ولا تظلمون فتيلا

قال - تعالى -: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء: 49].

  • التصنيفات: القرآن وعلومه - التفسير -

قال - تعالى -: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء: 49].

 

قال الطبري في تفسيره: القول في تأويلِ قوله - تعالى -: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً}؛ يعني بذلك - جلَّ ثناؤه -: ولا يَظلِم الله هؤلاء الذين أخبَرَ عنهم أنهم يُزكُّون أنفسهم ولا غيرهم من خلقِه، فيبخَسهم في تركِه تزكيتَهم، وتزكية مَن ترك تزكيتَه، وفي تزكية مَن زكَّى من خلقه - شيئًا من حقوقهم، ولا يضع شيئًا في غيرِ موضعه، ولكنَّه يُزكِّي مَن يَشاء من خلقه فيُوفِّقه، ويخذل مَن يشاء من أهل مَعاصِيه، كلُّ ذلك إليه وبيده، وهو في كلِّ ذلك غير ظالِمٍ أحدًا ممَّن زَكَّاه أو لم يُزكِّه فتيلاً.

 

واختَلَف أهل التأويل في معنى الفتيل:

فقال بعضهم: هو ما خرَج من بين الإصبعين والكفَّين من الوسخ، إذا فتَلتَ إحداهما بالأخرى.

• حدثنا أبو كدينة، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قال: الفتيل: ما خرج من بين إصبعَيْك.

 

• حدثنا ابن حميد قال: حدثنا حكام عن عنبسة، عن أبي إسحاق الهمداني، عن التيمي قال: سألتُ ابن عباس عن قوله: {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} قال: ما فتلت بين إصبعيك.

 

• حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أَبِي، عن يزيد بن درهم أبي العلاء قال: سمعتُ أبا العالية عن ابن عباس: {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} قال: الفتيل هو: الذي يخرج من بين إصبعي الرجل.

 

• حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أَبِي قال: حدثني عمِّي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} والفتيل هو: أنْ تدلُك إصبعَيْك، فما خرَج بينهما فهو ذلك.

 

• عن أبي مالك في قوله: {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} قال: الفتيل: الوَسَخ الذي يَخرُج من بين الكفَّيْن.

 

• حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن مفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: الفتيل: ما فتلت به يديك، فخرج وَسَخٌ.

 

• حدثنا ابن حميد قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} قال: ما تَدلُكه في يدَيْك فيخرج بينهما.

 

وأناسٌ يقولون: الذي يكون في بَطن النواة.

• حدثني المثنى قال، حدثنا عبدالله بن صالح قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: {فتيلاً}، قال: الذي في بطن النواة.

 

• حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء قال: الفتيل: الذي في بطن النواة.

 

• حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال، حدثني طلحة بن عمرو: أنَّه سمع عطاء بن أبي رباح يقولُ، فذكر مثلَه.

 

• حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجَّاج قال: قال ابن جريج: أخبرني عبدالله بن كثيرٍ: أنَّه سمع مجاهدًا يقول: الفتيل، الذي في شِقِّ النواة.

 

• حدثنا محمد بن بشَّار قال: حدثنا محمد بن سعيد قال: حدثنا سفيان بن سعيد، عن منصور، عن مجاهد قال: الفتيل: في النَّوى.

 

• عن معمر، عن قتادة في قوله: {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} قال: الفتيل الذي في شِقِّ النواة.

 

• حُدِّثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعتُ أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد بن سليمان قال: سمعت الضحَّاك يقول: الفتيل: شقُّ النواة.

 

• حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: الفتيل: الذي في بطن النواة.

 

• حدثني يحيى بن أبي طالب قال: أخبرنا يزيد قال: أخبرنا جُوَيبِر، عن الضحَّاك قال: الفتيل: الذي يكون في شِقِّ النواة.

 

• حدثنا المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} فتيل النواة.

 

• حدثنا ابن بشَّار قال: حدثنا أبو عامر قال: حدثنا قرَّة، عن عطية قال: الفتيل: الذي في بطن النواة.

 

• قال أبو جعفر: وأصل الفتيل المفتول، صرف من مفعول إلى فعيل، كما قيل: صريع ودهين من مصروع ومدهون.

 

القول في تأويل قوله: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء: 77].

 

قال أبو جعفر: يعني بقوله - جلَّ ثناؤه -: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ}، قل يا محمد لهؤلاء القوم الذين قالوا: {رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ}:- عيشكم في الدنيا وتمتُّعكم بها قليل؛ لأنها فانية وما فيها فانٍ والآخِرة خيرٌ؛ يعني: ونعيم الآخرة خيرٌ؛ لأنَّها باقية ونعيمها باقٍ دائم.

 

وإنما قيل: {والآخرة خير} ومعنى الكلام ما وصفتُ من أنَّه مَعنِيٌّ به نعيمها؛ لدلالة ذكر {الآخرة} بالذي ذكرت به، على المعنى المراد منه {لِمَن اتَّقى}؛ يعني: لِمَن اتَّقى الله بأداء فرائضه واجتِناب مَعاصِيه، فأطاعَه في كلِّ ذلك.

 

{وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً}؛ يعني: ولا ينقصكم الله من أجور أعمالكم فتيلاً.

 

{وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} يقول - تعالى ذكرُه -: ولا يظلمهم الله من جَزاء أعمالهم فتيلاً، وهو المنفتل الذي في شقِّ بطن النواة، وقد مضَى البيانُ عن الفَتيل بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

 

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبدالرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قوله: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} قال: الذي في شقِّ النواة.

 

وجاء في تفسير الرازي: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [الإسراء: 71].

 

قال صاحب الكشاف: إنما قال: {أولئك}؛ لأنَّ {مَن أُوتِي} في معنى الجمع، والفتيل: القشرة التي في شقِّ النواة، وسُمِّي بهذا الاسم؛ لأنَّه إذا أراد الإنسان استِخراجه انفَتَل، وهذا يُضرَب مثلاً للشيء الحقير التافه، ومثله القطمير والنقير في ضرب المثل به، والمعنى: لا ينقصون من الثواب بمقدار فتيل.

 

وجاء في البحر المحيط: {وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء: 77]؛ أي: لا تنقصون شيئًا ممَّا كُتِبَ من آجالكم أينما تكونوا في ملاحم حروب أو غيرها، ثم ابتدأ بقوله: {يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78]، والوقف على هذا الوجه {أَيْنَمَا تَكُونُوا}؛ انتهى كلامه.

 

وهذا تخريجٌ ليس بمستقيم، لا من حيث المعنى، ولا من حيث الصناعة النحويَّة؛ أمَّا من حيث المعنى، فإنَّه لا يناسب أنْ يكون متَّصلاً بقوله: {وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء: 77]؛ لأنَّ ظاهر انتِفاء الظُّلم إنما هو في الآخِرة؛ لقوله: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النساء: 77]، وأمَّا من حيث الصناعة النحويَّة، فإنَّه على ظاهر كلامه يدلُّ على أنَّ {أَيْنَمَا تَكُونُوا} متعلِّق بقوله: {وَلاَ تُظْلَمُونَ}، ما فسَّره من قوله؛ أي: لا تنقصون شيئًا ممَّا كُتِب من آجالكم أينما تكونوا في مَلاحِم الحرب أو غيرها، وهذا لا يجوز؛ لأنَّ {أَيْنَمَا} اسم شرط، فالعامل فيه إنما هو فعل الشرط بعدَه، ولأنَّ اسم الشرط لا يتقدَّم عليه عامله، فلا يمكن أنْ يعمل فيه {وَلاَ تُظْلَمُونَ}، بل إذا جاء نحو: اضرب زيدًا متى جاء، لا يجوز أنْ يكون الناصب لـمتى اضرب، فإنْ قال: يُقدَّر له جواب محذوف يدلُّ عليه ما قبله وهو: ولا تُظلَمون، كما يُقدَّر في اضرب زيدًا: متى جاء، فالتقدير: أينما تكونوا فلا تظلمون فتيلاً؛ أي: فلا ينقص شيء من آجالكم، وحذَفَه لدلالة ما قبلَه عليه، قيل له: لا يحذف الجواب إلاَّ إذا كان فعل الشرط بصيغة الماضي، وفعل الشرط هنا مضارع.

 

وجاء في تفسير فتح القدير: قوله: {وَلاَ تُظْلَمُونَ} [النساء: 77]؛ أي: هؤلاء المزكُّون لأنفسهم {فَتِيلاً} وهو: الخيط الذي في نواة التمر، وقيل: القشرة التي حول النواة، وقيل: هو ما يخرج بين إصبعَيْك أو كفَّيك من الوسخ إذا فتلتهما، فهو: فتيل بمعنى مفتول، والمراد هنا: الكناية عن الشيء الحقير، ومثله: {وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 124]، وهو: النكتة التي في ظهر النواة، والمعنى: أنَّ هؤلاء الذين يزكُّون أنفسهم يُعاقَبون على تزكيتهم لأنفسهم بقدر هذا الذنب، ولا يُظلَمون بالزيادة على ما يستحقُّون، ويجوز أنْ يعود الضمير إلى {مَن يَشَاء}؛ أي: لا يُظلَم هؤلاء الذين يزكيهم الله فتيلاً ممَّا يستحقُّونه من الثواب.

 

وجاء في تفسير ابن كثير: {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء: 49]؛ أي: من أعمالكم، بل توفونها أتَمَّ الجزاء، وهذه تسليةٌ لهم عن الدنيا، وترغيبٌ لهم في الآخِرة، وتحريضٌ لهم على الجهاد.

 

قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدَّوْرَقي، حدثنا عبدالرحمن بن مهدي، حدثنا حمَّاد بن زيد، عن هشام قال: قرأ الحسن: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} [النساء: 77] قال: رحم الله عبدًا صحبها على حسب ذلك، ما الدنيا كلها أوَّلها وآخرها إلاَّ كرجلٍ نام نومةً، فرأى في منامه بعض ما يحبُّ، ثم انتَبَه.

 

وقال ابن مَعِين: كان أبو مُسْهِر يُنشِد:

وَلاَ خَيْرَ فِي الدُّنْيَا لِمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ   ***   مِنَ اللهِ فِي دَارِ الْمُقَامِ نَصِيبُ 

فَإِنْ تُعْجِبِ الدُّنْيَا رِجَالاً فَإِنَّـــــــهُ   ***   مَتَاعٌ قَلِيْلٌ وَالزَّوَالُ قَرِيْـــــبُ 

 

{لا تظلمون فتيلاً}؛ يعني: ولا ينقصكم الله من أجور أعمالكم فتيلاً.

_______________________________________________

الكاتب: د. محمد السقا عيد