لتكن أول واحد !
منصور بن محمد المقرن
فأما احتقار النفس فلنا في حَبْر الأمة عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أسوة حسنة؛ حيث لم يمنعه قِصر صحبته للرسول ولا صغر سنه أن يُدلي برأيه في مجلس به أكابر الصحابة. *
- التصنيفات: قضايا إسلامية -
يقوم عدد من المراكز العلمية والباحثين بتقليب صفحات التاريخ، ومتابعة الأخبار اليومية لمعرفة الأشخاص الأوائل في كل علم وفن ، فيحرصون على معرفة من أول من اكتشف كذا ، وأول من قال كذا ، وأول من فعل كذا ، ونحو ذلك .
والناس عموماً مشغوفون بالتقارير والكتب والأبحاث التي تتحدث عن الأوائل ، فلا يكادون يعرفون شيئاً عنهم حتى يبادروا بالحديث عنهم في مجالسهم وملتقياتهم . إلا أن الغريب والعجيب في الأمر هو ندرة من يسعى ويجتهد لأن يكون من الأوائل أنفسهم ، فيبادر إلى أمر صالح لم يسبقه إليه أحد ، ويسارع إلى إنجاز لم يبلغه غيره ، أو يأتي بفكرة جديدة ينتفع بها خلق كثير .
وفي الشرع الحنيف نصوص كثيرة تحث على ذلك وتشوق النفوس إليه :-
فمنها : قول الرسول : " «مَن سنّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده مِن غير أن ينقص من أجورهم شيئا» " وهذا الحديث بشارة نبوية ومنحة ربانية لمن بادر إلى الأعمال النافعة غير المسبوقة . وسبب هذا القول النبوي أن قوماً من مضر جاءوا الرسول وقد بلغ بهم الفقر والجهد مبلغه فسألوه العون، فقام عليه الصلاة والسلام خطيباً يدعو الناس للصدقة، فكان أول من قام رجل يحمل بين يديه صرة كادت كفيه تعجز عن حملها، ثم تتابع الناس على أثر ذلك المشهد المحفز.
قال الإمام النووي عند شرحه لهذا الحديث "فيه الحث على الابتداء بالخيرات وسن السنن الحسنات ... وسبب هذا الكلام في هذا الحديث أنه قال في أوله : فجاء رجل بصرة كادت كفه تعجز عنها فتتابع الناس. وكان الفضل العظيم للبادئ بهذا الخير، والفاتح لباب هذا الإحسان"
ومنها : ما ورد عن بعض الأنبياء من سرورهم واغتباطهم بأن جعلهم الله تعالى من الأوائل في الخير، فهذا يونس عليه السلام لما التقمه الحوت ظنّ أنه قد مات، ثم حرّك رجليه، فلما تحركت سجد مكانه، ثم نادى : "يا ربّ اتخذت لك مسجداً في موضع لم يبلغه أحد من الناس" فقد عدَّ عليه السلام سجوده في بطن الحوت سَبْقاً على الناس جميعاً .
وهذا نبينا محمد يذكر نحواً من ذلك فيقول "أنا أول من يُؤذَن له بالسجود يوم القيامة ، وأنا أول من يُؤذَن له أن يرفع رأسه ... الحديث " وقال أيضاً " أنا سيّد ولد آدم، وأول من تنشق عنه الأرض وأول شافع وأول مُشفّع".
ومنها : توسل الصالحين إلى الله تعالى بكونهم من الأوائل في الخير ، فهؤلاء سحرة فرعون لما أسلموا وتوعدهم فرعون بالقتل قالوا " {لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون ، إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أوّل المؤمنين} " فهُم رضي الله عنهم لما فعلوا ما فعلوا من ممارسة السحر وتسخيره في دعم طغيان فرعون طمعوا أن يغفر الله لهم ذلك كله بكونهم أول من آمن بموسى عليه السلام.
ومنها : أن الرسول قد رتّب أجراً أكثر لمن يعمل عملاً ينجح فيه من أول مرة عمّن ينجح فيه في المرة الثانية وما بعدها، فقال "من قتل وزغة في أول ضربة فله كذا وكذا حسنة، ومن قتلها في الضربة الثانية فله كذا وكذا حسنة لدون الأولى، وإن قتلها في الضربة الثالثة فله كذا وكذا حسنة لدون الثانية " قال النووي رحمه الله "وأما سبب تكثير الثواب في قتله بأول ضربه ثم ما يليها فالمقصود به الحث على المبادرة بقتله والاعتناء به ، وتحريض قاتله على أن يقتله بأول ضربه ، فإنه إن يضربه ضربات ربما انفلت وفات قتله" فإذا كانت المبادرة إلى قتل حيوان صغير بسرعة وبدقة -حتى لا يفوت - عليها أجر، فكم فات الدعاة من الأجور بضعف المبادرة للمشاريع والأعمال الخيرية ؟ *
ومنها : أن الرسول قد أوجب الجنة لأول من يغزو في البحر ، وكذلك لأول من يغزو مدينة قيصر فقال في الحديث الصحيح "أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا – ثم قال – أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم" ويظهر – والله أعلم – أن من الأسباب التي أوجبت لهم الجنة هو ما في مبادرتهم من تضحية عظيمة ومخاطرة جسيمة حيث لم يسبق لأحد من المسلمين أن ركب البحر للغزو ، ومعلومة أهوال البحر ووحشته لمن ركبه مسافراً آمناً فكيف بمن ركبه ليحارب عدوه فيه.
كذلك لم يسبق لأحد من المسلمين أن غزا الروم في عقر دارهم، ولا يخفى قوة الروم آنذاك عند قتالهم في أطراف ثغورهم فكيف بمن يقاتلهم عند عاصمتهم.
ولذلك ففارق كبير جداً بين من يبادر لعمل غير مسبوق كثير الأعباء والتبعات وبين من ينتظر نتائج تلك المبادرة فإذا رأى نجاحها لحق بأهلها ليشاركهم الأجر ، وقد قال الله تعالى {"لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل ، أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا } " وهنا تعليق جميل لصاحب الظلال –رحمه الله-يحسن ذكره حيث يقول " إن الذي ينفق ويقاتل والعقيدة مطاردة ، والأنصار قِلة ، وليس في الأفق ظل منفعة ولا سلطان ولا رخاء .. غير الذي ينفق ويقاتل والعقيدة آمنة ، والأنصار كثرة ، والنصر والغلبة والفوز قريبة المنال. ذلك مُتعلِق مباشرة بالله، متجرداً تجرداً كاملاً لا شبهة فيه، عميق الثقة والطمأنينة بالله وحده، بعيدٌ عن كل سبب ظاهر وكل واقع قريب، لا يجد على الخير عوناً إلا ما يستمد مباشرة من عقيدته" *
ومنها : إظهار تعظيم الله تعالى لأماكن مخصوصة بكونها أول ما بني للعبادة، فقد قال تعالى عن الكعبة المشرفة "إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين" وذكر سبحانه أن أحق المساجد أن يقوم فيه نبيه هو أول مسجد أسسه عند دخوله المدينة فقال سبحانه "لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه"
فسبحان الله! حتى البقاع يزداد شرفها بكونها من الأوائل .
ولما كان هذا فضل المبادرة إلى الأعمال غير المسبوقة ، كان للصحابة – رضوان الله عليهم – النصيب الأوفر من ذلك ، فأبو بكر أول من أسلم من الرجال وأول خطيب دعا إلى الله تعالى جهاراً في مكة وأول من جمع القرآن، وعمر الفاروق أول من أرَّخ من الهجرة، وأول من وضع الديوان، وعثمان ذو النورين أول من هاجر بأهله من المسلمين وغيرهم كثير ..
بل قد كان بعض الصحابة يفرح أنه من الأوائل ويُحدِّث بذلك، فهذا أبو ذر رضي الله عنه يقول في قصة إسلامه "فلما قضى رسول الله صلاته قلت : السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فكنت أول من حيَّاه بتحية الإسلام"
وهذا عبدالله بن الحارث رضي الله عنه يقول "أنا أول من سمع النبي يقول لا يبول أحدكم مستقبل القبلة ، وأنا أول من حدَّث الناس بذلك" .
وأخيراً .. فإن من أعظم ما يدفع للمبادرة إلى الأعمال النافعة غير المسبوقة ؛ العلم بفضلها وأجرها وأثرها ، وقد سبقت الإشارة لطرف من ذلك ، ثم عدم احتقار النفس باعتقاد أنها لا تقدر، أو احتقار العمل المراد إنجازه وأنه لا يستحق أن يُـبادر إليه.
فأما احتقار النفس فلنا في حَبْر الأمة عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أسوة حسنة؛ حيث لم يمنعه قِصر صحبته للرسول ولا صغر سنه أن يُدلي برأيه في مجلس به أكابر الصحابة. *
وأما عدم احتقار العمل المراد إنجازه ففي توجيه الرسول كفاية عندما قال : "لا تحقرن من المعروف شيئاً" وفي رواية لأحمد "لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تعطي صلة الحبل ، ولو أن تعطي شسع النعل، ولو أن تنزع من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تُنحي الشيء من طريق الناس يؤذيهم، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منطلق، ولو أن تلقى أخاك فتسلم عليه، ولو أن تؤنس الوحشان في الأرض"
وختاماً .. فإن حاجة العبد لكل حسنة، وحاجة الأمة لكل جهد، تدفعان إلى المبادرة إلى أعمال الخير غير المسبوقة مهما كانت صغيرة.
كتبه / منصور بن محمد الـمقرن -