فضل العشر من ذي الحج

محسن العزازي

حريٌّ بِنَا أنْ نعرفَ لهذه الأيامِ فضلَهَا، ونقدرُ لهَا قدرَهَا، ونحرصُ على شكرِ اللهِ تعالى على بلوغِهَا.

  • التصنيفات: التصنيف العام - الذكر والدعاء - تزكية النفس - الحث على الطاعات - خطب الجمعة -

فِي رِياضِ الخيرِ نَرْتعُ نِسْتَقي نَسَمَ الرَّحِيقِ، مِنْ صَيامِ شَهْرٍ وليالِ عشرٍ تُوَّجَتْ بليلةِ القدرِ، ثم شوالٍ وما فيه من ستٍ فتم صيام دهرٍ، إلى حج بيتٍ وأيامِ عشرٍ تُوَّجَتْ بيوم عرفة، وأيام نحر وهي عيدُ قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس : 58]، ألا إن لكم في أيام دهركم لنفحات فتعرضوا لها، عسى أن تصبكم نفحة لا تشقوا بعدها أبدا.
فقد امتنَّ اللهُ عزَّ وجلَّ على الأمةِ بمواسمَ خيرٍ وبركةٍ، تتضاعفُ فيها الحسناتُ، وتكفرُ فيها السيئاتُ، وترفعُ فيها الدرجاتُ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال:  «أفعلوا الخيرَ دهرَكم وتعرضوا لنفحاتِ رحمةِ اللهِ فإن للهِ نفحاتٍ من رحمتِه يصيبُ بها من يشاءُ من عبادِه وسلوا اللهَ أن يسترَ عوراتِكم وأن يُؤمِّنَ روعاتِكم» [1].
ومِن هذه الأيامِ المباركةِ العشرُ الأولُ مِن ذي الحجةِ، فقد وردَ في شأنِهَا وبيانِ فضلِهَا ما لم يردْ في غيرِهَا، حيثُ أقسمَ الحقُّ عزَّ وجلَّ بها في قولِهِ تعالى: {والفجرِ . وليالٍ عشرٍ} [ الفجر: 1-2 ]. ذكر ابن كثير في تفسيره عن ابن عباس: "هي ليالي العشر الأول من ذي الحجة"، وقال ابن عباس في قول الله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [ الحج: 28 ]، أي: أَيَّامُ  الْعَشْرِ[2]، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:  «أفضل أيام الدنيا أيام العشر»[3]. أنه يوم العيد لأهل الموقف قال النبي صلى الله عليه وسلم:  «يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام» [4].
وقد يشكل على البعض في بيان الأفضل العشر من ذي الحجة أم العشر الأواخر من رمضان؟! وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن عشر ذي الحجة والعشر الأواخر من رمضان، أيهما أفضل؟ فأجاب: “أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان، والليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحج”[5]، وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: "والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه, وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج, ولا يتأتى ذلك في غيره"[6]، وقال ابن القيم الجوزية: "وإذا تأمل الفاضل اللبيب هذا الجواب وجده شافيا كافيا، فإنه ليس من أيام العمل فيها أحب إلى الله من أيام عشر ذي الحجة. وفيها يوم عرفة ويوم النحر ويوم التروية. وأما ليالي عشر رمضان فهي ليالي الأحياء التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحييها كلها، وفيها ليلة خير من ألف شهر. فمن أجاب بغير هذا التفصيل، لم يمكنه أن يدلي بحجة صحيحة[7].
في هذه الأيام المباركة ما المستحب فعله؟ يقولُ نبيُّنَا ﷺ:  «ما مِن أيامٍ العملُ الصالحُ فيهَا أحبُّ إلى اللهِ مِن هذه الأيامِ»، يعني: أيامَ العشرِ، قالُوا: يا رسولَ اللهِ، ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ؟ قال:  «ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ، إلّا رجلٌ خرجَ بنفسهِ ومالهِ، فلم يرجعْ مِن ذلك بشيءٍ»[8].
يُرشِدُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى فَضْلِ العملِ الصَّالحِ في العَشْرِ الأوائلِ مِن ذي الحِجَّةِ، ويُبيِّنُ أنَّ أجْرَ العَملِ الصَّالحِ فيها يَتضاعَفُ ما لا يَتضاعَفُ في سائرِ الأيَّامِ؛ فعلَى المُسلِمِ أنْ يَغتَنِمَها ويُكثِرَ فيها الطاعاتِ، ومِن أجَلِّ الطاعاتِ:
فيها ذِكرُ اللهِ عزَّ وجلَّ، والذاكر في حصن الله وحماه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:  «قال اللَّهُ تَعالَى: أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي، وأنا معهُ إذا ذَكَرَنِي، فإنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وإنْ ذَكَرَنِي في مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ في مَلَإٍ خَيْرٍ منهمْ، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ بشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِراعًا، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِراعًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ باعًا، وإنْ أتانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً»[9]، فينعم بالأمن والأمان قال الله تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد : 28]، وأعظمُ الذِّكرِ قِراءةُ القُرآنِ، والتَّكبيرُ والتَّهليلُ والتَّحميدُ، قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ: «ما مِن أيَّامٍ أعظمُ عِندَ اللهِ ولا أحَبُّ إليه مِن العَملِ فيهنَّ مِن هذه الأيَّامِ العَشرِ؛ فأَكْثِروا فيهِنَّ مِن التَّهليلِ والتَّكبيرِ، والتَّحْمِيد»[10].وأما التكبير المطلق فهو الذي يكون في عموم الأوقات ويبدأ من أول ذي الحجة، وروى البخاري في صحيحه: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ يُكَبِّرَانِ وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا. وروى أيضا: وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُكَبِّرُ فِي قُبَّتِهِ بِمِنًى، فَيَسْمَعُهُ أَهْلُ الْمَسْجِدِ، فَيُكَبِّرُونَ وَيُكَبِّرُ أَهْلُ اْلأَسْوَاقِ، حَتَّى تَرْتَجَّ مِنًى تَكْبِيرًا. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُكَبِّرُ بِمِنًى تِلْكَ اْلأَيَّامَ، وَخَلْفَ الصَّلَوَاتِ، وَعَلَى فِرَاشِهِ، وَفِي فُسْطَاطِهِ وَمَجْلِسِهِ وَمَمْشَاهُ تِلْكَ اْلأَيَّامَ جَمِيعًا. وَكَانَتْ مَيْمُونَةُ تُكَبِّرُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَكُنَّ النِّسَاءُ يُكَبِّرْنَ خَلْفَ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَيَالِيَ التَّشْرِيقِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْمَسْجِدِ. وحري بنا نحن المسلمون أن نحيي هذه السنة التي قد أضيعت في هذه الأزمان، وتكاد تُنسى حتى من أهل الصلاح والخير.
ومِن أعظمِ الأعمالِ التي يتأكدُ فعلُهَا في العشرِ الأولِ مِن ذي الحجةِ أداءُ فريضةِ الحجِّ، حيثُ يقولُ الحقُّ سبحانَهُ: {وللهِ على النّاسِ حِجُّ البيتِ مَن استطاعَ إليهِ سبيلَا} [ال عمران: 97]، والحجيجُ أهلٌ لإكرامِ اللهِ عزَّ وجلَّ ومغفرتهِ ورضوانهِ؛ فهم ضيفهُ وزوَّارهُ، إنْ دعوهُ أجابَهُم، وإنْ سألُوه أعطاهُم، وحقٌّ على المزورٍ أنْ يكرمَ زائرَهُ، يقولُ نبيُّنَا ﷺ:  «الحُجَّاجُ والعُمَّارُ وفدُ اللهِ ، إن دَعُوه أجابَهم ، وإنِ استغفرُوه غفرَ لهم» [11]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سَمِعْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ:  «مَن حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، ولَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَومِ ولَدَتْهُ أُمُّهُ»[12].
ومِن أعمالِ عشرِ ذي الحجةِ: الأضحيةُ، فهي قربةٌ لربِّنَا، وسنةُ نبيِّنَا ﷺ، وإحياءٌ لسنةِ أبِينَا إبراهيمَ عليه السلامُ، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله ﷺ في فضلِهَا:  «ما عمِلَ آدمِيٌّ مِن عمَلٍ يومَ النَّحرِ أحبَّ إلى اللهِ مِن إهراقِ الدَّمِ؛ إنَّها لتَأْتي يومَ القيامةِ بقُرونِها وأشعارِها وأظْلافِها، وإنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِن اللهِ بمكانٍ قبلَ أنْ يقَعَ مِن الأرضِ، فَطِيبوا بها نفسًا» [13]، وفي الأضحيةِ مِن معانِي التكافلِ والتراحمِ ما يؤكدُ على تقويةِ أواصرِ التقاربِ والتآلفِ بينَ أفرادِ المجتمعِ، بإصلاح ذات البين، وصلةِ الأرحامِ، وإطعامِ الفقراءِ وإغنائِهِم عن السؤالِ، حيثُ يقولُ الحقُّ سبحانَهُ في وصفِ الأبرارِ: {ويطعمُونَ الطعامَ على حُبهِ مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا}، ويقول الله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [الإسراء : 26]، ويقولُ نبيُّنَا ﷺ:  «وأطعمُوا الطعامَ، وصلُوا الأرحامَ، وصلُّوا بالليلٍ والناسُ نيامٌ تدخلُوا الجنةً بسلام» [14]، وعن عبدالله بن عمرو: أنَّ رَجُلًا سَأَلَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «أيُّ الإسْلَامِ خَيْرٌ؟ قالَ: تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وتَقْرَأُ السَّلَامَ علَى مَن عَرَفْتَ ومَن لَمْ تَعْرِفْ»[15]، ويقولُ عليه الصلاةُ والسلامُ:  «أحبُّ الأعمالِ إلى اللهِ سرورٌ تُدخلُهُ على مُسلمٍ، أو تكشفُ عنهُ كُربةً، أو تطردُ عنهُ جُوعًا، أو تقضِي عنهُ دينًا»[16].
الصيام من أجل الأعمال الصالحة، وهي مستحبة استحبابا شديدا، لاسيما التاسع منها، وهو يوم عرفة قال ابن رجب الحنبلي: "وممن كان يصوم العشر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. ويقول أكثر العلماء أو كثير منهم بفضل صيام هذه الأيام. ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ اْلأنْصَارِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ»[17]. يوم عرفة، لأنه على الصحيح أفضل أيام العشر المذكور، فيه ركن الحج العظيم قال النبي صلى الله عليه وسلم:  «الحج عرفة» [18]. فإن أراد أفضل أيام الأسبوع تعين يوم الجمعة، عن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:  «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة» [19]، وفيه كثرة العتق من النار في يوم عرفة قال النبي صلى الله عليه وسلم :  «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة» [20]، ومباهاة الله بأهل عرفة أهل السماء قال النبي صلى الله عليه وسلم:  «إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء» [21].
وخير الدعاء يوم عرفة قال النبي صلى الله عليه وسلم:  «خير الدعاء دعاء يوم عرفة» [22]، قال ابن عبد البر رحمه الله: "وفي ذلك دليل على فضل يوم عرفة على غيره". .
قيام الليل: قال ابن رجب الحنبلي: وأما قيام ليالي العشر فمستحب. وورد إجابة الدعاء فيها. واستحبه الشافعي وغيره من العلماء[23].
التوبة إلى الله: فعلينا استقبال هذه الأيام بأن نبرأ إلى الله تعالى من كل معصية كنا نعملها، والإقلاع عن كل ما نهى تعالى عنه. فإن الذنوب تحرم الإنسان فضل ربه، وتحجب القلب عن معرفة الله.
تجديد النية باغتنام هذه الأيام بما يرضي الله: فحري بالمسلم استقبال مواسم الخير عامة بالعزم الأكيد على اغتنامها بما يرضي الله تعالى. فلنحرص على اغتنام هذه الفرصة السانحة، قبل أن تفوت فلا ينفع الندم حينئذ.
هذا بالإضافة إلى الأعمال الفاضلة الثابتة الأخرى، مثل الحرص على الصلاة في جماعة، والحرص على الوقوف في الصف الأول في الجماعة، والحرص على الإكثار من الصدقة، والإكثار من قراءة القرآن، والإكثار من الدعاء في هذه الأيام.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج : 77]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب : 43]، فحريٌّ بِنَا أنْ نعرفَ لهذه الأيامِ فضلَهَا، ونقدرُ لهَا قدرَهَا، ونحرصُ على شكرِ اللهِ تعالى على بلوغِهَا، يقولُ الحقُّ سبحانَهُ: {اعملُوا آلَ داودَ شُكرًا} [سبأ:13].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-      (مجمع [10/234])
2-      (البخاري)
3-      (صحيح الجامع الصغير [1133]).
4-      (رواه أبو داود وصححه الألباني).
5-      ( مجموع فتاوى ابن تيمية، [25/154])
6-      ( فتح الباري بشرح صحيح البخاري [2/534] )
7-      (بدائع الفوائد، [3/660])
8-      (أخرجه البخاري [969] باختلاف يسير، وأبو داود [2438] واللفظ له)،
9-      (البخاري [7405]، ومسلم [2675] باختلاف يسير)
10-    (تخريج المسند [6154]).
11-    (السلسلة الصحيحة [4/434])
12-    (البخاري [1521])
13-    (الترمذي [1493] واللفظ له، وابن ماجه [3126])
14-    (صحيح الجامع [7865])
15-    (البخاري [12]، ومسلم [39] باختلاف يسير)
16-    (صحيح الترغيب [955]).
17-    (مسلم، [196/1162])؛ الترمذي [749]؛ ابن ماجه [1756]. وانظر جامع الأصول [4463]).
18-    (متفق عليه)
19-    (مسلم، [17/854]، [18/854]).
20-    (مسلم)
21-    (أحمد وصحح إسناده الألباني).
22-    (صححه الألباني في كتابه السلسة الصحيحة).
23-    ( لطائف المعارف، [524])