جوامع البر والخير
إن من نعم الله جل وعلا وفضله على العباد التنوعَ في العبادات والقربات، ليجتهد المجتهدون، ويتنافس المتنافسون، وثمة آيات قرآنية مباركات من الجامعات لأنواع الخير والبر والطاعات...
- التصنيفات: القرآن وعلومه - التفسير -
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن من نعم الله جل وعلا وفضله على العباد التنوعَ في العبادات والقربات، ليجتهد المجتهدون، ويتنافس المتنافسون، وثمة آيات قرآنية مباركات من الجامعات لأنواع الخير والبر والطاعات، فالبر: هو اسمٌ جامع لكل خير وقربة وطاعة لله تبارك وتعالى ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وإن من هذه الآيات المباركات الجامعات التي اشتملت على أمور عظيمة، وعقيدة مستقيمة، وقواعد للدين نافعة عميمة، واحتوت لأنواع الْبِر كلها، قول الله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].
وإن عظيم مكانة هذه الآية أنها اشتملت أنواع البر كلها، ومن اتَّصف بها فقد أخذ بمجامع الخير كله، ودخل في عرى الإسلام كلها، وعلى رأسها الإيمان بالله تبارك وتعالى؛ قال الإمام ابن كثير ذاكراً وواصفًا لهذه الآية العظيمة: «وَقَالَ الثوْرِي: {وَلَكِن الْبِر مَنْ آمَنَ بِاللهِ} الْآيَةَ، قَالَ: هَذِهِ أَنْوَاعُ الْبِر كُلهَا. وَصَدَقَ رَحِمَهُ اللهُ؛ فَإِن مَنِ اتصَفَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَدْ دَخَلَ فِي عُرَى الْإِسْلَامِ كُلهَا، وَأَخَذَ بِمَجَامِعِ الْخَيْرِ كُلهِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللهِ، وَهُوَ أَنهُ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ، وَصَدقَ بِوُجُودِ الْمَلَائِكَةِ الذِينَ هُمْ سَفَرَةٌ بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ {وَالْكِتَابِ} وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ يَشْمَلُ الْكُتُبَ الْمُنَزلَةَ مِنَ السمَاءِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، حَتى خُتِمَتْ بِأَشْرَفِهَا، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْمُهَيْمِنُ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ، الذِي انْتَهَى إِلَيْهِ كُل خَيْرٍ، وَاشْتَمَلَ عَلَى كُل سَعَادَةٍ فِي الدنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَنَسَخَ [اللهُ](١٣) بِهِ كُل مَا سِوَاهُ مِنَ الْكُتُبِ قَبْلَهُ، وَآمَنَ بِأَنْبِيَاءِ اللهِ كُلهِمْ مِنْ أَولِهِمْ إِلَى خَاتَمِهِمْ مُحَمدٍ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِين»؛ قال الله تعالى: {لَيْسَ الْبِر أَنْ تُوَلوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}، أي: ليس هذا هو البر المقصود من العباد، فيكون كثرة البحث فيه والجدال من العناء الذي ليس تحته إلا الشقاق والخلاف، وهذا نظير حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليسَ الشدِيدُ بالصرَعَةِ، إنما الشدِيدُ الذي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَب» (أخرجه البخاري (٦١١٤)، ومسلم (٢٦٠٩)».
فليس الخير عند الله تعالى هو مجرد التوجه في الصلاة إلى جهة المشرق والمغرب إن لم يكن عن أمر الله جل وعلا وشرعه سبحانه وتعالى، {وَلَكِن الْبِر مَنْ آمَنَ بِاللهِ}؛ أي: ولكن الخير كل الخير فيمن آمن بالله تبارك وتعالى إلهًا واحدًا موصوفًا بكل صفة كمال، منزهًا عن كل نقص، وصدق به معبودًا وحده لا شريك له.
{وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}، أي: وآمن بيوم القيامة ويوم البعث والجزاء، وآمن بكل ما أخبر الله جل وعلا به في كتابه، أو أخبر به رسول صلى الله عليه وسلم، مما يكون بعد الموت.
{وَالْمَلَائِكَةِ}، أي: وآمن بجميع الملائكة الذين وصفهم الله جل وعلا لنا في كتابه، ووصفهم لنا رسوله صلى الله عليه وسلم.
{وَالْكِتَابِ} أي: وآمن بجميع الكتب التي أنزلها الله جل وعلا على رسوله صلى الله عليه وسلم، وأعظمها القرآن الكريم، فيؤمن بما تضمنه من الأخبار والأحكام.
{وَالنبِيينَ} أي: وآمن بجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جميعًا دون تفريقٍ بينهم، وأن أفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم.
{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبهِ} أي: وأنفق المال مع حبه له وحرصه عليه، ولا شك أن المال محبوب للنفوس، فلا يكاد يخرجه العبد، فمن أخرجه مع حبه له تقربًا إلى الله تعالى، كان هذا برهانًا على صدق إيمانه، ومن إيتاء المال على حبه أن يتصدق وهو صحيح شحيح، يأمُل الغنى، ويخشى الفقر، وكذلك إذا كانت الصدقة عن قلة، كانت أفضل؛ لأنه في هذه الحال يُحب إمساكه لِما يتوهَّمه من العدم والفقر، وكذلك إخراج النفيس من المال، وما يحبه من ماله؛ كما قال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِر حَتى تُنْفِقُوا مِما تُحِبونَ}، فكل هؤلاء ممن آتى المال على حبه.
{ذَوِي القُربَى} أي: ذوي القربى، ثم ذكر المنفَق عليهم، وهم أَوْلَى الناس ببرِّك وإحسانك من ذوي القرابة الذين تتوجَّع لمصابهم، وتفرح بسرورهم، فمن أحسن البر وأوفقه، تعاهد الأقارب بالإحسان إليهم، على حسب قربهم وحاجتهم، فالإحسان إليهم صلة وصدقة، ففي الحديث عن سلمان بن عامر الضبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصدَقةُ على المِسكينِ صَدَقةٌ، وهي على ذي القَرابةِ اثنتانِ: صِلةٌ، وصَدَقةٌ»؛ (أخرجه الترمذي (٦٥٨) مطولًا، والنسائي (٢٥٨٢) باختلاف يسير، وأحمد (١٦٢٢٧) واللفظ له، شعيب الأرنؤوط، تخريج المسند (١٦٢٢٧)، صحيح لغيره).
{وَاليتامى} أي: الذين فقدوا آباءهم دون سن البلوغ، وليس لهم قوة يستغنون بها؛ حيث لا كاسب لهم، وهذا من رحمته تعالى بالعباد، الدالة على أنه تعالى أرحم بهم من الوالد بولده، فالله جل وعلا قد أوصى العباد، وفرض عليهم في أموالهم الإحسان إلى من فُقد آباؤهم ومواساتهم بالمال، والإحسان إليهم من كل وجه.
{وَالْمَسَاكِين} أي: والمساكين الذين لا يملكون ما يكفيهم ويسدُّ حاجتهم، وهم الذين أسكنتهم الحاجة، وأذلَّهم الفقر، فلهم حقٌّ على الأغنياء، بما يدفع مسكنتهم أو يخفِّفها عنهم بما يقدرون عليه، وبما يتيسر لهم فعله.
{وَابْنَ السبِيلِ} أي: وابن السبيل وهو الغريب الذي انقطع في السفر عن أهله وماله ووطنه، فحث الله جل وعلا عباده على إعطائه من المال ما يعينه على سفره، لكونه مظنة الحاجة والنفقة، فعلى من أنعم الله تعالى عليه بوطنه وراحته، وخوَّله من نعمته أن ينفع أخاه غريب الديار والوطن على حسب استطاعته، وقدرته.
{وَالسائِلِينَ} أي: الذين اضطروا إلى سؤال الناس لشدة حاجتهم، نظرًا لأمر طارئ وحادث لهم.
{وَفِي الرقَابِ}، وأنفق وصرف المال في تحرير الرقاب من الرق والأسر، فيدخل فيه العتق والإعانة عليه، وبذل مال للمكاتب ليوفِّي سيده، وفداء الأسرى عند الكفار أو عند الظلمة.
{وَأَقَامَ الصلَاةَ} أي: وأقام الصلاة بالإتيان بها تامَّة على ما أمر الله تعالى، والذين يُوفون بعهدهم إذا عاهدوا.
{وَآتَى الزكَاةَ} أي: وأدى الزكاة المفروضة عليهم في أموالهم، والله تعالى يقرن بين الصلاة والزكاة في أكثر من موضع من كتابه الكريم، لكونهما أفضل العبادات، وأكمل القربات، فهي عبادات قلبية وبدنية ومالية، وبهما يوزن الإيمان، ويُعرف ما مع صاحبه من الإيقان.
{وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} العهد: هو الالتزام بإلزام الله جل وعلا أو إلزام العبد لنفسه، فدخل في ذلك حقوق الله تعالى كلها، لكون الله تبارك وتعالى ألزَم بها عباده والتزموها، ودخلوا تحت عهدتها، ووجب عليهم أداؤها، وحقوق العباد التي أوجبها الله تعالى عليهم، والحقوق التي التزمها العبد كالأيمان والنذور، ونحو ذلك.
{وَالصابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ} أي: الذين يصبرون على الفقر والشدة؛ لأن الفقير يحتاج إلى الصبر من وجوه كثيرة، لكونه يحصل له من الآلام القلبية والبدنية المستمرة ما لا يحصل لغيره، فإن تنعم الأغنياء بما لا يقدر عليه تألَّم، وإن جاع أو جاعت عياله تألَّم، وإن أكل طعامًا غير موافق لهواه تألَّم، وإن عرى أو كاد تألم، وإن نظر إلى ما بين يديه وما يتوهَّمه من المستقبل الذي يستعد له تألم، وإن أصابه البرد الذي لا يقدر على دفعه تألَّم، فكل هذه ونحوها مصائب يؤمر بالصبر عليها والاحتساب، ورجاء الثواب من الله تعالى عليها.
{وَالضراءِ} أي: المرض على اختلاف أنواعه؛ من حمى، وقروح، ورياح، ووجع عضو، حتى الضرس والإصبع، ونحو ذلك، فإنه يحتاج إلى الصبر على ذلك؛ لأن النفس تضعف، والبدن يألم، وذلك في غاية المشقة على النفوس، خصوصًا مع تطاول ذلك، فإنه يؤمر بالصبر احتسابًا لثواب الله تبارك وتعالى.
{وَحِينَ الْبَأْسِ} أي: وقت القتال للأعداء المأمور بقتالهم، وفي وقت شدة القتال فلا يَفِرون؛ لأن الجهاد فيه مشقة على النفس، ويجزع الإنسان من القتل، أو الجراح أو الأسر، فاحتيج إلى الصبر في ذلك احتسابًا ورجاءً لثواب الله تعالى الذي منه النصر والمعونة التي وعدها الصابرين.
{أُولَـئِكَ الذِينَ صَدَقُوا} أي: أولئك المتصفون بهذه الصفات من العقائد الحسنة هم الذين صدقوا الله جل وعلا في إيمانهم وأعمالهم؛ لأن أعمالهم صدَّقت إيمانهم، فالأعمال الصالحة التي هي آثار الإيمان، وبرهانه ونوره، والأخلاق التي هي جمال الإنسان وحقيقة الإنسانية.
{وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتقُونَ} أي: وأولئك هم المتقون الذين امتثلوا ما أمرهم الله جل وعلا به، واجتنبوا ما نهاهم الله جل وعلا عنه؛ لأن هذه الأمور مشتملة على كل خصال الخير تضمنًا ولزومًا؛ لأن الوفاء بالعهد يدخل فيه الدين كله، ولأن العبادات المنصوص عليها في هذه الآية أكبر العبادات، ومن قام بها كان بما سواها أقوم، فهؤلاء هم الأبرار الصادقون المتقون، وقد عُلم ما رتَّب الله جل وعلا على هذه الأمور من الثواب الدنيوي والأخروي.
هذا ما تيسَّر إيراده من تفسير لهذه الآية العظمية، نسأل الله العلي الأعلى أن يكون من العلم النافع والعمل الصالح، وفي الختام نسأل الله اللطيف الخبير أن يجعلنا من المؤمنين الصادقين، وكفى بالله تعالى وكيلًا ووليًّا ومؤيدًا وظهيرًا ونصيرًا، والحمد لله رب العالمين.
_______________________________________________________
المصادر والمراجع:
1- "جامع البيان عن تأويل آي القرآن" (تفسير الطبري)، للإمام محمد بن جرير الطبري.
2- "الجامع لأحكام القرآن"، (تفسير القرطبي)، للإمام محمد بن أحمد بن أبي بكر شمس الدين القرطبي.
3- "تفسير القرآن العظيم"، (تفسير ابن كثير)، للإمام عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير.
4- "معالم التنزيل" (تفسير البغوي)، للإمام أبي محمد الحسين بن مسعود البغوي.
5- "التسهيل لعلوم التنزيل"، أبو القاسم، محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله، ابن جزي الكلبي الغرناطي.
6- "فتح القدير"، للإمام محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني.
7- "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، الشيخ عبدالرحمن السعدي.
8- "التحرير والتنوير"، لمحمد الطاهر ابن عاشور.
9- "أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير"، الشيخ جابر بن موسى بن عبد القادر المعروف بأبي بكر الجزائري.
10- "المختصر في التفسير"، مركز تفسير.
11- "التفسير الميسر"، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف.
12- "الجامع المسند الصحيح المختصر من أُمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه"، الشهير باسم «صحيح البخاري»، للإمام محمد بن إسماعيل البخاري.
13- "صحيح مسلم"، للإمام مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري.
14- "مسند الإمام أحمد"، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني.
15- "سنن أبي داود"، سليمان بن الأشعث السجستاني.
16- "سنن الترمذي"، الحافظ أبو عيسى محمد الترمذي.
17- "السنن الكبرى"، لأبي عبدالرحمن أحمد بن شعيب بن علي النسائي.
18- "تخريج مسند الإمام أحمد بن حنبل"، شعيب الأرنؤوط.
_______________________________________________
الكاتب: د. كامل صبحي صلاح