فتنة تثور- 3

خالد سعد النجار

فهؤلاء الوضاعون الكائدون للإسلام  مغفلون لا يحسنون وضع الأباطيل؛ لأنهم يأتون فيها بما يظهر بطلانها في بادئ الفهم الصحيح لكل مسلم.

  • التصنيفات: التاريخ والقصص -

{بسم الله الرحمن الرحيم }

وليس الأمر بهذه الصورة التي تحكيها الروايات أن كل من لم يرضَ بإمامه خلعه، فعقد الإمامة لا يحله إلا من عقده، وهم أهل الحل والعقد، وبشرط إخلال الإمام بشروط الإمامة، وهل علي -رضي الله عنه- فعل ذلك واتفق أهل الحل والعقد على عزله عن الخلافة وهو الخليفة الراشد حتى يقال إن الحكمين اتفقا على ذلك، فما ظهر منه قط إلى أن مات -رضي الله عنه-، شيء يوجب نقض بيعته، وما ظهر منه قط إلا العدل، والجد والبر والتقوى والخير.

أيضا الزمان الذي قام فيه التحكيم زمان فتنة، وحالة المسلمين مضطربة مع وجود خليفة له، فكيف تنتظم حالتهم مع عزل الخليفة! لا شك أن الأحوال ستزداد سوءًا، والصحابة الكرام -رضي الله عنهم- أحذق وأعقل من أن يُقْدِموا على هذا، وبهذا يتضح بطلان هذا الرأي عقلًا ونقلًا.

وهذه الرواية المكذوبة تطعن في أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- بأنه مغفل وهذا طعْن في النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- الذي ولاه على تهائم اليمن زبيد وعدن وغيرهما وهو مغفل!!.

والطعنُ فيه بما ذكر طعنٌ في عمر -رضي الله عنه- الذي ولاه أميرًا على البصرة وقائدًا على جيشها فافتتح الأهواز وأصبهان، وكتب عمر في وصيته: «لا يقر لي عامل أكثر من سنة وأقروا الأشعري أربع سنين».

فكيف يقرّ عمر -رضي الله عنه- أبا موسى الأشعري أربع سنين وهو مغفل؟!!!

فهؤلاء الوضاعون الكائدون للإسلام  مغفلون لا يحسنون وضع الأباطيل؛ لأنهم يأتون فيها بما يظهر بطلانها في بادئ الفهم الصحيح لكل مسلم.

وما نقصت هذه الخديعة -لو صحت- مما كان لأمير المؤمنين عليٍّ -رضي الله عنه- عند أتباعه شيئًا وما أفادت معاوية -رضي الله عنه- شيئًا جديدًا زائدًا عما كان له حتى يصح أن يقال فيها إن فلانًا داهية كاد أمة من المسلمين بكيد مقدمها ومحكمها، وغاية أمرها أنها أشبه بعبث الأطفال لا تتجاوز العابث والمعبوث به، وبرَّأ الله تعالى أصحاب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من هذا العبث.

ولا يخلو قول عمرو بن العاص -رضي الله عنه- فيما زعموا عليه: «وأثبت صاحبي معاوية» من أمرين:

الأول: تثبيته في الخلافة كما كان أولًا، وهذا هو المتبادر من لفظ التثبيت، وهو باطل قطعًا؛ فإنه لم يقل أحد ينتسب إلى الإسلام إن معاوية -رضي الله عنه- كان خليفة قبل التحكيم حتى يثبّته حَكمه فيها بعده، ولم يدَّعِها هو لا قبله ولا بعده، ولم ينازع عليًّا -رضي الله عنه- فيها.

الثاني: تثبيته على إمارة الشام كما كان قبل، وهذا هو المتعين دراية وإن لم يصح رواية، وهو تحصيل الحاصل، وأي دهاء امتاز به على أبي موسى في تحصيل الحاصل؟ وأي تغفيل يوصم به أبو موسى مع هذا العبث؟ فهل زاد به معاوية شيئًا جديدًا لم يكن له من قبل؟ وهل نقص به علي عما كان له قبل؟

كما لا يخفى ما تنطوي عليه هذه الروايات من قدح وذمّ في صحابة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- واتهام بعضهم بالغدر والخيانة وسب ولعن بعضهم بعضًا, وما يخالف هذا امتداح الله -عز وجل- ورسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- لهم رضي الله عنهم.

يقول قاضي قضاة أشبيلية بالأندلس الإمام أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري في كتابه (العواصم من القواصم) بعد أن ذكر ما شاع بين الناس في مسألة تحكيم عمرو وأبي موسى، وما زعموه من أن أبا موسى كان أبله وأن عمْراً كان محتالاً:

هذا كله كذب صراح، ما جرى منه حرف قط، وإنما هو شيء أخبر عنه المبتدعة، ووضعته التاريخية للملوك، فتوارثه أهل المجانة والجهارة بمعاصي الله والبدع. وإنما الذي روى الأئمة الأثبات أنهما -يعني عمراً وأبا موسى- لما اجتمعا للنظر في الأمر، في عصبة كريمة من الناس منهم ابن عمر، عزَل عمروٌ معاوية. ذكر الدار قطني بسنده عن حضين بن المنذر أنه لما عزل عمرو معاويةَ جاء (أي حضين) ضرب فسطاطه قريباً من فسطاط معاوية، فبلغ نبأه معاوية، فأرسل إليه فقال: إنه بلغني عن هذا (يعني عمرو بن العاص) كذا وكذا (يعني اتفاقه مع أبي موسى على عزل الأميرين المتنازعين لحقن دماء المسلمين وردَّاً للأمر إليهم يختارون من يكون به صلاح أمرهم). فاذهب فانظر ما هذا الذي بلغني عنه. قال حضين: فأتيته فقلت: أخبرني عن الأمر الذي وليت أنت وأبو موسى كيف صنعتما فيه؟ قال: قد قال في ذلك ما قالوا، والله ما كان الأمر على ما قالوا، ولقد قلت لأبي موسى: ما ترى في هذا الأمر؟ قال: أرى أنه النفر الذي توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض. قلت: فأين تجعلني أنا ومعاوية؟ فقال: إن يُسْتَعَنْ بكما ففيكما معونة، وإن يُسْتَغْنَ عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما. فقال: فكانت هي التي فتل معاوية منها نفسه. فأتيته (أي أن حضيناً أتى معاوية) فأخبرته أن الذي بلغه عنه كما بلغه. أي أن الذي بلغ معاوية من أن عمراً وأبا موسى عزلاه هو كما بلغه، وأنهما رأيا أن يرجع في الاختيار من جديد إلى النفر الذي توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض.

ثم ذكر القاضي أبو بكر بن العربي بقية خبر الدارقطني عن إرسال معاوية رسولاً -وهو أبو الأعور الذكواني- إلى عمرو بن العاص يعاتبه، وأن عمراً أتى معاوية وجرى بينهما حوار وعتاب، فقال عمرو لمعاوية: إن الضجور قد يحتلب العلبة. وهو مثل معناه أن الناقة الضجور التي لا تسكن للحالب قد ينال الحالب من لبنها ما يملأ العلبة. فقال له معاوية: وتربذ الحالب فتدق عنقه وتكفأ إناءه.

فرواية الدار قطني هذه -وهو من أعلام الحديث- عن رجال عدول معروفين بالتثبت، ويقدرون مسئولية النقل، هي التي تتناسب مع ماضي عمرو وأبي موسى وأيامهما في الإسلام ومكانتهما من النبي صلى الله عليه وسلم وموضعهما من ثقة الفريقين بهما واختيارهما من بين السادة القادة المجربين.

وأما الافتئات على أبي موسى والإيهام بأنه كان أبله فهو أشبه بالرقعة الغريبة في ردائه السابغ الجميل.

يقول القاضي أبو بكر بن العربي: وكان أبو موسى رجلاً تقياً ثقفاً فقيهاً عالماً أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن مع معاذ، وقدَّمه عمر بن الخطاب وأثنى عليه بالفهم. وزعمت الطائفة التاريخية أنه كان أبله ضعيف الرأي مخدوعاً في القول. ثم ردَّ هذه الأكاذيب وأحال في تفصيل الرد على كتاب له اسمه سراج المريدين.

وبعد فإن صحائف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت كقلوبهم نقاء وسلامة وطهراً. وما نتمناه من تمحيص التاريخ أول ما يشترط له فيمن يتولاه أن يكون سليم الطوية لأهل الحق والخير، عارفاً بهم كما لو كان معاصراً لهم، بارعاً في التمييز بين حملة الأخبار: من عاش منهم بالكذب والدس والهوى، ومن كان منهم يدين لله بالصدق والأمانة والتحرز عن تشويه صحائف المجاهدين الفاتحين الذي لولاهم لكنا نحن وأهل أوطاننا جميعاً لا نزال كفرة ضالين.

وختاما يقول الأستاذ منير الغضبان: فالروايات الساقطة التي تجعل عمرو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عبدا للدنيا والجاه، يكذب ويخدع من أجل السلطة ومن أجل الوصول إلى ولاية مصر، نقول:

إن هذه الروايات تتناسب مع شاب مغامر في مقتبل العمر لم يذق لذة الدنيا ولم ينل شيئا من جاهها ونعيمها في العشرين أو الثلاثين من عمره، فهل غاب عن أذهان هؤلاء الكذابين الساقطين من الرواة أن عمرا -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قد ناهز الثمانين يوم أن انضم إلى معاوية، وأنه تجاوز الخامسة والثمانين من عمره يوم حكم في مصير أمة محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقد نال من جاه الدنيا وأمجادها ما لم ينله أحد بطولة وافتخارا وإدارة وسلطانا، أما المال فقد كان ماله في الوهط يحلم به الملوك والحكام فماله وللدنيا؟ قال ابن الأعرابي: الوهط، قرية بالطائف على ثلاثة أميال من وج كانت لعمرو بن العاص، وقد غرس عمرو فيها ألف ألف عود كرم على ألف ألف خشبة ابتاع كل خشبة بدرهم، فحج سليمان بن عبد الملك فمر بالوهط فقال: أحب أن أنظر إليه، فلما رآه قال: هذا أكرم مال وأحسنه ما رأيت لأحد مثله، فأي دنيا يريدها عمرو وقد دانت الدنيا له؟

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

[email protected]