عولمة الفقر في العالم الثالث
إننا نعيش في عصر الفقر العالمي مع ظهور المجاعات على نطاق واسع، ومع عودة الأوبئة الفتَّاكة، وانهيار القطاعات الإنتاجية في البلدان النامية، وضمور برامج الرعاية الصحية والاجتماعية فيها...
- التصنيفات: - ثقافة ومعرفة - مجتمع وإصلاح -
إننا نعيش في عصر الفقر العالمي مع ظهور المجاعات على نطاق واسع، ومع عودة الأوبئة الفتَّاكة، وانهيار القطاعات الإنتاجية في البلدان النامية، وضمور برامج الرعاية الصحية والاجتماعية فيها.
وللأسف؛ فان هناك محاولات من الوكالات الدولية الكبرى الثلاث؛ البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية؛ لتشويه الحقائق والتلاعب بالبيانات، وبمعايير الفقر من أجل تقديم صورة أفضل للعالم.
بدأت عولمة الفقر في العالم الثالث متزامنة مع حدوث الهجمة العنيفة لازمة الديون، وقد امتدت منذ التسعينيات لتشمل جميع المناطق الأساسية في العالم.
كما انتشرت المجاعة وطالت جانبًا كبيرًا من السكان في العالم؛ فحسب تقدير الأمم المتحدة، فإن 23 مليون إنسان في القرن الإفريقي فقط معرضون في الواقع لخطر المجاعة.
يقول مايكل تشوسادوفسكي: تتفق الدول السبع الكبرى، والمؤسسات الدولية، بما فيها البنك الدولي على إنكار المستويات المتزايدة للفقر العالمي الناشئ عن عمليات الهيكلة الاقتصادية، ويتم إخفاء الحقائق الاجتماعية، والتلاعب بالإحصاءات الرسمية، كما تقلب المفاهيم الاقتصادية رأسًا على عقب.
يحدد البنك الدولي وبعيدًا عن المفاهيم والمناهج التقليدية الاقتصادية المتعارف عليها؛ لقياس الفقر يحدد بشكل اعتباطي عتبة الفقر بدولار في اليوم، ويصنف فئات السكان ذات الدخل الفردي الذي يزيد على دولار واحد في اليوم على أنها غير فقيرة.
إن مقياس دولار في اليوم لا يستند إلى أساس منطقي؛ ففئات السكان في البلدان النامية التي يصل دخلها الفردي إلى دولارين أو ثلاثة دولارات أو حتى خمسة دولارات في اليوم ما زالت تعاني الفقر، وعدم استطاعتها تغطية النفقات الأساسية على الغذاء والمأوى والصحة والتعليم.
عندما تتحدد عتبة الفقر بدولار في اليوم، يصبح تقدير مستويات الفقر العالمي والوطني مجرد مسألة حسابية، وتحسب مؤشرات الفقر بطريقة آلية ابتداءً من فرضية الدولار في اليوم، ومن ثَمَّ تدرج المعلومات ضمن جداول جذابة تبين تراجعًا في مستويات الفقر العالمي مع حلول القرن الواحد والعشرين.
وهذه التنبؤات المتعلقة بالفقر تستند إلى نسبة مفترضة من النمو في الدخل الفردي الذي يتضمن انخفاضًا مساويًا له ومتماشيًا معه في مستويات الفقر.
إن الإطار الذي بُني على فرضية دولار في اليوم ليس له أي معنًى؛ لأنه ابتعد عن دراسة وقائع الحياة الفعلية، فمع غياب دراسة النفقات المنزلية على الطعام والمأوى، والخدمات الاجتماعية والصحية يصبح تقدير مؤشرات الفقر في الإطار الذي وضعه البنك الدولي مجرد مسألة حسابية.
واستنادًا لبرنامج الأمم المتحدة للتنمية؛ فإن التقدم في عملية التخفيف في الفقر عبر القرن العشرين مميز؛ ولذا استند مؤشر الفقر البشري التابع لبرنامج الأمم المتحدة إلى الأبعاد الأكثر أهمية للفقر، وهي قِصَر العَمْر، وغياب التعليم الأساسي، وعدم القدرة على استخدام الموارد العامة والخاصة.
بيد أن تقديرات برنامج الأمم المتحدة للفقر البشري تعتبر نموذجًا أكثر تشويهًا من ذلك النموذج الذي قدَّمه البنك الدولي ذلك أن تقديرات البرنامج لا تتوافق مع الحقائق المتعلقة بمستوى البلد المعني والتقديرات الوطنية للفقر.
إن المعايير المزدوجة هي الطاغية الواضحة في عملية قياس الفقر، فمعيار البنك الدولي بمقدار دولار في اليوم ينطبق فقط على الدول النامية؛ حيث لا يعترف البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية بوجود الفقر في أوروبا وأمريكا.
وأكثر من هذا؛ فإن مقياس دولار في اليوم يناقض أصول البحث الثابتة التي تستخدمها الحكومات الغربية، والمنظمات الحكومية في تعريف الفقر في البلدان المتطورة وقياسه.
حيث تعتمد طرق قياس الفقر في الغرب على المستويات الدنيا للنفقات المنزلية المطلوبة للإنفاق على الطعام والملبس، والمسكن والصحة والتعليم.
وحقيقة الأمر؛ فإن برنامج الأمم المتحدة للتنمية والبنك الدولي للإنشاء والتعمير لا يقومان بمقارنة بين مستويات الفقر بين الدول المتطورة والدول النامية.
إن الانخفاض العالمي في مستويات المعيشة ليس نتيجة ندرة الموارد الإنتاجية كما كانت عليه الحال في فترات تاريخية سابقة، ففي الواقع حصلت عولمة الفقر خلال فترة تقدم تِقَنِي وعلمي سريعين.
ففي حين أسهم التقدم العلمي في زيادة الطاقة الكامنة للنظام الاقتصادي لإنتاج السلع والخدمات الأساسية إلا أن المستويات الواسعة للإنتاجية لم تترجم إلى تخفيض مماثل في مستويات الفقر العالمي.
وختامًا أقول:
أن التلاعب بأرقام الفقر العالمي تعيق المجتمعات الوطنية عن فَهْم نتائج المسار التاريخي الذي ابتدأ في بداية الثمانينيات مع هجوم أزمة الديون، وقد غزا هذا الوعي الخاطئ جميع ميادين الحوار والنقاش، وبدورها فإن قلة التبصُّر الفكرية لعلم الاقتصاد السائد تعيق فَهْم الأعمال الحقيقية للرأسمالية الكونية، وأثرها المدمر على سُبل عيش ملايين الناس.
وللأسف؛ فإن المؤسسات الدولية سارت وحذت مؤيدة الخطاب الاقتصادي السائد نفسه دون تقييم لتأثير عملية الهيكلة الاقتصادية على المجتمعات الوطنية، والتي تؤدي إلى انهيار المؤسسات، وإلى تزايد حِدة الصراع الاجتماعي.