الصوفية: نشأتها وتطورها
محمود الدوسري
جمع المتصوفةُ كلَّ أنواع الكفر والزندقة؛ التي توجد في فلسفات الهند وإيران واليونان، وكلَّ مكرِ القرامطة، والفِرَقِ الباطنية، وكلَّ خرافات المخرفين، وكلَّ دجل الدجالين، وكلَّ وحي الشياطين ووضعوا كلَّ ذلك في إطار التصوف، وعلومه، ومبادئه، وكشوفه.
- التصنيفات: الملل والنحل والفرق والمذاهب - الفرق والجماعات الإسلامية -
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:
إنَّ معرفة أصول الصوفية[1] ومراحل تطورها، والبدع التي وقعت فيها، ورؤوس طرقها؛ تكفي لمعرفة حالها، وعندما نتحدَّث في الصوفية لا نتحدَّث فيها كجزء من التراث؛ بل هي موجودة موصلة بالماضي، ونستطيع أن نقول: إنهم عادوا بعد أن انحسر ظلهم قليلًا، عادوا بقوة لغاية في نفسٍ مَنْ يستفيد من عودتهم؛ ليزاحم بهم دعوة الكتاب والسنة؛ فـ"البريلوية" في المشرق، و"التيجانية" في المغرب، وبينهما "الشاذلية" و"البرهانية" .. إلى آخر أسماء الطُّرق التي لا تنتهي، فلماذا لا نُنَبِّه المسلمين إلى أخطائهم وخطرهم[2].
التصوف بحر القاذورات:
(اعلم أنَّ التصوف بحرٌ من القاذورات؛ فقد جمع المتصوفةُ كلَّ أنواع الكفر والزندقة؛ التي توجد في فلسفات الهند وإيران واليونان، وكلَّ مكرِ القرامطة، والفِرَقِ الباطنية، وكلَّ خرافات المخرفين، وكلَّ دجل الدجالين، وكلَّ وحي الشياطين ووضعوا كلَّ ذلك في إطار التصوف، وعلومه، ومبادئه، وكشوفه. فلا يَتَصوَّر عقلك عقيدةً كفريةً في الأرض إلاَّ تجدها في التصوف؛ بدءًا بنسبة الألوهية الى المخلوقات، وانتهاءً بجعل كلِّ موجود هو عين اللهِ، تعالى اللهُ عمَّا يقولون علوًا كبيرًا)[3].
عن أيِّ صوفيةٍ نتحدَّث:
عندما نتكلم في الصوفية فإنما نقصد "المعنى الاصطلاحي"، أي: الصوفية التي جاءت بكتبٍ ومصطلحات خاصة، فيها إشكالات وبعد من منهج الكتاب والسنة، أوصلت معتنقيها – فيما بعد – إلى أمور خطيرة مثل: "الاتحاد" و"الحلول"، فهذا لا شك أنه تفرُّق وبُعد من خط أهل السنة والجماعة.
والذين يقولون: إنما نعني بالصوفية؛ السلوك الإسلامي، وترقيق القلوب، والزهد في الدنيا. فيقال لهم: لماذا تُسمُّون هذه الأشياء صوفيةً، وقد أصبحت عَلَمًا على رموزٍ وأشكالٍ تُخالف الإسلام؛ مثل (الفناء والبقاء، والقبض والبسط، والوقت والحال، والوجد والوجود، والجمع والتفرقة، والصحو والسكر، والذوق والشرب، والمحو والإثبات، والتجلي والمحاضرة والمكاشفة، واللوائح والطوالع واللوامع، والتكوين والتمكين، والشريعة والحقيقة، إلى غير ذلك من التخليط الذي ليس بشيء، وتفسيرُه أعجبُ منه)[4]. فهلاَّ ابتعدتم عن هذه الشبهات، وتركتم هذه الأسماء التي ما أنزل الله بها من سلطان؟! ولذا قال ابن الجوزي رحمه الله: (التصوف مذهب معروف، يزيد على الزهد، ويدل على الفرق بينهما: أنَّ الزهد لم يَذُمَّه أحد، وقد ذمُّوا التصوف)[5].
والقضية ليست قضية سلوك، وإنما هي: أساليب مُستحدَثة مُختَرَعة أعجمية في الرياضات الروحية، أدت إلى الشطح، والقول على الله بغير علم، فغاية الصوفية: الاتصال بالله - بزعمهم - والبعد عن الناس، وهذا مضادٌ لمنهج الأنبياء؛ الذين لم يُبْعَثوا إلاَّ لدعوة التوحيد، وإيقاظ الناس من سبات الشرك والجهل، ولذلك فنحن لا نعتبر أعلام الزهاد والعباد؛ كـ "إبراهيم بن أدهم" و"الفضيل بن عياض"، وأمثالهم داخلين في الصوفية بهذا المعنى الذي نقرره[6]، فضلًا عن أن نعتبر أمثال "الحسن البصري" ومَنْ قبله؛ كما يحاول الصوفية أن يقرروا - وبدون حياء - كما يصفهم ابن الجوزي، وكلُّ فِرقةٍ تحاول التمويه على الناس، وتَنْسِب إليها أعلامَ أهل السنة، فكلُّ الأحاديثِ الباطلة والمضحكة عند الشيعة الإمامية؛ تُنْسَب إلى "جعفر الصادق" وهو بريء منها، وهو من أئمة أهل السُّنة.
الفرق بين الزهد والتصوف:
ألَّف علماءُ أفذاذٌ كتبًا في الزهد؛ مدحًا وبيانًا لحُكمِه، وجمعًا لأحاديثه، وممن ألَّف في هذا الباب: الإمام أحمد، وابنه عبد الله، ووكيع، وأبو داود، وابن أبي عاصم، والبيهقي، وأبي حاتم الرازي، وغيرهم.
فالزهد عند أهل السنة هو من منهج أهل السنة؛ لا يتعلَّق من الدنيا بشيء، ولكنه يسعى في الأرض ويُكافح من أجل عمارتها على الوجه الذي طلبه الله تعالى منه، ولا يفرح بالدنيا، ولكنه يسعد فيها بما يوجب السعادة، وغاية ما هنالك أنه يُسَلِّم أمرَه إلى الله تعالى، فيرضى بقضائه ويقنع بعطائه.
إذًا؛ الزهد عند أهل السنة هو تحقيق التوازن بين الروح والجسد، وبين الدنيا والآخرة، بحيث لا يطغى جانب على جانب، وهذا خلاصة الزهد، الذي دلَّنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: «أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ للهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»[7]، فالجمع بين هذه المسائل يُقصد به تحقيق التوازن المطلوب شرعًا وعقلًا.
أمَّا التصوُّف؛ فإذا كان قد بدأ بدايةً فيها حالة شبيهة بالزهد إلاَّ أنه في قطار تقدُّمِه ركب معه ممَّن ركب حالات وحالات فيها من الطوام العظام ما ليس يخفى على أهل العلم، حتى مَسَخوا حقيقتَه، فأصبح عَلَمًَا يستحق الذمَّ بدلًا من المدح، ولا سيما بعد دخول المتفلسفة إليه؛ أمثال ابن سينا، وابن العربي، والحلاج، وغيرهم، ولكن وإحقاقًا للحق، فإنَّ هناك من نُسِبَ إلى التَّصوف من أعلام المسلمين ممَّن لا يُشَكُّ في دينهم وزهدهم وسلوكهم طريق أهل السنة، أمثال: الحسن البصري، وإبراهيم بن أدهم، والفضيل بن عياض.
والفرق بين "الزهد الأوَّل" و"التصوف" هو: كالفرق بين "التشيع بمعناه اللغوي" الذي هو المناصرة والمحبة لعليٍّ رضي الله عنه بدون غلو، وبين "التشيع الذي استقرَّ أخيرًا" كفرقة لها عقائدها المميزة، بعد أن أدخلت الباطنيةُ الغلوَّ في عليٍّ رضي الله عنه توسُّلًا إلى الطعن في الصحابة رضي الله عنهم، وهكذا بثَّت الباطنيةُ تعاليمَها الإلحادية في "غلاة الصوفية"[8].
وهناك أفاضل من العلماء ينتسبون إلى التصوف أخذوا بجانب من الصوفية؛ لظنهم أنها الطريق الوحيد لتربية النفس، وهذا خطأ منهم، وإذا اعتبرنا الصوفية فرقةً ابتعدت قليلًا أو كثيرًا عن منهج السلف؛ فلا يعني هذا: أنَّ كلَّ مَن انتسب إليها ضالُّ منحرف، فقد يكون من أعظم العُبَّاد، ولكن تنقصه جوانب مهمة من جوانب الإسلام الشامل المتكامل، والمسلم يكون فيه من النقص بمقدار ابتعاده عن السنة.
ولا يُنكر أنَّ "أوائل الصوفية" آثروا الجانب "الروحي والوعظي" والمتعلق بأعمال القلوب؛ كالتركيز على الإخلاص، والتوكل، والإنابة، والخشية لله تعالى، ولكنهم تشدَّدوا في هذا، ونقَّبوا عمَّا لم يُنقِّبْ عليه مَنْ هو أفضل منهم، كما لا يُنكر أنَّ البعض في "الطرف المقابل" قد يكون عنده قسوة قلبٍ، وهذا مرفوض أيضًا، بل هذا فيه شبه باليهود الذي وصفهم الله سبحانه في القرآن بأن قلوبهم أشد قسوة من الحجارة، كما أنَّ عبادة الله بدون علم فيه شبه بالنصارى، والتوسط المعتدل هو المطلوب: "صراط الذين أنعم الله عليهم" من الصحابة الكرام رضي الله عنهم وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين[9].
وها هو ابن عقيل رحمه الله يُحذَّر من الصوفية والمتكلمين، فيقول: (ما على الشريعة أضر من المتكلمين والمتصوفين؛ فهؤلاء "المتكلِّمون" يفسدون عقائد الناس بتوهيمات شبهات العقول، وهؤلاء "الصوفية" يُفسدون الأعمال، ويهدمون قوانين الأديان، يُحِبُّون البطالات، وسماع الأصوات، وما كان السلف كذلك، بل كانوا في "باب العقائد" عبيدَ تسليمٍ، وفي "الباب الآخَر" أرباب جِدٍّ. قال: ونصيحتي إلى إخواني ألاَّ يقرع أفكارَ قلوبهم كلامُ المتكلمين، ولا تصغي مسامعُهم إلى خرافات المتصوفين، بل الشُّغل بالمعاش أَولى من بطالة الصوفية، والوقوف على الظواهر أحسن من توغُّل المُنتحِلَة، وقد خبرت طريقة الفريقين، فغاية هؤلاء "المتكلمين" الشك، وغاية هؤلاء "الصوفية" الشطح)[10].
(ولقد استمر هذا الحال السيئ المزري، الذي حكاه "ابن عقيل" ونقله عنه "ابن الجوزي" رحمه الله، بل لقد كانت القرون التي تلت ذلك قرون ظلام وجهل، حيث عاث المتصوفة في الأرض الإسلامية فسادًا، وملؤوها فسقًا وفجورًا، باسم الدِّين والإسلام، ولم يكتفوا فقط بإفساد العقول والعقائد، ولكنهم أفسدوا أيضًا الأخلاق والآداب)[11].
نفي الصِّلة بين أهل الصفة والصوفية:
نريد أنْ نُنَوِّه هنا إلى أنَّ الصِّلة بين التَّصوُّف وبين أهل الصُّفة الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى رأسهم أبو هريرة رضي الله عنه هي صلة مبتورة؛ إذْ لا علاقة للتَّصوف بهم من قريب ولا بعيد؛ ودليلُنا على ذلك: أنَّ أبا هريرة رضي الله عنه وكان من كبار أهل الصفة، هو أكثر من روى الحديثَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نكاد نشك أنَّ أهل الصفة مَثَّلوا أوَّل أكاديمية عِلمية في الإسلام، حيث انقطعوا للعلم والتَّعلُّم، والبحثُ بشأنهم يحتاج إلى جُهد لنؤصِّل هذا الأمر ونُحَقِّقه.
فأهل الصُّفة كانوا من أنصار الحديث، والصوفية إنما هجروا الحديثَ، وهجروا السُّنةَ النبوية، فهُمْ على طرفي نقيض، وإنما حاولوا أنْ يتَّخذوا أصلًا لهم فحاولوا ربط أنفسهم بهم بما يُخالف قواعد العقل، وحقيقة التاريخ.
[1] (الصوفية): جماعة سُمُّوا بهذا الاسم لِلِبْسِهم الصوف، ولهم طريقةٌ مُعيَّنة تُعرف بالتصوف، وقد مَرَّ التصوف بمراحل، فأوَّل ما نشأ كان زهدًا في الدنيا وانقطاعًا للعبادة، ثم تطوَّر شيئًا فشيئًا حتى صار إلحادًا وضلالًا، وقال أصحابه بالحلول، ووحدة الوجود، وإباحة المحرمات. انظر: اعتقادات فرق المسلمين والمشركين، (ص 72)؛ البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان، (ص 101).
[2] انظر: الصوفية نشأتها وتطورها، محمد العبْدة طارق حليم، (ص 5).
[3] فضائح الصوفية، (ص 23).
[4] تلبيس إبليس، (ص 149).
[5] تلبيس إبليس، (ص 149).
[6] انظر: دائر المعارف الإسلامية، (1/33).
[7] رواه البخاري، (3/1062)، (ح 5118)؛ ومسلم، (1/569)، (ح 3469).
[8] انظر: تاريخ الإمام، محمد رشيد رضا (ص 116)؛ الصوفية نشأتها وتطورها، (ص 7-8).
[9] انظر: الصوفية نشأتها وتطورها، (ص 12).
[10] تلبيس إبليس، (ص 330).
[11] فضائح الصوفية، (ص 18).