عقال العقول
مِن أظهَر صُوَر هذا التفضيل، وذلكم التكريم: ما امْتَنَّ ربُّنا تبارك وتعالى به على البشَر مِن نعمة العقل، وميزة الفكر، مما جعَل الجنْس البشريَّ محلًّا للتكليف، وأَهلًا للقيام بما أناطه الله تعالى به مِن الخلافة في الأرض...
- التصنيفات: - آفاق الشريعة -
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعد:
قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70].
ومِن أظهَر صُوَر هذا التفضيل، وذلكم التكريم: ما امْتَنَّ ربُّنا تبارك وتعالى به على البشَر مِن نعمة العقل، وميزة الفكر، مما جعَل الجنْس البشريَّ محلًّا للتكليف، وأَهلًا للقيام بما أناطه الله تعالى به مِن الخلافة في الأرض؛ {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].
ومِن أعجبِ العجبِ أن يَنْصِب العبدُ عقله - الذي هو مَحْض فضل الله تعالى عليه - نِدًّا لله تعالى في الأحكام والأخبار، وأن يجعل مِن تلك المُضْغة المخلوقة حَكَمًا على ما يَرِدُ إليها مِن أوامرِ مَنْ أودعها في جسده.
لكل داءٍ دواءٌ يُسْتَطَبُّ به ♦♦♦ إلا الحماقة أَعْيَتْ مَن يُداويها
ولو شَرَعْنا في سَرْد الأدلة الشرعية على وجوب الامتثال لأحكام الله تعالى أمْرًا ونْهيًا، وبَسْط الحُجَج العقلية على وُفُور عقول المُمْتَثِلين لها، وفساد أَدْمِغَة مَن سِواهم؛ لسَوَّدْنا طوال الصفحات، وزَيَّنَّاها بحكيم الآيات، وشريف الألفاظ النبويَّات، ولكني آثرتُ سَوْقَ صُوَرٍ مُثْلَى للخضوع والانقياد، يُسْتَدلُّ بوقوعها - مع سامق ارتقائها، وعظيم سُمُوِّها - على واقعية ما دُونها، ويُسْرِهِ، نسأل الله أن ينفع بها.
الصورة الأولى:
روى البخاري في صحيحه، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أول ما اتخذ النساء المنطق من قِبل أمِّ إسماعيل، اتخذت منطقًا؛ لتُعْفي أثرها على سارَّة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتى وضعها عند البيت، عند دَوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحدٌ، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جِرابًا فيه تمر، وسِقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقًا، فتبعتْه أمُّ إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يَتلفَّت إليها، فقالت له: آلله الذي أمَرَك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذًا لا يضيِّعنا، ثم رجعَت، فانطلق إبراهيم) الحديث.
فيا له مِن خضوع ما أَعْظمَه، وانقياد ما أطْوَعه! يترك الرجلُ الرقيقُ الشفيقُ أهلَه وثمرةَ فؤاده في صحراء مُقْفِرة مُوحِشةٍ دون توانٍ ولا تلكُّؤ، وتسكن المرأة مِن بعد اضطراب، ويطمئنُّ قلبُها مِن بعد وَجَل حين علمتْ أنَّ الأمر بذلك قد جاء مِن الله، ولا تزيد على قولها: إذًا لا يُضيِّعنا، ثم تعود مكانها، وكأن شيئًا لم يكُن، فلله دَرُّها مِن مُذْعِنة مُنقادة.
الصورة الثانية:
قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 99 - 107].
فانظر لخليل الرحمن عليه السلام؛ كيف امتَثَل لأمْر الله تعالى بذبْح فِلْذة كبده، الذي رزقه الله تعالى إياه على الكبَر بعد طُول انتظار؟ وما أُمِرَ بذبحه إلا بعد بُلوغ السَّعْي، حين يُصبح الولد مُتَكَئًا لأبيه، وعَضُدًا، فما تردَّد الخليل عليه السلام ولا تلعْثم، ولا أرجأ تنفيذ الأمر ولا سَوَّف، بل بادر وبَكَّر، وشَمَّر عن ساعد الإذعان لربه واتَّزَر.
ولم يكن قوله: {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} مِن باب المشاوَرة في أمر الله تعالى، ليرجع إلى رأيه، وإنما شاوَرَه لِيعلم صبرَه لأمْر الله، أو لتَقَرَّ عينُه إذا رأى مِن ابنِه طاعة في أمْر الله، ولتحصل لإسماعيل عليه السلام بالرضى والامتثال مرتبة بَذْل نفسه في إرضاء الله تعالى، وهو لا يرجو مِن ابنه إلا القبول؛ لأنه أعلم بصلاحه[1]، فأجابه إسماعيل عليه السلام بأحسَن جواب: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}؛ فامتثل إسماعيل عليه السلام كما امتثل والدُه الخليل عليه السلام، كما قال تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا}، فسلام عليهما في الآخرين.
الصورة الثالثة:
قال الله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7].
وهذه صورة لا يفهمها المفتُونُون بعقولهم، الناصبون لها على الشرع قاضيًا وحَكَمًا، فكيف يُؤمر الخائف على ولده الرضيع بإلقائه في اليَمِّ الذي قد يَعجز بعضُ فحولِ الرجال عن مُكابدة مَشَاقِّه إنْ سقط فيه، أو أُسقط؟
وكيف يكون في ذلكم الإلقاء حفظٌ للرضيع مِن سيوف جند فرعون، وتسكينٌ لما في قلب الأم من المخاوف؟
إن الأسئلة آنفة الذكْر لا مَحِلَّ لها في قلوب المُسْتَسْلِمين لربِّهم، ولا موقع؛ لأنهم يوقنون بعظيم قُدرة الله تعالى، وجليل حكْمته، وواسع علمه، وكبير رحمته ولُطفه بعباده، إلا أن يكون طَرْحُ الأسئلة مِن باب التأمُّل في عظيم امتنان الله تعالى على موسى عليه السلام وأمِّه، والتَّبَصُّر مما في ذلك الموقف المَهيب مِن حِكَم لا تُحْصى، ودروس لا تَبْلى {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 37 - 39].
الصورة الرابعة:
{فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 22 - 26].
موقف يحتاج إلى طويلِ تأمُّل؛ لِنستنشِق عبيرَ رحمة الله تعالى بأوليائه الصالحين، وعباده المتَّقين؛ ولكنا نريد الوقوف على محلِّ الشاهد لموضوع المقال مِن الآيات، وهو قوله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا}.
إنَّ مريم عليها السلام لم تؤمر بهَزِّ شجرة فاكهة دقيقة الغُصْن، بل أُمرَت بهَزِّ نخلة صلبة الجِذْع، يعجز الجَلْدُ مِن الرجال عن تحريكها، فكيف بامرأة ضعيفة عانت غُصَص المَخاض، وكابدَت آلامَ الوَضْع؟!
إنَّ الآيات الكريمات لم تَذكُر لنا قيام مريم عليها السلام بهَزِّ الجِذْع، وتناوُل الرُّطب، ولكنا على يقين بأن ذلك قد وقع، وبأنَّ مريم القانتة لأمْر ربِّها لم تَكِل فَهْم ذلك الأمْر إلى عقلها، بل امتثلتْ وخَضَعت، وأُكرمَت بخَرْق العادة لها كما وُعِدَت، وقَرَّت عينُها وأكلَت وشَرِبَت، وإنما يُجازى المُحْسِنون بالإحسان.
الصورة الخامسة:
أخرج الشيخان في صحيحهما - واللفظ لمسلم - مِن حديث رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: (كُنَّا نُحَاقِلُ الأَرْضَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَنُكْرِيهَا بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَالطَّعَامِ الْمُسَمَّى، فَجَاءَنَا ذَاتَ يَوْمٍ رَجُلٌ مِنْ عُمُومَتِى، فَقَالَ: نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَمْرٍ كَانَ لَنَا نَافِعًا، وَطَوَاعِيَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْفَعُ لَنَا، نَهَانَا أَنْ نُحَاقِلَ بِالأَرْضِ، فَنُكْرِيَهَا عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَالطَّعَامِ الْمُسَمَّى، وَأَمَرَ رَبَّ الأَرْضِ أَنْ يَزْرَعَهَا أَوْ يُزْرِعَهَا، وَكَرِهَ كِرَاءَهَا، وَمَا سِوَى ذَلِكَ).
فانظر إلى قوله: «نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَمْرٍ كَانَ لَنَا نَافِعًا، وَطَوَاعِيَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْفَعُ لَنَا».
ولا أحسبه بحاجة إلى شرْح، ولا إخالُ ما يحمله مِن سُمُوق في الانقياد، وشموخ في الإذعان بمُفْتَقِرٍ إلى بَسْط؛ فطواعية الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أنفع لنا مما نراه نافعًا.
الصورة السادسة:
روى البخاري في صحيحه مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: آلله الذي لا إِله إِلا هو، إِنْ كُنْتُ لأعْتمد بكبدي على الأرض مِن الجوع، وإنْ كنتُ لأشُدُّ الحَجَرَ على بطني مِن الجوع، ولقد قعدتُ يومًا على طريقهم الذي يخرجون منه، فمرَّ أبو بكر، فسألتُه عن آيةٍ مِن كِتاب الله؟ ما سألتُه إلَّا لِيَسْتَتْبِعَني، فمرَّ، فلم يفعل، ثم مرَّ عُمَر، فسألته عن آية من كتاب الله؟ ما سألتُه إلا لِيَستتبعني، فمرَّ فلم يفعل، ثم مرَّ بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فتبسَّم حين رآني، وعرف ما في وجهي، وما في نفسي، ثم قال: «يا أبا هِرٍّ»، قلتُ: لبَّيك يا رسول الله، قال: «الْحَقْ»، ومضى فاتَّبعتُه، فدخل، فاستأذن، فأذِنَ لي فدخل، فوجد لبنًا في قدح، فقال: «مِن أين اللبن» ؟ قالوا: أهداه لك فُلان، أو فُلانة، قال: «أبا هِرٍّ»، قلتُ: لبَّيك يا رسول الله، قال: «الْحَقْ إِلى أهل الصُّفَّة، فادْعُهُمْ لي»، قال: وأهل الصُّفة أضياف الإِسلام، لا يأوون على أهل ولا مال، ولا إلى أحدٍ، إذا أتتْه صدقةٌ بَعث بها إليهم، ولم يَتناول منها شيئًا، فإذا أَتتْه هديَّة أرسل إليهم، وأصاب منها، وأشركهم فيها، فساءني ذلك، وقلتُ: وما هذا اللبن في أهل الصُّفَّة؟ كنتُ أحقَّ أنْ أُصيب مِن هذا اللبن شَرْبَة أَتَقَوَّى بها، فإِذا جاؤوا أمَرَني، فكنتُ أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني مِن هذا اللبن؟ ولم يكُن مِن طاعة الله، وطاعة رسوله بُدٌّ، فأتيتُهم فدعوتُهم، فأقبَلوا واستأذَنوا، فأَذِن لهم، وأخذوا مجالسهم مِن البيت، فقال: «يا أبا هِرٍّ»، قلتُ: لبَّيك يا رسول الله، قال: «خذ فأعطهم»، قال: فأخذتُ القَدَح، فجعلتُ أعطيه الرجل، فيشرب حتى يَرْوَى، ثم يَرُدُّ القَدَح، فأعطيه الآخر، فيشرب حتى يَرْوَى، ثم يردُّ عليَّ القَدَح، فأعطيه الآخر، فيشرب حتى يَرْوَى، ثم يرُدُّ عليَّ القَدَح، حتى انتهيتُ إِلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد رَوِيَ القوم كلُّهم، فأخذ القَدَح، فوضعه على يده، فنظر إليَّ، فتبسَّم، فقال: «يا أبا هِرٍّ»، قلتُ: لبَّيك يا رسول الله، قال: «بقيتُ أنا وأنتَ»، قلتُ: صدقتَ يا رسول الله، قال: «فاقْعُد فاشرب»، فقَعَدْتُ فشَرِبْتُ، فقال: «اشرب»، فشربتُ، فما زال يقول: «اشرب»، حتى قلتُ: لا، والذي بَعَثك بالحق، ما أجِدُ له مَسْلَكًا، قال: «فأَرِنِي»، فأَعطيتُه القَدَح، فحَمِد الله وسَمَّى، وشرب الفَضْلَة.
وتأمَّل قول أبي هريرة رضي الله عنه، وهو محلُّ الشاهد مِن الحديث: (ولم يكُن مِن طاعة الله، وطاعة رسوله بُدٌّ)، بعد قوله رضي الله عنه: (وقلت: وما هذا اللبن في أهل الصُّفَّة؟ كنتُ أحقَّ أن أُصيب من هذا اللبن شَرْبَة أَتَقَوَّى بها، فإِذا جاؤوا أمرني، فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن؟).
نعم، ليس مِن طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم مِن بُدٍّ، ولو لم نعرف الحكمة مِن الأمر الشرعي؛ إذ يكفينا أن نؤْمن أنَّ كل الأوامر الشرعية في غاية الحكمة؛ لصدورها مِن الحكيم، العليم، الخبير سبحانه وتعالى.
ليس مِن طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم مِن بُدٍّ، ولو حَسَّنَتِ العقولُ القاصرة لأصحابها خلافَ ذلك.
قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
فالله تعالى يَعْلم ما يُصْلِحكم - وإنْ حسبتموه خلافَ ذلك - فيَحُضُّكم عليه، ويَعْلم ما يُفْسِدُكم - وإنْ حسبتموه عكس ذلك - فينهاكم عنه، فهل أنتم مُنتهون عن نهْيه، ومؤتمرون بأمْره وإنْ قَصُرَت عقولُكم عن دَرْكه؟
[1] وقرأ حمزة والكسائي (فانْظُرْ مَاذَا تُرِي) بضم التاء؛ أي: فانظر ماذا تُرِيني مِن صبْرك وجزَعك، أو ماذا تُشير؛ أي: ما تُريك نفسُك مِن الرأي.
_____________________________________________________
الكاتب: أ. حسام الحفناوي