صناعة العزة والكرامة
الانغماس في تَرَف الدنيا، وضَعف الإيمان، وترك الجهاد، والمسارعة في العدوِّ خشية الضَّرر المتوقع - مِن العوامل الباعثة على الذِّلَّة والمهانة، ونزع المهابة مِن قلوب أعدائنا مِنَّا.
- التصنيفات: قضايا إسلامية - - آفاق الشريعة -
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد:
فإن الأمم التي تُجيد صناعةَ العِزَّة والكرامة لهي الأممُ المنتصرة، وذلك إذا ما تحلَّتْ بالإيمان الراسخ والعقيدة السليمة، ووَعَتْ طبيعة المرحلة، وحقيقة الصراع المنْطلق مِن العقيدة، والذي يَرتَكز على العمل المضْنِي، والجهاد المحرِّر للنفوس والأمم مِن وَطْأَةِ الأهواء والذُّل والتخاذُل الشائن.
والأممُ التي تتأبَّى على مشاريع التغريب، والتمييع وتركيع الأمم واستدراجها لتبعية بغيضة - هي الأُمم الراسخة رسوخ الجبال، والتي تبدو كالمنارة في سماء العِزة والكرامة.
ومَن يقرأ تاريخ أُمَّتنا الإسلامية بعينٍ متفحصة، يَلْمَس ذلك دون أدنى جُهدٍ وعناء في استنباط هذا الأمر جيِّدًا، وذلك على أساس الركائز التالية:
1- التمسُّك الراسخ بالعقيدة الإسلامية والاعتصام بها، وذلك واضحٌ مِن خلال كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وتمسُّكه بهذه العقيدة، وتلك الدعوة الغرَّاء وتبليغها للعالمين، مهما كلَّفه ذلك مِن مشقَّة وعَنَاء وعَنَت، ولقد كان هذا جَليًّا حينما عَرَضَ عليه مشركو "مكةَ" الْمُلْك، أو المال، أو الطب إنْ كان به مَسٌّ مِن جِنٍّ على أن يَتْرُك تبليغَ هذه الدعوة، فكان ردُّ النبي صلى الله عليه وسلم عليهم أَبْلغَ ردٍّ لكلِّ متشكِّكٍ متردِّدٍ، ولكلِّ متقاعسٍ قعيدٍ يأبى العمل لِدِين الله عز وجل، والأخذَ بأسباب النُّصرة للإسلام والمسلمين، قالها صلى الله عليه وسلم مُدوِّيَة غُرَّة على جَبين التاريخ: «واللهِ يا عم، لو وضعوا الشمسَ في يميني، والقمرَ في يساري على أن أَتْرُكَ هذا الأمْر، لن أتركه حتى يُظْهِرَهُ اللهُ، أو أَهْلكَ دُونَه».
وموقف سعد بن معاذ رضي الله عنه مع "غطفان" يَقْطُر عِزَّةً وكرامةً مِن صحابي جليل ملأ الإيمانُ قلبَه، وملأتْ قضية الإسلام والمسلمين عليه قلبَه وروحَه وجوارحَه، أرادت "غطفان" مصالحة المسلمين على ثُلث ثمار "المدينة" على أن يَرجعوا عن المدينة في "غزوة الأحزاب"، قال: يا رسول الله، لقد كُنَّا على الشِّرْك، وكانت "غطفان" لا تَطمع في تمرةٍ مِن "المدينة"، أَبَعْدَ أن أعزَّنا اللهُ بالإسلام، وأَكرَمَنا بك نُعطيهم ثمارنا؟! والله ليس عندنا لهم إلا السيف.
وقول عمر بن الخطاب: نحن قومٌ أَعزَّنا اللهُ بالإسلام، فإنْ نحن ابتغينا العِزَّة في غيره، أَذَلَّنا الله.
ويُروى في العصر الحديث؛ أنْ تَعرَّض أحدُ الشُّبَّان المسلمين العاملين في حقل السياسة لرئيسة وزراء العدوِّ الصِّهْيَوني "جولدا مائير"، في ستينيَّات القرن العشرين، وقال لها: سوف ننتصر عليكم، فقالت: ستنتصرون نعم يوم أن تكونوا أنتم أنتم، ونحن نحن، وما أَشْبَهَ الليلةَ بالبارحة! وصدَق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: «تُوشِكُ أنْ تَداعَى عليكم الأُممُ، كما تَداعَى الأَكَلَةُ إلى قصعتها»، قالوا: أَمِن قِلَّةٍ نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: «بل أنتم كثير، ولكنكم كغثاء السيل، ولينزعنَّ اللهُ مِن قلوب أعدائكم المهابة منكم، وليقذفنَّ في قلوبكم الوَهَن» ، قالوا: ما الوهن؟ قال: «حُب الدنيا وكراهية الموت».
فالانغماس في تَرَف الدنيا، وضَعف الإيمان، وترك الجهاد، والمسارعة في العدوِّ خشية الضَّرر المتوقع - مِن العوامل الباعثة على الذِّلَّة والمهانة، ونزع المهابة مِن قلوب أعدائنا مِنَّا.
وفي فترات الدولة الإسلامية نجد أنَّ عِزَّة وكرامة المسلمين واضحةٌ جَليَّة، حالَ تمسُّك المسلمين بعقيدتهم وشريعتهم الغَرَّاء، والتمسُّك بثوابت هذا الدِّين الحنيف، وذلك لا يخفى على كلِّ ذي لُبٍّ، أو أَلقَى السمع وهو شهيد.
2- وحْدة الصفِّ الداخلي للأمَّة: فوحدة الصفِّ هي بمثابة الرِّباط والأساس الداخلي الذي تَنبني عليه قوَّة الأمَّة، وأول هذه القوَّة قوَّة الإيمان والعقيدة، ثم قوَّة الوحدة والارتباط، ثم القوَّة المادِّيَّة بشتَّى صُوَرِها.
وإذا كنتَ تَبني أُمَّةً بأسْرها تتمتَّع بكل السيادة والأستاذية والعِزَّة، فيجب أن يَتناسَب الأساسُ مع حجم وارتفاع البناء، ولقد كان ذلك واضحًا في تربية النبيِّ صلى الله عليه وسلم للمؤمنين ثلاثَ عشرةَ سنة فقط على الإيمان والعقيدة، ثم كانت الأمَّة العظيمة أستاذة الدنيا كلِّها لقرون طوال.
ثم كان غرس وحدة الصَّفِّ الداخلي للأمة في "المدينة"، وذلك من خلال المفردات التالية:
أ- الإخاء بين أبناء الأمَّة الإسلامية: وتمَّ ذلك بين المهاجرين والأنصار، وإنه ليتراءى لي الموقف الرائع في الإيثار لِسعد بن الربيع، وردُّ الفعْل القِمَّة في التعفُّف لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما.
سعد بن الربيع لعبد الرحمن: إني أَكْثَرُ الأنصارِ مالًا، ولي زوجتان، وبيتان، فأَقْسِمُ مالي بيني وبينك نصفين، واخترْ أيَّ البيتين، واخترْ أجملَ الزوجتين، فأُطَلِّقُها فتنقضي عدتها، ثم تتزوجها، فقال عبد الرحمن لسعد: بارك اللهُ لك في مالك وأهلك، دُلَّني على السوق.
ما أجمل هذه اللوحةَ التي سطَّرها النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم جميعًا! فهذه اللُّحْمَة التي بين أفراد الصَّفِّ المؤمنِ تَبعَث على القوَّة في مواجهة أيِّ عدوٍّ خارجي؛ حيث أَمَّنَ الصفَّ الداخليَّ مِن الفُرقة والشَّتات الباعِثَينِ على الفشل.
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 45، 46].
فهذه اللُّحْمَة هي التي تَقِي الأمَّةَ مِن أن يَعْصفَ بها التنازُع والفشل ثم الاندثار، فضلًا عن فوات النصر والتهاوي والسقوط والانزواء في ثنايا التاريخ، فحينما نَشبَتِ الفتنةُ الكُبرى بين كبار الصحابة، توقَّفَت الفتوحات الإسلامية، ولما تَشَتَّتتِ الأمَّة الإسلامية إلى دويلات، ضَعُفَت الأمَّة وتنكَّبَت لها الحضارة، وتخلَّفت عِلميًّا، وغفلَت عن الدور المنوط بها، واحتلَّت ذيلَ الأُمم بجدارة تُحْسَد عليها.
وهذا ما أَخبَر اللهُ عز وجل به عن اليهود في القرآن: {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} [الحشر: 14].
وهذه اللُّحْمَة ووحدة الصفِّ تتبنَّى النظامَ الاجتماعي التكافُلي بين طبقات الأمَّة، ويحْمل أفرادُها على كفالة بعضهم بعضًا؛ مما يَبُثُّ الثقة بين أفراد هذه الأمَّة، وبحرارة الإيمان والأخوَّة والوحدة تذوب الأحقاد والأضغان، ويكون المجتمع وحدة واحدة، يَسعَى بذمَّتهم أدناهم، وهم يدٌ على مَن سواهم.
وللهِ درُّ "سيد" رحمه الله لقوله في "تفسيره": (إنَّ الأسرة ليست آباءً وأبناءً وأحفادًا، إنما هي هؤلاء حين تجمعهم عقيدة واحدة، وإنَّ الأمَّة ليست مجموعة أجيالٍ متتابعة مِن جنس معيَّن، إنما هي مجموعة مِن المؤمنين مهما اختلفَت أجناسهم وأوطانهم وألوانهم، وهذا هو التصوُّر الإيماني الذي يَنبَثق مِن خلال هذا البيان الرَّبانيِّ، وما "سلمان الفارسي" رضي الله عنه، و"بلال الحبشي"، و"صهيب الرومي"، و"مصعب بن عمير القرشي" عنَّا ببعيدٍ، كلُّهم يَربطُهم رباطٌ واحدٌ، ووشيجة واحدة، وهي وشيجة العقيدة والعمل، وتسقط جميع الروابط والاعتبارات ما لم تتَّصل بعروة العقيدة والعمل)؛ "ظلال القرآن"، ج (1)، ص (113).
3- استشعار التبِعة لنشر الدعوة، وأمانة التبليغ:
وقف عُقبة بن نافع ممتطيًا صَهوة فرسه على شاطئ المحيط الأطلسي قائلًا:
(واللهِ، لو أني أعلم أُناسًا وراء هذا البحر، لخُضْتُ إليهم بفرسي هذا؛ لأبلِّغهم رسالة الإسلام).
فهذا القائد المسلم بقوله هذا الذي يَقطر عِزَّة، قد أعذر إلى الله في تبليغ دعوة الله، ولا يَتَهَيَّب خوض بحرٍ وُصِفَ ببحر الظُّلمات، ربَّما يَلقى اللهَ فيه شهيدًا؛ وذلك لأَجْل إنقاذ رِقاب أناسٍ من النار.
وهذا رِبْعِي بن عامر رضي الله عنه يردُّ على "رُسْتُم" قائد الفُرْس أَبْلَغَ ردٍّ على سؤاله: ما أتى بكم إلينا؟ قال: (إنَّ الله ابتعثنا لنُخرج مَن شاء مِن العباد مِن عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد، ومِن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومِن ضِيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة).
وهذا "هارون الرشيد" كان يحجُّ عامًا، ويجاهد عامًا، وهو القائل مخاطبًا السحابةَ: (أمطري حيث شئتِ؛ فإنَّ خراجك سوف يأتيني).
فما أروعَ هذه العِزَّة! وما أروعَ هذا الفَهم!
وعبد الله بن المبارك يرى أن الجهاد لِنَشر دِين الله هو أفضلُ عند الله مِن عابد زاهد معتكفٍ في المسجد الحرام، وذلك في أبيات مِن الشعر قد نظَمَها بدمائه، وبنبضات قلبه، وبنسمات روحه:
يَا عَابِدَ الْحَرَمَيْنِ لَوْ أَبْصَرْتَنَــــــا *** لَعَلِمْتَ أَنَّكَ فِي الْعِبَادَةِ تَلْعَبُ
مَنْ كَانَ يَخْضِبُ جِيدَهُ بِدِمُوعِهِ *** فَنُحُورُنَا بِدِمَائِنَا تَتَخَضَّـــــبُ
أَوْ كَانَ يُتْعِبُ خَيْلَهُ فِي بَاطِـــلٍ *** فَخُيُولُنَا يَوْمَ الْكَرِيهَةِ تَتْعَــبُ
رِيحُ الْعَبِيرِ لَكُمْ وَنَحْنُ عَبِيرُنَـــا *** رَهَجُ السَّنَابِكِ وَالْغُبَارُ الأَطْيَبُ
وَلَقَدْ أَتَانَا مِنْ مَقَالِ نَبِيِّنَــــــــــا *** قَوْلٌ صَحِيحٌ صَادِقٌ لَا يُكْـذَبُ
لَا يَسْتَوِي غُبَّارُ خَيْلِ اللهِ فـــي *** أَنْفِ امْرِئٍ وَدُخَانُ نَارٍ تَلْهَــــبُ
هَذَا كِتَابُ اللهِ يَنْطِقُ بَيْنَنَـــــــا *** لَيْسَ الشَّهِيدُ بِمَيِّتٍ لَا يَكْـــذِبُ
وهذا ابن تيميَّة رحمه الله الإمام العابد الزاهد المجاهد يفسِّر قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 1، 2]، فيقول: فواجب على الأمَّة أن يبلِّغوا ما أُنزل إليهم، ويُنذِروا كما أَنذَر.
وفي العصر الحديث الشيخ ابن عبد الوهاب ورشيد رضا، وحسَن البنَّا يَعصِف بِمُهَجِهم الألم، وتَعْتَصر قلوبَهم الحسرة على حال الأمَّة الإسلامية، فما غمض لهم جفنٌ، ولا ذاقوا لذَّة الراحة والدَّعة، حتى بثُّوا في الأمَّة صحوة المارد المسلم مرة أخرى؛ حتى شعرنا بنسمات التجديد والتغيير والإصلاح تلفُّ أرجاء الأمَّة الإسلامية مرة أخرى، وما نحن ولا أنتم ممن يَغار على الإسلام، إلا ثمرة مِن ثمار هذه الصحوة، وبصمات إخلاصٍ وعمل وجُهد مُضني في سبيل بَعْثِ الأمَّة مِن جديد.
"وإنَّ الحصيف الذي يُطالِع نصوصَ الإسلام، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ومواقف الصحابة الكرام يَلمَس بَثَّ روح العِزَّة على أساس العقيدة الدينية الصحيحة، كما تستهدف خَلْقَ الأمَل في النجاح مكان اليأس، وتوثيق الصِّلات بين الشعوب الإسلامية كلها"؛ "معركة المصحف"؛ للغزالي، ص (10)، بتصرُّف.
ونأمل أن يرزقنا الله عز وجل بِهِمَّة أُمَّة تجوس خلال الديار، فتُحْييها بالقرآن، والتمسُّك بثوابتنا الإسلامية، وعقيدتنا السمحة، ووحدة الصف المؤمن، واستشعار التَّبِعة الملقاة على عواتقنا؛ مِن تبليغ الدعوة، والدراية بطبيعة الحرب الدائرة على الإسلام، حرب العقيدة مِن الغرب المتبجِّح على ثوابتنا الإسلامية، فالعزَّة لا تكون لقوم هَمَلٍ شَتَات، كلٌّ يعمل على شاكلته، بل تكون العِزَّة لله ولرسوله وللمؤمنين، فاهجروا الذُّلَّ لعزٍّ، واعملوا قبل المقال:
فَمَنْ لَمْ يَعِشْ لِمَجْدِ دِينِه *** فَمَا عَاشَ إلَّا فِي السَّرَابِ
وصلَّى اللَّه على سيِّدنا محمَّدٍ، والحمد لله ربِّ العالمين
________________________________________________________
الكاتب: د. طارق محمد حامد