أتدرون من الجاهل؟ {إني أعظك أن تكون من الجاهلين}

إن هذا السؤال: أتدرون من الجاهل؟ يثير انتباهي بشدة خاصة عندما أقرأ تحذير الله عز وجل لنبيه محمد ونوح صلى الله عليهما وسلم،
فمن لديه بعض المعرفة بشيء يسمِّي نفسَه عالمًا، ويتعالى بذلك على غيره؛ بل يصل به الغرور ويخاطب الناس بخطاب التميُّز والزهو والفخار..

  • التصنيفات: الإسلام والعلم - - آفاق الشريعة -

{إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46]

إن هذا السؤال: أتدرون من الجاهل؟ يثير انتباهي بشدة خاصة عندما أقرأ تحذير الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام: 35]، وأيضًا لنوح عليه السلام: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46].

 

إذا كان هذا لرُسُل الله الذين يُوحى إليهم، فما نحن من ذلك؟!

الأمر جِدّ خطير؛ فمن لديه بعض المعرفة بشيء يسمِّي نفسَه عالمًا، ويتعالى بذلك على غيره؛ بل يصل به الغرور ويخاطب الناس بخطاب التميُّز والزهو والفخار، فما أدراك بمن يحصلون على أعلى الدرجات العلمية في الجامعات ومراكز البحوث: الماجستير والدكتوراه، ثم الوصول للأستاذية، بل والذين يحصلون على الجوائز العلمية المرموقة، كجوائز نوبل في التخصصات المختلفة!

 

وهناك من يُشار إليهم بالبنان على مستوى العالم، فإذا ذُكِر اسمُهم فقط ترد للأذهان ما هم عليه من علم وتميُّز فيه على مستوى العالم.

 

هل مثل هؤلاء ينتفي عنهم الجهل؟!

هيا بنا نبحث عن ذلك.

هل مَنْ درس علوم الذرة ومكوِّناتها والعلاقة بين عناصرها وخواصها، ثم سألته: مَنْ أوجد كل ذلك وجعل للذرة نظامًا دقيقًا محكمًا بقوانين تعمل بها هذه الذرة؟ تكون إجابته أن هذا لا يخضع للملاحظة والتجريب؛ ومن ثَمَّ فإن هذا ليس بعلم؛ لعدم خضوعه للملاحظة والتجريب، ومن ثم فهو ينكر أن وراء كل ذلك خالقًا ومنظِّمًا لعمل الذرَّات. ويعتبر أن مجرد التفكير في ذلك خرافات وجهل.

 

قل لي بربك: من الجاهل ومن العالم الآن؟!

وهكذا في كل العلوم، تجد من ينكرون وجود نظام كونيٍّ موحَّد، له قوانينه (السنن الكونية).

 

أيها المسلم، إن لهذا الوجود الذي نعيش فيه، والذي نحن قطعة منه- سننًا أصيلة يقوم عليها، هذه السنن هي القوانين الكونية التي أودعها الله هذا الكون ليسير وفقها، ويتحرك بموجبها، ويعمل بمقتضاها.

 

ومن هذه السنن أيضًا أن الإنسان يكتشف أطرافًا من هذه القوانين كلما ارتقى في سُلَّم التعليم والتعلُّم بمقدار يناسب إدراكه المحدود الذي أعطاه الله له بالقدر الذي يلزم لنهوضه بمهمته في الأرض، في أمد أجله المحدود.

 

ويعتمد الإنسان في معرفة هذه الأطراف من القوانين الكونية على الملاحظة والتجربة، وهما وسيلتان جزئيتان في طبيعتهما، وغير نهائيتين ولا مطلقتين في نتائجهما، ثم يظل هذا الكشف جزئيًّا غير نهائي ولا مطلقًا؛ لأن سر التناسق بين تلك القوانين كلها هو بأمر الله، هذا السر يظل خافيًا، لا تهتدي إليه الملاحظة والتجربة الجزئية النسبية، مهما طالت الآماد، والزمن ليس هو العنصر النهائي في هذا المجال؛ إنما هو الحد الذي قدره الله للإنسان ذاته، بحكم تكوينه، وبحكم دوره في الوجود، ومن ثم تبقى جميع وسائل المعرفة، وجميع النتائج التي يصل إليها البشر عن طريق هذه الوسائل، محصورة في تلك الدائرة الجزئية النسبية.

 

والذي لا يعرف ذلك، أوينكره، وبمعنى آخر يجهله، فهو جاهل.

 

ولقد شاءت الإرادة العليا أن تبعث بالرسل بين الحين والحين؛ رحمةً من الله بالبشرية لتصل البشرية بالحقيقة المطلقة التي ما كانت ملاحظتهم وتجربتهم لتبلغ إلى طرف منها إلا بعد مئات القرون، وما كانت لتبلغ إليها كلها أبدًا على مدار القرون.

 

إن قيمة هذا الاتصال هي استقامة خُطَى البشرية مع خُطَى الكون، واستقامة حركاتهم مع حركة الكون، واستقامة فطرتهم مع فطرة الكون، ومن هنا كان إدراك التوحيد الخالص لله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له.

 

{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}  [الأعراف: 54]، ومن ثم كان هنالك مصدر واحد يتلقَّى منه البشر التصوُّر الصادق الكامل الشامل لحقيقة الوجود كله ولحقيقة الوجود الإنساني، ولغاية الوجود كله وغاية الوجود الإنساني.

 

إننا نلمح من قول رسل الله للبشرية على مر الأزمنة أن هناك ما قد نجهله ونحن في حاجة للعلم به.

 

نجده مثلًا في حكاية قول نوح عليه السلام لقومه: {قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ * وَيَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [هود: 28- 29].

 

ونجده في قول صالح عليه السلام: {قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} [هود: 63].

 

ونجده في سيرة إبراهيم عليه السلام: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 80].

 

ونجده في قول شعيب عليه السلام: {قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

 

نجدها في قول يعقوب عليه السلام لبنيه: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يوسف: 86].

 

ومن هنا نحن في حاجة ماسَّة للقراءة الكونية بالبحث العلمي، والقراءة في كتاب الله الذي يوضح لنا ما لم نصل إليه بالبحث العلمي؛ حتى لا نكون من الجاهلين.

 

{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5].


إن قراءة ما أنزله الله من علم، وقراءة ما في الكون من أسرار الحياة والعمل بهما سويًّا - هو طريق تحقيق خلافة الإنسان في الأرض، وأي فصل بينهما لهو الضلال والانحراف عن المنهج السوي الذي أراده الله لنا.


رغم كل هذا تجد الكثير{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج: 8]، فهناك الذين يمارسون اللغو، ويشتغلون به، يخوضون في آيات الله بالتكذيب والطعن والاستهزاء، ويتحركون- في كلامهم - من مواقع الجهل الذي يتعمد الإثارة، ليخلق مشكلة، أو يثير فتنةً.

 

فهم لا يقفون عند حدود ما يجب، وما يلزم من الآداب، والأخلاق، والحقوق، والواجبات، وإنما يتجاوزون ذلك، فيفعلون ما لا يليق، ويصدر منهم ما لا يحسن ولا يجمل، هذا هو الجاهل، وليس المقصود به الذي لا يعلم، فقد يكون هذا الجاهل يعلم الحكم، ولكنه لا يقف عند حدود الله، فيظلم هذا، ويُسيء إلى هذا، ويقذف هذا، ويشتم هذا، فهذا جاهل، وهذا الذي عناه الله تبارك وتعالى بقوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]؛ لذلك علينا ألا نخوض مع الخائضين بجهلهم.

_________________________________________________

الكاتب: أ. د. فؤاد محمد موسى