فخ الأنسنة الصهيوني
الهوية الصهيونية للمشروع اليهودي هي غطاء سياسي لتقليص مساحات الافتراق بين الطوائف والإثنيات اليهودية؛ وتسخير مئات الآلاف من اليهود القادمين من شتات الأرض ليكونوا جنوداً للصهيونية ومشروعها القائم في فلسطين
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
تنحدر المنطقة العربية سريعاً نحو الفخ الذي نصبته الصهيونية منذ عقود بهدف توسيع دائرة نفوذها الجيوسياسي عبر مجموعة من المسارات، أولها التمكين من خلال المنظومة الدولية والدبلوماسية الغربية بأدواتها المختلفة، وبغضِّ النظر عن كون الصهيونية اتخذت المنظمات الدولية مساحاتِ عمل مفتوحةً لخدمة المشروع الصهيوني؛ إلا أن القائمين على المشروع الصهيوني برمَّته وضعوا أسساً عميقة الجذور لإنجاح مخططاتهم؛ ففي كتاب (الشعب اليهودي 2004: بين الازدهار والانحدار)، الصادر عن معهد تخطيط السياسة للشعب اليهودي، الذي يرأسه أحد أذرع الدبلوماسية الأمريكية في الشرق الأوسط ومبعوث واشنطن للسلام، اليهودي دينيس روس، يجري الحديث عن متغيرات كبيرة في الشرق الأوسط تتعلق بمصير اليهود وارتباطهم بمحيطهم، ليس في سياق سياسي يتم تأطيره ضمن اتفاقات سياسية تقيِّدها الجغرافيا السياسية في المنطقة، بل عن استثمار أنسنة الوجود اليهودي في المنطقة واستحضار التاريخ كأحد أذرع الاختراق للمنطقة، كما أوصى المعهد بأهمية التكنولوجيا باعتبارها أحد أهم عوامل السيطرة والتأثير.
ويؤكد التقرير - الذي ترجم أجزاءً منه مركز مدار للدراسات الإسرائيلية - أن القائمين على المعهد الذي يُعدُّ أحد أدوات الوكالة اليهودية في العالم، يشدِّدون على أهمية إبراز «الأصولية الإسلامية بصفتها بديلاً للقومية العربية المناهضة لإسرائيل واليهود»، فهم يجدون في هذا التأطير عنواناً لامعاً لدق طبول معاداة السامية، فالأصولية الإسلامية - على حد زعمهم - «مرادف لكلمتي العرب والمسلمين»، وهي بذلك تمثل حضارة المسلمين. ويظهر التقرير ارتياحاً واسعاً لدى القائمين على المشروع الصهيوني من الهجوم الأمريكي على العراق ويصفون ذلك بــ «العمل» الأمريكي في العراق، كما يرون في ذلك مقدمة للسيطرة على «النفط العربي» ويبررون ذلك بقولهم: «إن السيطرة العربية على مصادر النفط تعيق التأثير العالمي للولايات المتحدة، ومكاسب الصهيونية من وراء ذلك».
الهوية الصهيونية للمشروع اليهودي هي غطاء سياسي لتقليص مساحات الافتراق بين الطوائف والإثنيات اليهودية؛ وتسخير مئات الآلاف من اليهود القادمين من شتات الأرض ليكونوا جنوداً للصهيونية ومشروعها القائم في فلسطين، لذلك كان يطلق القائمون على الحركة الصهيونية على حقبة الاحتلال البريطاني لفلسطين بــ (اليشوف)، وهي عملياً مرحلة التأسيس للفكر الصهيوني وتحويل اليهودي القادم إلى فلسطين المحتلة إلى جندي لخدمة المشروع القومي الصهيوني، لذلك حولت هذه الحقبة المعلم اليهودي ليكون صاحب مكانة مركزية في بلورة شخصية المجتمع الاستيطاني في بدايات الحركة الاستيطانية الصهيونية، وركَّزت في تلك الحقبة على اللغة العبرية ودراسات التوراة والتاريخ اليهودي والجغرافيا الفلسطينية؛ فقد أسس الكاتب العبري آحاد هعام عام 1889م جميعة (أبناء موسى)، ورغم تنوع مشارب قدوم اليهود إلا أن الصندوق القومي اليهودي نجح في أن يسيطر على أدلجة الرأي العام اليهودي من خلال منح مزيد من الامتيازات لمن يلتزم بمعتقدات الحركة الصهيونية.
لذلك حينما هاجر اليهود من الدول العربية إلى فلسطين المحتلة بدافع الاستيطان كان محفِّزهم الأول هو الحوافز التي كان يمنحها الصندوق اليهودي للمستوطنين الصهاينة شريطة أن يُثبِتوا صهيونيتهم، لذلك وبحسب ما نقلته صحيفة هآرتس العبرية، فإن رئيس الحكومة الأسبق دافيد بن غوريون كان يرفض طرح ملف اليهود العرب بصفتهم لاجئين لمبرِّر وحيد هو ترويجه لرغبتهم بالهجرة انطلاقاً من دوافع صهيونية. لذلك تقول الصحيفة: إن الدراسات التاريخية تؤكد أن معظم اليهود الذين هاجروا من الدول العربية وخاصة من المغرب والعراق واليمن، وانضموا إلى المشروع الصهيوني، قاموا بذلك بموجب اتفاقات سرية بين (إسرائيل والدول العربية) رغم رفض بعض الدول العربية في البداية خروجَهم.
تقول وثيقة لمجلس الأمن القومي الصهيوني: «إن عدد اليهود من الدول العربية بلغ بين الأعوام 1948 - 1968م حوالي 800 ألف»، في حين ترفض روايات أخرى هذا الرقم، كذلك لا يوجد إحصائيات عربية رسمية متوفرة حول مثل هذه الأرقام، لذلك تستخدم سلطات الاحتلال نفوذها في المنظمات الدولية لشرعنة أرقامها تمهيداً لاستصدار قرارات أممية ملزمة للدول العربية بشأن مشروع تعويضات مالية للكيان الصهيوني، فمنذ عام 2009م تعمل المنظمات الصهيونية المختلفة بقرار من رئيس الوزراء السابق، بنيامين نتنياهو، لانتزاع اعتراف من الأمم المتحدة بهذا الخصوص.
يقول عالِم الاجتماع الصهيوني، البروفسور يهودا شنهاف - وهو أحد مؤسسي (القوس الديمقراطي الشرقي) -: إن الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، كان أول من أطلق فكرة الاعتراف باليهود الذين هاجروا من الدول العربية إلى إسرائيل بأنهم (لاجئون)، وذلك من خلال مقابلة أجرتها معه القناة الأولى للتلفزيون الصهيوني، في شهر يوليو من عام 2000م. يضيف شنهاف: إن أحد الدوافع التي جعلت الحكومة الصهيونية تتردد في طرح هذا المشروع سابقاً هو أنهم كانوا بحاجة لصياغة رواية جديدة تنفي التطلعات الصهيونية التي جاء من أجلها اليهود الشرقيون، وهذا الأمر ينسف الرواية الصهيونية كلها.
وأوضح شنهاف أن مِن شواهد تواطئ الدول العربية في هذا المشروع (عملية عزرا ونحميا)، التي وقَّع خلالها عميل الموساد شلومو هيلل بأمر من بن غوريون على اتفاق مع العراق في بغداد في عام 1950م، يقضي بالسماح بهجرة يهود العراق إلى فلسطين المحتلة، إلا أن العراق رفض في البداية لكن بعد ضغط صهيوني وافق مقابل تنازل اليهود عن جنسيتهم وأملاكهم.
أحد الشواهد على أكاذيب الصهيونية التي يجري حالياً توريط الدبلوماسية العربية بها، ما صرَّح به عضو الكنيست ران كوهين، من حزب ميرتس، الذي صرح قائلاً: أُعلن أنني لست لاجئاً، لقد جئت بدافع الصهيونية، وقوة جذب هذه البلاد وفكرة الخلاص. ولن أسمح لأحد بأن يعرِّفني بأني لاجئ». كذلك عميل الموساد، شلومو هيلل، الذي قال: «لقد قدِموا لأنهم أرادوا القدوم، بصفتهم صهاينة».
وفي عام 1949م رفضت سلطات الاحتلال اقتراحاً (بريطانياً - عراقياً) لتبادل السكان؛ أي: يهود عراقيون مقابل لاجئين فلسطينيين، خوفاً من أن تضطر إلى الاهتمام بتوطين فائض اللاجئين في فلسطين المحتلة.
يقول الشاعر والناقد الأدبي الصهيوني ألموغ بيهار في صفحته على (فيسبوك) تعقيباً على حملة الكيان الصهيوني المطالِبة بالاعتراف بيهود الدول العربية أنهم لاجئون: «نطلب الاعتراف باليهود الأشكناز بأنهم لاجئون أيضاً، من أجل ألَّا يفكروا بأن يرسلوا إلينا شرطة وحدة عوز المؤدبين»، علماً أن أفراد هذه الوحدة، التابعة لسلطة الهجرة الصهيونية تلاحق اللاجئين في الكيان الصهيوني، وتتعامل مع اللاجئين الأفارقة مؤخراً بقسوة شديدة.
المحنة الحقيقية العربية في هذا الملف هي أن النظام السياسي العربي بما في ذلك الجامعة العربية، ليس لديهم أي تحرك رسمي لتقويض هذا المشروع. الأمر الآخر هو أن غلعاد أردان - وهو سياسي وعسكري يهودي متطرف، ممثل الكيان الصهيوني في الأمم المتحدة أحد أبرز خريجي مدرسة التخطيط الصهيوني، كما وصفه الباحث الفلسطيني المتخصص في الشأن الصهيوني توفيق أبو شومر - يسعى لما هو أكثر من إلغاء القرار الأممي السابق الخاص باللاجئين الفلسطينيين؛ فقد صرح في يونيو الماضي لصحيفة (إسرائيل هايوم) بأنه يجب على الأمم المتحدة أن تعترف باليهود (اللاجئين) من العالم العربي وإيران، وأن تعاملهم كما تعامل قضية اللاجئين الفلسطينيين، وأن تعوضهم عن ممتلكاتهم التي تقدَّر بمئة وخمسين مليار دولار!
وأضاف أردان: «أصبح لهذا الملف أولوية في كل المفاوضات بيننا وبين الدول العربية، بخاصة بعد اتفاقية أبراهام، وسنقوم في يوم التضامن الدولي مع اللاجئين الفلسطينيين يوم 29/ 11/ 2022م بعقد مؤتمرات ومسيرات لإرغام الأمم المتحدة على الاعتراف بحق اللاجئين اليهود في المعاملة بالمثل»!
أردان هذا، أحد العاملين الفاعلين في المشروع الصهيوني وهو يؤدي مهمة متوازية مع مهمة داني دانون الذي انتُخب (سراً) عام 2016م ليرأس اللجنة القانونية للأمم المتحدة.
ينقل ناثان وينستوك - وهو راديكالي يهودي مناهض لفكرة الصهيونية، وأحد أبرز المؤلفين الصهاينة المتخصصين بدراسة اليهود العرب - عن إدوارد سعيد في أحد كتبه، قوله بأنه لا توجد إشارات جادة بشأن «هجرة جماعية لليهود من الدول العربية أو أسباب لها، ويؤكد أن هذا الملف تم التلاعب به كثيراً بفضل العلاقة الفاسدة بين قيادات صهيونية وبين بعضِ الزعماء الفاسدين في اليمن والعراق، لذلك تم ترحيل اليهود إلى فلسطين بجواز مرور فقط! ويتساءل وينستوك قائلاً: «لنفترض أن الأمور كانت سيئة بالنسبة لهم، لكن لماذا لم يتم منحهم جوازات سفر تسمح لهم باختيار وجهة الهجرة؟ كذلك يهود المغرب الذين لم يُسمَح لهم بالمغادرة بعد استقلال المغرب، فقد سمح لهم فقط بعد أن تدخلت الصهيونية للضغط على الحكومة المغربية من خلال الإدارة الأمريكية بعد عام 1956م». ويضيف الأكاديمي اليهودي: «إن الموساد لعب دوراً هاماً في تهجير اليهود العرب من خلال عمليات سرية كان يديرها بهدف تحريض المسلمين ضد اليهود، فقد تم إلقاء قنابل على كنيس يهودي في بغداد، ورسم شعارات معادية لليهودية بالفرنسية في متاجر يمتلكها يهود، إن حياة اليهود في بلاد العرب لم تكن جنة لكنها لم تكن لتقارن بالجحيم الذي كانوا يعيشونه في أوروبا، فقد رحلوا إلى إسرائيل طمعاً في وطن قومي صهيوني».