارِسُ عقلانية مُتعدِّدة ما بين ليبرالية وعلمانية وفلسفية ويجمع بينها المغالاة في تعظيم العقل، والقول بأوَّليَّته على غيره من مصادر المعرفة.
ومن بين هذه الاتجاهات: ما اصطُلِح على تسميته بالمُجدِّدين العقلانيين للسُّنة، التي تعد – إلى حدٍّ كبير – امتدادًا للفرق العقلانية القديمة، ولا سيما المعتزلة، وقد واجهت هذه المدرسة مشكلة تعارض العقل مع النقل بزعمها، وانضاف إليها واقع الأمة الإسلامية المتأخر – في مجالات الحياة المختلفة – عن الأمم الأخرى ولا سيما الغرب، فارتأى أصحاب هذه المدرسة العقلية أن طريق النهضة للأمة لا يكون إلاَّ بسلوك سبيل الأمم المتقدمة، فتوهَّموا وجود شيء من التعارض بين النصوص الشرعية والمقررات العقلية والمكتشفات العلمية الحديثة، وتحت ضغط الواقع وبداعي المصلحة أصبحوا ينادون إلى تجديد الأفكار والمفاهيم الإسلامية بما يتماشى مع هذا العصر، وبما يتَّفق مع العقل البشري والنظريات العلمية؛ مما أدى إلى ظهور تأويلات عصرية لأحكام الإسلام لا يُراعى فيها النصوص الشرعية، ولا إجماع علماء المسلمين، ولا دلالات اللغة العربية[2].
المقصود بالمُجدِّدين العقلانيين:
يُقصد بالمجددين العقلانيين هم الذين يُقدِّمون العقل – في الجملة – على نصوص الشرع عند توهُّم التعارض، وهم ممَّن يتبنى المرجعية الإسلامية في الجملة، ويسعون إلى التوفيق بين نصوص الشرع وبين الحضارة الغربية والفكر الغربي المعاصر؛ وذلك بتطويع النصوص وتأويلها تأويلًا جديدًا يُضاهي المفاهيمَ الغربية، والمكتشفاتِ العلميةَ الحديثة.
وتتفاوت رموز هذه المدرسة تفاوتًا كبيرًا في موقفها من النص الشرعي، ولكنها تشترك في الإسراف في تأويل النصوص سواء كانت في العقيدة أو الأحكام أو الأخبار المحضة، وفي رد ما يستعصي من تلك النصوص على التأويل.
وأيضًا رموز هذه المدرسة ليسوا على درجة واحدة، ففيهم الداعية الفقيه الذي طغت عليه فكرة تقريب الإسلام للغرب، وأخذته الحمية لدفع الشبهات عن الإسلام، فزلَّت به الأقدام باسم مصلحة الدعوة تارة، والدفاع عن الإسلام تارة أخرى، وهم أيضًا متفاوتون فيما بينهم بين مُقِلٍّ ومُكثِر في ذلك، وفيهم الصحفي الذي يفتقر إلى العلوم الشرعية، ويُعرف بوصفه كاتبًا إسلاميًا لدى عامة القراء، وفيهم المُغْرِق في عقلانيَّتِه، الذي يَحْكُم فِكرَه وتصوُّرَه اتجاهاتُ المدارس الغربية الحديثة، أو المدارس الكلامية، خاصة المعتزلة.
ومن الأهمية بمكان؛ وبعيدًا عن العاطفة سيكون النقد موجَّهًا للأقوال التي صدرت عن أصحاب هذا الاتجاه وليس لأشخاصهم؛ وعند ذكر قول أحدهم فلا يلزم من ذلك موافقة الآخَرين له في قوله، بل ربما يوجد مَن يرده؛ فهم ليسوا على درجة واحدة[3].
يقول "د. محمد عمارة": (لقد أصبح الواقع الفكري للحياة العربية يتطلَّب فرسانًا غير النصوصيين، ويستدعي أسلحةً غير النُّقول والمأثورات؛ للدفاع عن الدين الإسلامي، وعن حضارة العرب والمسلمين... ويُسَلِّم الكثيرون بأنَّ المعتزلة هم فُرسان العقلانية في حضارتنا)[4].
وهذه هي القاعدة التي ينطلق منها معظم أصحاب هذا الاتجاه الفِكري، وهي: الواقع الفكري للحياة العربية؛ وكأنَّ المطلوب هو تطويع الدِّين للحياة والواقع الفِكري، وليس العكس؛ إذ إنَّ النظرة والفكرة لدى الاتجاه السلفي المنضبط بضوابط الشرع إنما هي تطويع الحياة والفكر بما يُوافق الدِّين ويُراعيه.
وقد يتناسى أصحاب هذه الاتجاه الفكري أنَّ الحضارة العربية الإسلامية لم تزدهر وتنمو وتسود العالَمَ إلاَّ في ظلِّ هذا التطويع للحياة والفكر لصالح الدِّين.
فالتَّعلُّل بالرغبة في إصلاح الواقع الذي تعيشه الأمة، لا يُمْكِن بحالٍ من الأحوال أنْ يكون على حساب الدِّين ذاته، وعلى حساب تقديم تنازلات بتشويهه وفُقدانه لأصالته وحيويَّته لإرضاء الآخَرِ الذي يُراد اللَّحاق به.
وإنما كان يجب استقراء التاريخ استقراءً حياديًّا لنرى كيف نهضت الأمة من قبل في ظلِّ هذا الدِّين، وكيف ارتقت إلى ما ارتقت إليه من مكانةٍ سامية ومنزلة عالية بين الأمم.
والتاريخ دائمًا يُجيب أنَّ الانتصار لهذا الدِّين ولمنهج النبي الكريم صلى الله عليه وسلم كان هو العامل الأساس في تقدُّم الأمة، ومَنْ عنده غير ما نقول فلْيأْتِنا به، إنْ كان صادقًا في دعواه!
ويُبيِّن "د. محمود الطحان" خطورة منهج التجديد العقلاني، فيقول: (ظهرت فئة في هذا العصر، اتَّجهت في معنى التجديد وجهةً غير التي عرفها المسلمون على مر العصور، وحمَّلت التجديد الوارد في السنة ما لا يحتمله، وقامت بعرض أفكار للتجديد بعيدة عن المنهج الإسلامي السوي، وقامت بنشر مقالات فيها كثير من المغالطات كما يحلو لها، ودعت في مقالاتها إلى تجديد الفكر الإسلامي، وتجديد أصول الفقه، وتجديد أصول الحديث، وتجديد العلوم الإسلامية، لا بطريقة عرض تلك العلوم عرضًا سهلًا، أو إيجاد بعض الأحكام الشرعية لمواجهة بعض المشكلات التي جدَّت؛ كالتأمين والبيع بالأجل على أقساط وما إلى ذلك، وإنما انْصَبَّت الدعوة على تغيير الأفكار الإسلامية، وتغيير أصول العلوم الإسلامية... رغبة مسايرة العصر الذي نعيش فيه، وعابوا في مقالاتهم اعتماد المسلمين على أحكام قال بها الأئمة الفقهاء الأقدمون، وزعموا أنها أحكام بَليت وذهبت مع عصرهم كما بلي أصحابها، وقالوا: يجب على المسلمين المعاصرين أن يأتوا بأفكارٍ جديدة، وأصولٍ جديدة للعلوم الإسلامية تناسب المسلم المعاصر)[5].
ويُفهم من كلام "د. محمود الطحان" أنَّ أصحاب منهج التجديد العقلاني إنما أرادوا أنْ يُبدِّلوا الأصولَ الثابتةَ المستقِرَّة التي أنتجتها العبقرية الإسلامية مُتمثِّلة في علمائها الأفذاذ في أصول الفقه وعلوم الحديث وغيرها من العلوم الأصيلة، وبدلًا من أنْ يبنوا عليها ويُضيفوا إليها بضوابط منهجية، فيُشاركون في صرح العلم، عمدوا إلى هدم أساسه وتقويض أركانه.
ويُشير "د. محمود الطحان" إلى أنَّ الأَولى بهم صرف جهودهم وتفكيرهم إلى مواكبة المستجِدَّات والمستحدَثات ودراستها وبيان الرأي فيها.
وهم بتصرُّفهم هذا خالفوا قواعدَ العلم الرَّصين؛ فمن المعلوم ضرورةً أنَّ العلوم – النظرية منها والبحتة والتطبيقية – تراكمية، فكلُّ جيلٍ يبني على ما سبق، وإذا كان العلم قائمًا على النقض والهدم، فالجيل التالي يهدم ما بناه الجيل السابق لَتَوَقَّف بنا العلم عند نقطة الصِّفر، ولَمَا حدث أيُّ تطورٍ أو تجديد.
فكان الواجب عليهم أنْ يبنوا على ما ذهب إليه أسلافهم العلماء لا أنْ ينقضوه، وكان يجب عليهم أنْ ينطلقوا من حاجاتهم الضرورية والمُتوافقة مع دينهم وفِكرهم لا أنْ يُسايروا الأمم الأخرى فقط، ويُقلِّدوها فيما ذهبت إليه، وهذا هو سر التَّميُّز الذي يُميِّز الشخصية المسلمة والفِكر الإسلامي عن غيره، فنصبح فاعلين ومتفاعلين مع غيرنا لا مُجرَّد مُقلِّدين مُنهزمين لغيرنا.
أبرز معالم المُجَدِّدين العقلانيين:
من أبرز معالم المدرسة العقلية المعاصرة والمجددين العقلانيين ما يلي:
1- رد السُّنة النبوية كلَّ الرد أو بعضَه؛ فمنهم مَنْ يردُّها مطلقًا، ومنهم مَنْ يقبل المتواتر العملي فقط، ومنهم مَن يقبل المتواتر مطلقًا عمليًّا كان أو قوليًّا.
وأما حديث الآحاد – الذي لم يبلغ حد التواتر – فقد يقبلون منه ما يُوافق روحَ القرآن، وما يتَّفق مع العقل، أو التجربة البشرية، وقد يرده بعضُهم مطلقًا، فلا يقبل منه شيئًا.
2- التوسُّع في تفسير القرآن والسنة على ضوء العلم الحديث لكافة جوانبه، ولو أدَّى ذلك إلى استحداث أقوالٍ مُجانبة لتركيب الآيات والأحاديث من الناحية اللغوية، وغير موافقة للمنقول عن السلف الصالح؛ كما في تفسير "محمد عبده" وهو من أقطاب تلك المدرسة.
3- التهوين من شأن الإجماع؛ إما برفضه رفضًا كليًّا؛ كما هو عند "أحمد خان الهندي" وإما بوضع قيودٍ جديدة للإجماع؛ كما هو عند "محمد عبده" وغيره.
4- الحرية الواسعة في الاجتهاد مع غض النظر عن الشروط المطلوبة في المجتهد، ومع غض النظر أيضًا عن الأطر العامة التي يجب أنْ تضبط هذا الاجتهاد.
5- الميل إلى تضييق نطاق الغيبيات ما أمكن؛ تأثرًُّا بالتيار المادي الذي يسود الحضارة المعاصرة، ومن هنا جاء إقحام العقل في المسائل الغيبية، وتأويل الملائكة والجن والشياطين.
6- تناول الأحكام الشرعية العملية تناولًا يستجيب لضغوط الواقع ومتطلَّباته[6].
الشيخ "محمد رشيد رضا" وموقفه من السُّنة النبوية:
مَثَّلَ الشيخ "محمد رشيد رضا"[7] رحمه الله اتِّجاهًا فكريًّا عقلانيًّا، بدأ مع بدايات ما يُسمَّى "عصر التنوير" في مصر والعالم العربي، ويُعتبر امتدادًا لأستاذه وشيخه "محمد عبده"، من حيث متابعته في الكثير من القضايا والمسائل المُتعلِّقة بالكتاب والسُّنة وظل الشيخ "محمد رشيد رضا" محسوبًا على هذا الاتِّجاه سواء من قِبَل العقلانيين أو الحداثيين أنفسهم، أو من قِبَل أدعياء التَّجديد الديني، أو من قِبَل بعض العلماء والباحثين حيث اعتبروه كذلك امتدادًا لهذا التيار، دونما مراعاةٍ لمراحل تَطوُّر وتغيُّر حياته العلمية وموقفه من السنة النبوية.
وهذا الصَّنيع قد جعل العقلانيين والحداثيين يستشهدون بأقواله، وما كتبه في بداية حياته العلمية قبل تراجعه عن آرائه تجاه بعض قضايا السنة، ولا سيما أنه يُمثِّل قيمةً علمية كبيرة.
ولكن الحقيقة التي يجب أن تنكشف هي أن الشيخ "محمد رشيد رضا" قد حَدَثَ له تغيُّر في آرائه ومواقفه، تراجَعَ من خلاله عن كثير من المسائل العلمية حول السنة النبوية، ولا سيما بعد وفاة شيخه "محمد عبده"، وقد أشار إلى ذلك د. مصطفى السباعي رحمه الله بقوله: (أمَّا السيد رشيد رضا رحمه الله، فيظهر أنه كان في أوَّل أمرِه مُتأثِّرًا بوجهة أستاذه الشيخ "محمد عبده"، وكان مِثْلَه قليلَ البضاعة من الحديث، قليلَ المعرفة بعلومه، ولكنه منذ استلم لواء الإصلاح بعد وفاة أستاذه "محمد عبده"، وأخذ يخوض غمار الميادين الفقهية والحديثية، وغيرهما، وأصبح مَرجِعَ المسلمين في أنحاء العالم في كلِّ ما يعرض لهم من مشكلات، كَثُرت بِضاعتُه من الحديث، وخِبْرَتُه بعلومه، حتى غدا آخِرَ الأمر حامل لواء السُّنة، وأبرَزَ أعلامِها في مصر خاصَّة...)[8].
ويمكننا أن نُخلِّص هذا التراجع والتصحيح العلمي للشيخ "محمد رشيد رضا" رحمه الله من خلال أمرين هامين، وهما:
أولًا: موقفه من صحيحي البخاري ومسلم:
يتلخَّص موقف الشيخ "محمد رشيد رضا" رحمه الله من "صحيحي البخاري ومسلم" في إعلاء قدرهما وقدر مؤلَّفيهما، فقال عن صحيح البخاري: (إنَّ "صحيح البخاري" أصحُّ كتابٍ بعد كتاب الله)[9].
وقال عنهما: (وجملة القول في "الصحيحين" أن أكثر رواياتهما متَّفق عليها عند علماء الحديث، لا مجال للنزاع في متونها ولا أسانيدها، والقليل منها مختلف فيه)[10]. وقال: (ودعوى وجود أحاديث موضوعة في أحاديث البخاري المسندة بالمعنى الذي عرَّفوا به الموضوعَ في علم الرواية، ممنوعة لا يسهل على أحد إثباتها)[11].
وقال: (على أنَّ مَنْ أطال البحث فيه، وفيما قبله؛ يدهش لدقَّة الشيخين، ولا سيما البخاري في انتقاء أحاديث الصحيحين وتحرِّيهما فيها)[12]. وقال - مُنتصرًا لهما: (ومن دقَّقَ النظر في تاريخ رجال الصحيحين، ورواية الشيخين عن المجروحين منهم، يرى أكثرها في المتابعات التي يُراد بها التقوية؛ دون الأصول التي هي العمدة في الاحتجاج. ثم إذا دقَّق النَّظر فيما أنكروه عليهما ممَّا صحَّحاه من الأحاديث؛ يجد أن أقوالهما في الغالب أرجح من أقوال المنازعين لهما، لا سيما البخاري، فإنه أدق المحدِّثين في التَّصحيح)[13].
ورغم هذا الموقف الإيجابي من الصحيحين ومؤلفيهما إلاَّ أنه رحمه الله قد انتقد جملةً من الأحاديث، وأغلبها أحاديث في أشراط الساعة، ولكنه رغم انتقاده لها إلاَّ أنه يختلف عن غيره ممَّن وجَّهوا سهامهم إلى السنة النبوية وذلك في أمرين:
1- أنه لم يُعادي أحاديث الصحيحين، ولم يتَّخذ منها موقفًا سلبيًّا لمجرَّد النقد أو الهوى، يُثبِتُ ذلك دفاعه عن الصحيحين وما بهما.
2- أنه ظنَّ – من حيث أخطأ – أنه بذلك يخدم دين الله، وينصر سُنةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وذلك بدفع الشبهات عنها، وعبَّر عن ذلك عندما ردَّ على مَن اتَّهمه بردِّ أحاديث الصحيحين بقوله: (إنني ذكرتُ حديث أبي ذرٍّ في مسألة الشمس في المجلد الثاني عشر من "المنار" في سياق الأحاديث المُشْكلة، وطرقِ الحلِّ لمشكِلاتِها من مقالٍ طويلٍ في تأييد السُّنة... فجعل البَهَّاتُ المُفترِي نَصْرَنَا للسُّنة، ودفاعَنَا عنها تكذيبًا وكُفرًا لصاحبها صلى الله عليه وسلم، ولكتاب الله)[14].
ثانيًا: موقفه من التفريق بين السُّنة القولية والسُّنة العملية في الاحتجاج:
تبنَّى الشيخُ رشيد رضا رحمه الله رأيًا مبدئيًّا وهو أن السنة يُقْصَد بها السنة العملية فقط، ومن ثَمَّ فإن السُّنة القولية والتقريرية غير داخلة في معنى السنة، وبنى على هذا الموقف رأيه في عدم حجية السنة القولية والتقريرية، فقال: (فالعمدة في الدِّين هو القرآن وسنن الرسول المتواترة، وهي السنن العملية؛ كصفة الصلاة والمناسك)[15]، وقد تشبَّثَ بهذا الرأي العديد ممَّن يُنكرون السُّنة ويردُّونها من أمثال؛ "جمال البنا" و "توفيق صدقي" وغيرهم.
ولكن العجيب هو أن هؤلاء وأمثالهم قد فاتهم أن الشيخ "محمد رشيد رضا" قد عَدَل عن رأيه هذا، وقد أشار إلى ذلك تلميذه د. مصطفى الرفاعي رحمه الله، بقوله: (لقد أدركتُه رحمه الله في آخر حياته، وكنتُ أتردَّدُ على بيته، فأستفيد من علمِهِ وفهمِهِ للشريعة ودفاعه عن السنة؛ ما أجد من حقِّ تاريخه عليَّ أن أشهدُ بأنه كان من أشد العلماء أخذًا بالسُّنة القولية، وإنكارًا لمن يُخالفها من المذاهب الفقهية، إني على ثقة بأنه لو كان حيًّا حين أصدر "أبو رية" كتابَه[16]؛ لكان أوَّل مَنْ يرد عليه في أكثر من موضع في ذلك الكتاب)[17].
بل إن الشيخ نفسه قد كَتَبَ مقالًا جاء فيه ما يُثبت صحَّة ما قاله د. مصطفى السباعي، حينما عبَّر عن استيائه من أصحاب الاتجاه الحداثي الذي يريد نقل روح المدَنيَّة الغربية إلينا وتفريطه في دينه بقوله: (كذلك المُتَّبِعون لأهوائهم في دعوى الجمع بين الإسلام والرُّقي والمدَنيَّة، هم مُنَفِّرون للسَّوَادِ الأعظم عن هذه المدَنيَّة وعلومِها وفنونِها وصناعتِها؛ لأنه يعزو إليها ما يراه من جحد بعضهم للسنة النبوية، بجملتها وتفصيلها، ورد السُّنن القولية منها، وإنكار بعضهم لما لا يوافق رأيه وهواه منها)[18].
وفي موضع خر يذم بعضَ المبتدعة الذين يأخذون بالسُّنة العملية دون الأحاديث القولية الصحيحة الثابتة، فيقول: (ومنهم [أي المبتدعة] مَنْ يَدَّعي اتِّباع سنته صلى الله عليه وسلم العملية التي تلقَّاها عنه أصحابه بالعمل، دون ما ثبت عنه بالأحاديث القولية؛ وإنْ كانت صحيحةَ المتون والأسانيد، لا يُعارضها مُعارِض من القرآن، ولا قطعيٌّ آخَرُ يُثبته العلم والعقل)[19].
وهكذا يترجَّح لدينا رجوعه عن إنكار السُّنن القولية، وعدم الاحتجاج بها إلى القول بِحُجيَّتها؛ بل والإنكار على مَنْ يرى عدم حجيَّتها.
وقد اجتهد الشيخ "محمد رشيد رضا" في أمور أصاب في بعضها وأخطأ في بعضها الآخَر، كما أنه قد تراجع عن أمور رَضِيَها أو تقبَّلَها أوَّل أمرِه، وكذلك ظَلَّ ثابتًا على موقفه في مسائل بعينها، ومنها موقفه من خبر الواحد، الذي ظلَّ متابعًا شيخه "محمد عبده"، إذ زعم الشيخ "محمد رشيد رضا" وقوعَ الإجماع على أنَّ الحديث الصحيح لا يُفيد أكثر من الظن؛ بل يُطْرَحُ لِمُجَرَّد ظهور مُخالفته لقطعيٍّ من المعقول، فيقول: (أجمعَ العلماءُ من الأصوليين والمُحدِّثين على أن روايات الآحاد العدول الثقات؛ كالصحابة، وأئمة التابعين المعروفين، ومَنْ عُرِفَ بالصدق وحُسن السيرة مثلهم؛ لا يفيد أكثرَ من الظنَّ، وأجمعوا على أنه إذا رُوِيَ عنهم ما يُخالف المعقول القطعي، والمنقول القطعي كنص القرآن؛ فإنه لا يُعتدُّ بالرواية ولا يُعوَّل عليها، إلاَّ أنْ يُوفَّق بينها وبين القطعي منقولًا كان أو معقولًا فقط)[20]. وقال أيضًا: (فإن المعروف عند الأئمة قاطبة أن أحاديث الآحاد لا تفيد إلاَّ الظن)[21].
وإننا لنخلص إلى نتيجة هامة مفادها:
أن الشيخ "محمد رشيد رضا" رحمه الله لم يكن مُعاديًا للسُّنة فضلًا أن يكون مُنكرًا لها، وإنَّ كثيرًا من مواقفه (السلبية حول السنة النبوية؛ ممَّا خالف به الشيخُ جماهيرَ العلماء؛ كان في أعداد المجلة الأُولى، حيث كان الشيخُ قليلَ الإلمام بمباحثها، ضعيفَ التمرُّس في كثيرٍ من قضاياها، إضافةً إلى تأثُّره بشيخه "محمد عبده" الذي غلبت عليه النزعة العقلية في تعامله مع نصوص الوحيين بعامة، غير أنَّ رشيد رضا بعد وفاة شيخه وخفوتِ ذاك التأثير الذي كان لـ"محمد عبده" عليه، وبعد أن صارت "المنار" ملجأ كثير من مسلمي العالَم في السؤال عن دينهم؛ تَعَمَّقَ في علوم السُّنة، وكَثُر استدلاله واستشهاده بنصوصها، واعتدل رأيه في كثير من مسائلها، وقد أشار إلى هذه الحقيقة؛ د. مصطفى السباعي رحمه الله الذي أدرك الشيخَ في آخِر سِنِيِّ حياته، وكفى بشهادة الشيخين المُحَدِّثين أحمد شاكر والألباني – وهما مَنْ هما – بتمكُّن الشيخ رشيد رضا في علوم الحديث؛ شهادةً وتزكية...
وإنَّ صنيع كثيرٍ من أعداء السنة المعاصرين في الاستشهاد ببعض مواقف الشيخ رشيد رضا التي جانَبَ فيها الصواب؛ هو صنيعٌ يعوزه الإنصاف، ويفتقر إلى الموضوعية؛ لأنَّ هؤلاء أغفلوا – قصدًا أو جهلًا – ذِكْرَ مواقِفِه الأُخرى الكثيرة التي انتصر فيها للسُّنة ورواتها، خصوصًا في مراحله الأخيرة)[22].
[1] انظر: درء تعارض العقل والنقل، ابن تيمية (5/ 244).
[2] انظر: تجديد الدين لدى الاتجاه العقلاني الإسلامي المعاصر، د. أحمد بن محمد اللهيب (ص 6-7).
[3] انظر: تجديد الدين لدى الاتجاه العقلاني الإسلامي المعاصر، (ص 9-10، 25).
[4] تيارات الفكر الإسلامي، د. محمد عمارة (ص 70-71).
[5] مفهوم التجديد بين السنة النبوية وبين أدعياء التجديد المعاصرين، د. محمود الطحان (ص 4-5).
[6] انظر: الفكر الإسلامي المعاصر، غازي التوبة، (ص 40)؛ مفهوم تجديد الدين، بسطامي محمد سعيد (ص 50)؛ منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير، فهد الرومي (ص 80)؛ موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية، (ص 183).
[7] - هو محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدِّين بن محمد بهاء الدِّين القلموني، البغدادي الأصل، الحسيني النسب: صاحب مجلة «المنار»، وأحد رجال الإصلاح الإسلامي، من الكتَّاب، العلماء بالحديث والأدب والتاريخ والتفسير. ولد في القلمون (من أعمال طرابلس الشام) سنة (1282هـ)، ونَظَم الشِّعر في صباه، وكتب في بعض الصُّحف. ومن أشهر آثاره: «تفسير القرآن الكريم»، و«الوحي المحمدي»، و«شبهات النصارى وحجج الإسلام»، توفي بمصر سنة (1354هـ). انظر: الأعلام (6/ 126).
[8] - السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، (ص 45).
[9] مجلة المنار، (29/ 51).
[10] المنار، (12/ 697).
[11] المنار، (29/ 104).
[12] المنار، (29/ 41).
[13] المنار، (12/ 696).
[14] المنار، (32/ 774).
[15] المنار، (27/ 616).
[16] المقصود بكتاب "أبي رية" (أضواء على السنة المحمدية).
[17] السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، (ص 46).
[18] المنار، (29/ 69).
[19] المنار، (30/ 688).
[20] المنار، (6/ 55، 56).
[21] المنار، (7/ 508).
[22] آراء "محمد رشيد رضا" في قضايا السنة النبوية من خلال مجلة المنار، محمد بن رمضان رمضاني (ص 452، 453).