الفجر الصادق" مقابل "وحدة الساحات".. دوافع مختلفة ونتائج مرتقبة
المميز في الرد الفلسطيني، هو إطلاق اسم "وحدة الساحات" على عملية الرد المعاكس للعدوان الإسرائيلي، لقد فطنت المقاومة طريقة تفكير الاحتلال جيدًا، وباتت لديها خبرة بأهدافه الخبيثة...
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة - أحداث عالمية وقضايا سياسية -
قبل أيام قليلة، أطلقت "إسرائيل" عملية عسكرية ضد حركة الجهاد الإسلامي، قالت إنها "ضربة استباقية" تحسبًا لرد فلسطيني محتمل على اعتقال القيادي في الحركة بسام السعدي في جنين مطلع الشهر الجاري، بدأت "إسرائيل" عمليتها التي أطلقت عليها اسم "الفجر الصادق" باغتيال عدد من عناصر وقادة سرايا القدس، الجناح المسلح لحركة الجهاد، كان أبرزهم القيادي تيسير الجعبري، قائد لواء شمال غزة، والذي ارتبط اسمه بعدد من العمليات الهامة ضد الكيان المحتل، سبقت العملية حالة من الاستنفار الواسع في مناطق غلاف قطاع غزة بسبب تهديدات حركة الجهاد بالرد، اتخذ جيش الاحتلال إجراءات دفاعية، وأغلق طرقًا في الجنوب، كما رفع حالة التأهب في المستوطنات القريبة من القطاع، ووقف خدمات القطارات فيها، كما ألغى إجازة نهاية الأسبوع لجنود الاحتلال وأمر بتعزيزات لقواته المتواجدة على حدود القطاع المحاصر، لم تقف المقاومة مكتوفة الأيدي، إذ أطلقت بدورها عملية "وحدة الساحات"، ووجهت عشرات الصواريخ نحو المستوطنات، فيما سُمِعَت صفارات الإنذار في جميع أنحاء "إسرائيل"، مما أدى إلى إرسال مئات الآلاف من الإسرائيليين إلى الملاجئ.
في حين أن الرد الفلسطيني خلال هذه الجولة من النضال لم يشكل تهديدًا وجوديًا للمحتل، لكنه على الأقل ألحق أضرارًا ملموسة به، دفعته إلى أنهاء عمليته العسكرية والقبول بهدنة نتجت عن وساطة مصرية، كان هذا واضحًا من توصية رئيس الشاباك، رونان بار، في اجتماع المجلس السياسي والأمني الإسرائيلي (الكابنيت)، الذي أكد على ضرورة إنهاء العملية العسكرية في غزة، خشية وقوع أخطاء من شأنها أن تورط الكيان الصهيوني في عملية عسكرية أوسع لا تريدها في الوقت الراهن. لا شك سياسة الضربات الاستباقية سياسة جديدة تتبعها "إسرائيل" ضد فصائل المقاومة في قطاع غزة، فهذا العدوان لم يكن له مقدماته المعهودة من التوتر والتهديد والتصعيد كما جرت العادة دائما، لكن بغض النظر عن دوافع هذه العملية، فإن ثمة نتائج مرتقبة في انتظار أن تتبلور وتتكشف مع الوقت.
مواجهة ثنائية:
منذ اللحظة الأولى، حاول الاحتلال الإسرائيلي الترويج إلى أن عمليته الأخيرة تستهدف حركة الجهاد الإسلامي وحدها، وهو ما يعني أن القادة الصهاينة قد وضعوا حدًا فاصلًا بين الجهاد وحماس، وأرادوا التركيز على هذا الفاصل لإثارة الشقاق بين صفوف المقاومة في القطاع، تلك المواجهة الثنائية التي أرادها الاحتلال مع حركة الجهاد فقط كانت هي الهدف الاستراتيجي لهذه العملية الأخيرة، فبالرغم من أن المقاومة قد قصفت في أوقات سابقة تل أبيب وأماكن أخرى من المستوطنات، لكن لم تشن قوات الاحتلال عدوانًا عليها، باستثناء قصف انتقائي لبعض المواقع التابعة للمقاومة، وكان هذا القصف يتم بحذر شديد خشية انهيار وقف إطلاق النار مع فصائل المقاومة، كان التساؤل كبيرًا هذه المرة عن سبب شن عملية عسكرية تحمل غموضًا في توقيتها وأسبابها وأهدافها، لمجرد تهديدات ودون خروج طلقة واحدة من بنادق حركة الجهاد.
المميز في الرد الفلسطيني، هو إطلاق اسم "وحدة الساحات" على عملية الرد المعاكس للعدوان الإسرائيلي، لقد فطنت المقاومة طريقة تفكير الاحتلال جيدًا، وباتت لديها خبرة بأهدافه الخبيثة، وعبر سنوات طويلة من النضال وعشرات الجولات من القتال تمكنت الفصائل من توحيد صفوفها وسلاحها، كانت هذه المعادلة لافتة وجديرة بالإشادة خلال معركة "سيف القدس" في مايو 2021، لقد نجح الاحتلال من قبل تثبيت سياسة "فرّق.. تسد"، حيث أحدث شرخًا عميقًا بين الضفة الغربية وقطاع غزة يُضَاف إلى عمق البعد الجغرافي بينهما، والآن يحاول الاحتلال تطبيق السياسة ذاتها داخل القطاع، عبر وضع سيناريوهات قتالية على جميع الجبهات مع فصائل بعينها دون غيرها.
مغامرة سياسية:
القيادة في "إسرائيل" مبنية على الجماجم العربية، لا سيما الفلسطينية، يعي يائير لبيد هذه الحقيقة، لذا يحاول أن ينخرط في عملية خاطفة يثبت من خلالها المذيع والصحفي اللامع أنه رجل دولة ويمكنه اتخاذ قرار الحرب، يُعِينه في مسعاه هذا، حليفه في حكومة التغيير، بيني غانتس، الذي بدأ حملته الانتخابية بإزهاق 1364 روحًا فلسطينية في غزة، لا يمكن فصل العملية العسكرية الاخيرة عن المصالح الحزبية والسباق الانتخابي المرتقب في نوفمبر المقبل، فالمصالح الشخصية والحزبية لقادة الاحتلال تتقدم في معظم الأحيان، لكن المغامرة بتبادل الدماء مقابل الأصوات الانتخابية لا تنجح دائما، لعنة الدم تصيب القادة المضاربين في الانتخابات فتهوي بهم، في بداية إبريل 1996، ارتدى شمعون بيرس معطفه العسكري الشتوي وبدأ عملية "عناقيد الغضب" في لبنان، وبعد 40 يومًا فقط، تعرض لسقوط سياسي مدوي في مخالفة لكل التوقعات حينها، إذ استطاع المرشح الشاب آنذاك، بنيامين نتنياهو، أن يهزمه شر هزيمة في الانتخابات، بعد عشر سنوات، لم يتعلم إيهود أولمرت هذا الدرس حين وصل إلى منصب رئيس الوزراء، خلفًا لسلفه أرييل شارون، قرر أولمرت إسقاط حزب الله بعد أن اختطف الحزب 3 جنود إسرائيليين، لكن بعد بضعة أشهر، وجد نفسه معزولًا ومكروهًا وفاقدًا لسلطته بعد أن تورط في قضايا فساد.
كانت رغبة لابيد ـ بحسب ما أشارت إليه العديد من التقارير الصحفية العبرية ـ تحقيق أقصى الإنجازات والحد الأدنى من الخسائر، كل قرار خلال الفترة الراهنة لن يؤثر فقط على حياة الإسرائيليين في الأراضي المحتلة، بل سيؤثر أيضًا على حالتهم المزاجية عند وقوفهم أمام صناديق الاقتراع، يعيّ لابيد أن كل قرار سيتخذه، سيقوم خصومه باستعماله ضده، وعلى رأسهم زعيم المعارضة بنيامين نتنياهو، الراغب بشدة في العودة إلى منصبه السابق، ربما لم يحصل لابيد على صورة النصر الكاملة التي كان يريدها من وراء هذه العملية، لذا اضطر في النهاية إلى أن يقبل بهدنة قادتها القاهرة، لم يرغب لابيد في الانجرار إلى عملية مطولة من شأنها شل حياة الإسرائيليين في منتصف إجازة الصيف، أو التسبب في إغلاق المطارات الرئيسية بينما يسافر عشرات الآلاف من الإسرائيليين إلى الخارج كل يوم، كما أن آخر ما يريدون رؤيته هو الاستمرار في سماع صافرات الإنذار والتواجد في الملاجئ، لذا فإن مجرد استمرار العملية وتوسيع رقعتها لن يخدم لابيد، بل سيقلل من مكاسبه وسيزيد من المخاطر على المستوطنات، بأي حال.. يمكن الآن لوسائل الإعلام المقربة من لابيد أو الرافضة لعودة نتنياهو، أن تضخم من نتائج العملية وتسوّقها للناخبين على أنها انتصار سريع حقق أهدافه في وقت قصير.
بروفة لحرب أخرى:
يرى البعض أن الكيان الإسرائيلي أراد من عمليته الاستباقية ضد حركة الجهاد، إرسال رسائل إلى حزب الله الذي يطلق أمينه العام تهديدات متكررة باستهداف منصة الغاز الإسرائيلية في المنطقة المتنازع عليها بين تل أبيب وبيروت في البحر المتوسط، لقد أراد القادة الصهاينة أن يقولوا إن ردهم سيكون عمليًا على التهديدات، وليس مجرد مقابلة التهديد بالتهديد، يتكهن البعض بأن "إسرائيل" تتحضر بالفعل لعمل ما ضد حزب الله في حال شعرت بتهديدات جدية من طرفه، ولا شك أن الشعور بالتهديدات قد بدأ يتنامى بالفعل بعد إطلاق الحزب لمسيّراته التي اخترقت منطقة منصة الغاز في البحر المتوسط، وحرصه على عرض الصور الجوية كمواد دعائية، وهو تلميح صريح بقدرته على مهاجمتها مستقبلًا.
تريد "إسرائيل" أيضا إرسال رسائل إلى إيران بأنها ماضية في ضرب النفوذ الإيراني في سوريا وفي كل مكان قد تشعر بالتهديد منه، لا سيّما في ظل حالة الفتور الموجودة الآن مع روسيا بشأن سوريا، فقد يتعثر التنسيق الأمني بين تل أبيب وموسكو، ومن شأن ذلك عدم القدرة على ضرب بعض الأهداف الإيرانية في العمق السوري، ولا شك أن القادة الصهاينة يدركون تماما أن تكنولوجيا المسيّرات لم تصل إلى حزب الله إلا من خلال إيران، التي بلا شك تشارك من وراء الكواليس في كل خطوة يقوم بها الحزب.
نتائج وتداعيات:
لم يبتكر القادة الصهاينة سياسة الضربات العسكرية الاستباقية، بل إنهم أخذوا هذا النهج نقلًا عن الأمريكيين الذين كثيرًا ما استخدموه في أفغانستان والعراق، يرى البعض أن تل أبيب أرادت من هذه العملية أن تستعيد قدرتها على الردع، يمر العالم الآن بمرحلة فارقة تتأهب فيها كل القوى للحرب، في ظل هذه الأجواء المشحونة في كل أرجاء العالم، يريد الصهاينة أن يثبتوا لأنفسهم أنهم جاهزون للدفاع عن أنفسهم، ومستعدون للهجوم متى اقتضت الحاجة لذلك، هم أيضا يريدون التأكد من جاهزيتهم لهجوم من عدة جبهات، وقد نفذوا بالفعل مناورات للاستعداد لمثل هذا السيناريو خلال الفترة الماضية، حاولت "إسرائيل" أيضا أن ترصد نتائج التغيير في سياستها العدوانية، ففي العدوان الأخير جهدت إلى اعتماد سياسة العمليات الموضعية المحدودة، وهو نهج مشابه لسياسة الاغتيالات الفردية التي يحظى الموساد بتاريخ طويل منها، حيث استهدفت الجهاد ومواقعها، واستثنت حماس وقادتها وقواعدها، وعلى عكس المعتاد تاريخيًا لم تحمّل "إسرائيل" حماس مسؤولية الرشقات الصاروخية التي انطلقت من القطاع، بالرغم من أن حماس عمليًا هي التي تحكم القطاع.
على الجانب الآخر، أسفرت العملية عن استشهاد عشرات الفلسطينيين، من بينهم أطفال، كما تم تدمير عدة مبان سكنية، وتعرضت حركة الجهاد لخسارة معنوية بعد استشهاد أحد قادتها، لا شك أن الرغبة في الرد ستظل قائمة، ستبذل "إسرائيل" قصارى جهدها لإحباط هذه المحاولات في وقت مبكر، لكن ثمة انتصار آخر حققته الجهاد، إذ تنامت شعبيتها، ولا سيما في المخيمات الفلسطينية، والوعد بإطلاق أسرى فلسطينيين بضمانة مصرية، ناهيك عن إثباتها بالدليل قدرتها على ضرب العمق الإسرائيلي والنيل من هيبة وسيادة "إسرائيل"، حتى وإن كانت الجهاد وحيدة في المعركة، فحركة حماس عبّرت عن دعمها لحركة الجهاد، لكنها أبقت ترسانتها الصاروخية الأكبر والأكثر قوة خارج المعادلة، ربما لأنها أرادت منع تصاعد القتال في الوقت الحالي إلى مواجهة أكبر وأكثر خطورة، لكن تصريحات قادتها في العلن، ومن المؤكد التصريحات غير المعلنة أيضا، جميعها تؤكد أن المقاومة موحدة، وأن حماس لن تتوانى عن المشاركة إذا اقتضت الحاجة لذلك، ربما تغلّب رأي المنادين بالتأني في هذه الجولة، في ظل حقيقة أن سكان القطاع لا يزالون يعيدون بناء منازلهم، وتعيد حماس نفسها بناء ترسانتها، بعد 15 شهرًا على آخر جولة من العدوان، تلك التي وقعت العام الماضي 2021، والتي أدت إلى أضرار كبيرة واستشهاد الكثيرين في غزة، بأي حال.. لم تؤد الجولة الأخيرة من المواجهة إلى تغيير جوهري في الوضع السياسي على الأرض، سيبقى المحتل محتلًا، وستظل المقاومة صامدة تدافع عن الأرض والعرض.
________________________________________________
الكاتب: أحمد مصطفى الغر