وفي مرور الأيام عبرة
محمد بن إبراهيم السبر
أصحاب العقول السليمة والبصائر النَّيِّرة، الذين يدركون حكمة الله تعالى في خلق الليل والنهار والشمس والقمر، وتعاقب الشهور والأعوام، وتوالي الليالي والأيام...
- التصنيفات: - آفاق الشريعة -
الحمد لله خلق الليل والنهار، وقدَّرَهما مواقيتَ للأعمال والأعمار، لا إله إلا هو، جعلَ في مرور الأيام والليالي عِبَرًا لأهل هذه الدار، أحمده سبحانه وأشكره على عظيم آلائه، والشكرُ سبيلٌ للمزيد والاستِكثار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً خالصةً مُخلِصة بصدق المُعتقَد وصحةِ الإقرار، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدالله ورسوله النبيُّ المُصطفى المُختار، صلَّى الله وسلَم وبارَك عليه وعلى آله السادة الأطهار، وأصحابه البَرَرَة الأخيار، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما تعاقبَ الليلُ والنهار، وسلم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله: {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18].
إن من آيات الله الكونية الدالة على كمال علمه وقدرته، وتمام حكمته ورحمته، اختلاف الليل والنهار، وتعاقبهما، واختلافهما؛ كما قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]، وقال تعالى: {إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} [يونس: 6]، وقال تعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [النور: 44].
وأصحاب العقول السليمة والبصائر النَّيِّرة، الذين يدركون حكمة الله تعالى في خلق الليل والنهار والشمس والقمر، وتعاقب الشهور والأعوام، وتوالي الليالي والأيام.
إن الله تعالى جعل الليل والنهار خزائنَ للأعمال ومراحل للآجال، إذا ذهب أحدهما خَلَفَهُ الآخر؛ وذلك لإنهاض همم العاملين إلى الخيرات، وتنشيطهم على الطاعات؛ قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62].
فعلى المؤمن أن يأخذ العبرة من مرور الليالي والأيام، فإن الليل والنهار يُبليان كل جديد، ويقرِّبان كل بعيد، ويطويان الأعمار، ويُشيِّبان الصغير، ويُفنيان الكبير، وكل يوم يمر بالإنسان، فإنه يبعده من الدنيا ويقرِّبه من الآخرة.
والليل فاعلم والنهار كلاهما *** أَنْفَاسُنا فيها تُعَدُّ وَتُحْسَبُ
ونحن في هذه الأيام نودِّع عامًا ماضيًا شهيدًا، ونستقبل عامًا مقبلًا جديدًا، حري بنا أن نحاسب أنفسنا دومًا، فمن كان مفرطًا في شيء من الواجبات، فعليه أن يتوب ويتدارك ما فات، وإن كان ظالِمًا لنفسه بارتكاب ما نهى الله ورسوله عنه، فعليه أن يقلع قبل حلول الأجل، ومَنْ وفقه الله للاستقامة فليحمد الله على ذلك، وليسأله الثبات إلى الممات؛ قال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنوها قبل أن توزنوا، وتزيَّنوا للعرض الأكبر؛ {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 18].
المحاسبة تزكي النفس وتطهرها، وتلزمها أَمْر ربها، فيفلح صاحبها ويفوز برحمة الله ورضوانه؛ قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9، 10].
وهذه المحاسبة ليست مقصورة على نهاية العام أو بدايته، بل هي مطلوبة كل وقت وأوان، فمن لازَمَ محاسبة النفس، استقامت أحواله، وصلحت أعماله، ومن غفل عن ذلك، ساءت أحواله، وفسدت أعماله.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((أخذ رسول الله بِمَنْكِبيَّ، فقال: «كُنْ في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل»، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك))؛ (أخرجه البخاري).
فلا بد للعاقل من اغتنام الأوقات، وقِصَرِ الأمل، وتقديم التوبة والاستعداد للموت، وعدم الاغترار بالدنيا؛ وذلك أن الدنيا فانية، مهما طال عمر الإنسان فيها، فهي دار ممر لا دار مقر، وكل نفس ذائقة الموت، وهذه حقيقة مشاهَدة، نراها كلَّ يوم وليلة، ونحس بها كلَّ ساعة ولحظة، وإذا كان الإنسان لا يدري متى ينتهي أجله ويأتيه الموت، فعليه أن يستعد للرحيل، وأن يكون عابرَ سبيل، فلا يركن إلى الدنيا ولا يتعلق بها، ولا يتخذها وطنًا ولا تحدثه نفسه بالبقاء فيها، فلا يتعلق منها إلا بما يتعلق به الغريب في غير وطنه الذي سيفارقه مهما تكن راحته وهناؤه، وأن يكون فيها كالمسافر الذي يكتفي بسفره بالقليل الذي يساعده على بلوغ غايته، وتحقيق مقصده.