عمارة الأرض واجب شرعي وإنساني ووطني
محمد سيد حسين عبد الواحد
هل لنا أن نغار على ديننا هل لنا أن نهذب من طباعنا هل لنا أن نحسن من أخلاقنا وسلوكياتنا ومعاملاتنا هل لنا أن نتناصح فيما بيننا ونتواصى على الخير والمعروف ..
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
أيها الإخوة الكرام فى سورة الأعراف أورد الحكيم العليم سبحانه دعوة دعا بها موسى عليه السلام ربه فقال {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ}
فأجابه ربه سبحانه وتعالى بهذه الكلمات:
{قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ , الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
أيها الإخوة المؤمنون أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم
رسالة الخير التى جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلّم جمعت بين العبادات وبين المعاملات جمعا لطيفا ..
وربطت بينهما برباط متين وميثاق غليظ وبينت أن العبادة بلا أخلاق لا تنفع وأن الأخلاق بلا عبادة لا تغني ولا تسمن ..
الرسالة التى بُعث بها محمدٌ صلى الله عليه وسلم جمعت بين العمل للدنيا وبين العمل للآخرة تحت عنوان عريض يقول :
{ وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }
الإسلام لا يُلزم المسلمين أن يكون كل كلامهم ذكراً ولا كل سكوتهم فكراً ولا كل ألفاظهم شكراً..
الإسلام يوازن بين الدين وبين الدنيا يوازن بين مطالب الروح وبين مطالب الجسد..
ومن هنا جاءت نصوص الإسلام تطالب بعمارة الآخرة بالصلاة والصيام والصدقة وعمل الصالحات وفى نفس المواضع نصوص أخرى تطالب بعمارة الدنيا بالزراعة بالصناعة بالتجارة بالبناء والتعمير وبالإصلاح والتجميل واقرؤوا إن شئتم سورة القصص ستجدون فيها قول الله تعالى : {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا }
واقرؤوا فى خواتيم سورة الجمعة ستجدون فيها الحديث صريحاً عن عمارة الدنيا وعن عمارة الآخرة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ , فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
وتأتينا سنة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم لنتحدثنا أنه عاش الحياة بطولها وعرضها أنشط الناس ما كان يكلُّ ولا يملُّ فى أمر دينه ولا فى أمر دنياه..
فكما جاهد صلى الله عليه وسلم نفسه ليكون أخشى الناس لله وأتقاهم وأقواهم صلةً بالله عز وجل سعى رسول الله بالتوازى مع هذا الجهد وبالتوازى مع هذا النشاط ليكون فى أمر دنياه غنياً يأكل من عمل يده ومن عرق جبينه ولا يمد عينيه إلى ما متع الله به الأثرياء والأغنياء وأحسبكم جميعاً تحفظون حديثه صلى الله عليه وسلم :«الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِى كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجَزْ »
فى السنوات الأولى من حياته صلى الله عليه وسلم :
قدّم الصادق الأمين نموذجاً حياً للصبى العاقل المتزن صاحب النفس الأبية صاحب العقل المستنير ..
ورد انه لما عهد به جده عبد المطلب فى أواخر أيامه إلى عمه أبى طالب نظر الصبى محمد إلى عمه فرآه قليل المال كثير العيال فعفت نفسه صلى الله عليه وسلم أن يكون عبأً علي عمه فخرج يتكسب قوته بعرق الجبين خرج يرعى أغناماً ويسرح بأنعامٍ ولسان حاله يقول « ما أكل ابن آدم طعاماً قط خير من أن يأكل من عمل يده»
ما عرفت الأنانية طريقها يوماً إلى قلبه صلى الله عليه وسلم لم يكن يحمل همّ نفسه فقط بل كان ينظر إلى الناس ويهتم بأمورهم وما كان من شيء ينفع الناس ويجلب لهم الخير ويدفع عنهم الشر إلا وشارك فيه صلى الله عليه وسلم
يذكر أصحاب السير أن الصادق الأمين محمد بن عبد الله :
رعى الغنم فى صباه فى وادٍ يقال له أجياد على أموال يتقاضاها من أهل مكة..
وذكروا أن الصادق الأمين محمد بن عبد الله لما بلغ الرابعة عشر من عمره شارك فى حرب الفجار مع عمومته ومع أهل مكة يدافع عن بلده ويدافع عن البيت الحرام وذلك حين أغارت هوازن على مكة وحاولت أن تستحلّ حرمة البيت العتيق .
ولما بلغ صلى الله عليه وسلم العشرين من عمره واجتمع زعماء مكة فى دار عبد الله بن جدعان وتعاهدوا على إنصاف الناس واتفقوا على نصرة المظلوم وعقدوا يومها حلف الفضول شارك معهم وحضره محمد صلى الله عليه وسلم
فى كل ما من شأنه عمارة الأرض و فى كل ما من شأنه الإصلاح بين الناس إذا تفاسدوا والتقريب بينهم إذا تباعدوا وفى كل ما من شأنه لمُّ الشمل ووحدة الصف وحقن الدماء ونشر روح المحبة والصفاء بين الناس تجد على رأسه داعياً إليه محمداً صلى الله عليه وسلم
ورد أن الصادق الأمين لما بلغ الخامسة والثلاثين من عمره كانت الكعبة قد تشقق بعضها و تساقط بعضها فعزمت قريش على هدم الكعبة وعزمت على بناءها من جديد شارك فى البناء وحمل الحجارة الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم حملها مع الناس وهم على حال من الوفاق والتآلف والفرح ليس له مثيل .. غير أن أهل مكة لما أرادوا وضع الحجر الأسود فى موضعه اختلفوا قال بنو هاشم نحن نحمله وقال بنو أمية بل نحن نحمله وقالت خزاعة بل نحن أولى به من الجميع أما بنو عبد الدار وبنوا عدى فقد ورد أنهم جائوا بقصعة مملوءة بالدم فوضعوا فيها أيديهم وتعاهدوا على الموت وقالوا لن يضع الحجر فى موضعه غيرنا..
وقامت الدنيا ولم تقعد يوماً ويومين وثلاثة والناس يتربص بعضهم ببعض حتى هدى الله رجلاً منهم وقف يحجز بينهم ويقول لا تنازعوا ولا تختلفوا واجعلوا بينكم حكماً قالوا ومن ذا الذى يحكم بيننا قال من يدخل عليكم من هذا الباب فاتخذوه حكماً فدخل محمد صلى اللهس عليه وسلم..
فقالوا هذا محمد الأمين رضينا به حكماً فقال ائتونى بثوب فجائوه بثوب فجعل فيه الحجر وقال ليحمل من كل قبيلة رجلاً فحملوه ورفعوه فأخذه الأمين حتى جعله فى موضعه وجعل الله من حكمته صلى الله عليه وسلم سبباً فى إخماد النار وحقن الدماء . هذا عن نشاط رسول الله وإيجابيته قبل بعثته..
أما بعد البعثة فقد ازداد رسول الله نشاطاً وإيجابية :
فعمل لدين الله ورغب الناس فيه ليلاً ونهاراً سراً وجهاراً , حتى علّم الجاهل , وقوم المعوج , وطمأن القلق , ونشر أنوار الهدى والتوحيد والإيمان , وتحمل رسول الله فى سبيل الله من الأذى ما تنوء بحمله الجبال الشمُّ الرواسى..
وصلى النبى صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه وبكى من خشية الله حتى بلّ الأرض واشتعلت رأسه شيباً بسبب كثرة التفكر فى آيات الله وصام صلى الله عليه وسلم حتى قال الناس صام رسول الله ولا نراه يفطر وتصدق رسول الله وأنفق حتى كان السائل يرجع إلى قومه فيقول يا قوم أسلموا فإن محمداً يعطى عطاء من لا يخشى الفاقة..
وبعد الهجرة ورد أنه صلى الله عليه وسلم لما وصل المدينة وشرع فى بناء المسجد جعل يده فى أيدى أصحابه وحمل الحطب والخشب وحمل الطين والحجر حتى رُفعت القواعد وتمّ البناء
وقد أظهر النبى فى ذلك اليوم نشاطاً أحرج به عدداً من شباب المهاجرين والأنصار كانوا يجلسون فى الظل فلما رأوا رسول الله يعمل قاموا ودخلوا فى العمل وجعلوا يقولون لإن قعدنا والرسول يعمل فذلك إذاً العمل المضلل ..
وفى بيته صلى الله عليه وسلم كان أنشط الناس يقم بيته ويحلب شاته ويخصف نعله ويرقع ثوبه ويخدم نفسه ويضاحك ويمازح أولاده وأزواجه ويؤانسهم يفعل كل هذا عن طيب نفس منه يفعله وهو يقول أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً وألطفهم بأهله .
قَالَ أَبو هُرَيْرَةَ « مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ كَأَنَّ الشَّمْسَ تَجْرِي فِي وَجْهِهِ ، وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَسْرَعَ فِي مَشْيِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ، كَأَنَّمَا الأَرْضُ تُطْوَى لَهُ ، وإِنَّا لَنُجْهِدُ أَنْفُسَنَا ، وَإِنَّهُ لَغَيْرُ مُكْتَرِثٍ» ..
رغب رسول الله كل مسلم فى أن يكون نشيطاً :
يعمل لدينه ويعمل لدنياه فلا يكون المسلم كسولاً فى أمر دينه فالكسل فى أمر الدين صفة المنافقين الذين إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى , أما المسلمون فليس الكسل فى العمل لدين الله من صفاتهم ولهذا ورد الحديث عنهم فى سورة المؤمنون يقول {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ }
وكما لا يكون المسلم كسولاً فى أمر دينه لا يكون المسلم كسولاً فى أمر دنياه وفى هذا صح عن النبى صلى الله عليه وسلم قوله «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فان استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها »
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا وأن يصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا وأن يصلح لنا أخرانا التى فيها معادنا وأن يجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير وأن يجعل الموت راحة لنا من كل شر ....
الخطبة الثانية
بقى لنا فى ختام الحديث أن نذكر الناس بأنه فى كل ليلة من ليالينا يَعْقِدُ الشَّيْطَانَ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ ابن آدم إِذَا هو نَامَ ثَلاَثَ عُقَدٍ ، كُلُّ عُقْدَةٍ يَضْرِبُ مَكَانَهَا ويقول يا ابن آدم عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ
قال النبى صلى الله عليه وسلم فَإِذَا اسْتَيْقَظَ ابن آدم فذَكَرَ رَبَّهُ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ ،وإذا تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ العُقْدَةُ الثانية ، فَإِذا صَلَّى انْحَلَّتْ العُقْدَةُ الثالثة فَأَصْبَحَ ابن آدم نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ ، قال النبى صلى الله عليه وسلم وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلاَنَ »
إن حياة رسول الله باختصار شديد هى نشاط فى نشاط وعمل فى عمل وبناء فى بناء وعمارة فى عمارة وحركة فى حركة عمل بها فى نفسه ورغب فيها أصحابه ليبقى رسول الله فى أعيننا خير مثال
خير مثال لرجل يعمل لدنياه بكل همة وبكل نشاط ويعمل لأخرته بكل صدق وإخلاص لنقول فى النهاية خرج رسول الله من الدنيا وقد عمّر دنياه وعمّر أخراه..
فهل لنا أيها المؤمنون أن نرقب الله فى أعمالنا وننشط إلى أشغالنا وإلى أبواب رزقنا أسوة بنبينا صلى الله عليه وسلم ؟
هل لنا أن نحافظ على بلادنا ؟
هل لنا أن نحميها وندافع عنها ؟
هل لنا أن نحافظ على أمنها على استقرارها كما فعل قدوتنا صلى الله عليه وسلم ؟
هل لنا أن نغار على ديننا هل لنا أن نهذب من طباعنا هل لنا أن نحسن من أخلاقنا وسلوكياتنا ومعاملاتنا هل لنا أن نتناصح فيما بيننا ونتواصى على الخير والمعروف ..
كل الناس على ضلال كل الناس على خسران إلا من تناصحوا وتناصروا فى الله عز وجل {وَالْعَصْرِ , إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ , إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}