ذكر الله جل جلاله بين الغفلة وضدها

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الذِّكر للقلب مثل الماء للسَّمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارَق الماء؟!

  • التصنيفات: الذكر والدعاء -

لو أن العبد قام بِعَدِّ الوقت الذي يصرفه في غير ذكر الله، لوجده غير قليل، يصل إلى السنوات الكثيرات، فكيف لو أنه اشتغل بذكر الله في كثير من وقته الذي مضى، والذي لم يربح فيه بمثقال ذرة، وهو لا عمل له ها هنا إلا الطاعة، والتعبد لربه؛ بل لم يخلقه الله إلا لأجل ذلك؟! وكم مرة تشرق الشمس في قلبه، فيتسرب النور إلى لسانه، وأركانه وجوارحه؟! ويظهر أثره على حركاته وسكناته، إضافة إلى القرب من رب العالمين، ونيل الدرجات الرفيعات، وكم من أرض في الجنة قد حازها، وملكها، وَزَيَّنَها، وشَيَّدها، وأعدَّها بما لا تصوره العقول، وهو لا يزال في هذه الدنيا؟! وكم من سيئة أحالت بينه وبين ربه، وبينه وبين نعمه؟! حتى كان في أحط المراتب، بحيث لا يستريب عاقل في القول بفساد حاله؛ فيزول عنه ذلك كله بذكر ربه والتوبة إليه، والاستغفار، وطلب الستر منه، قال رب العالمين: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود: 90]، وقال تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199].

 

وقال في الحديث القدسي: «يَا بْنَ آدَمَ، إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ، وَلَا أُبَالِي، يَا بْنَ آدَمَ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي»؛ (أخرجه الترمذي).

 

وفي الصحيحين: «أَنَّ رَجُلًا أَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَالَ: رَبِّ، إِنِّي أَذْنَبْتُ ذَنْبًا- أَوْ قَالَ: عَمِلْتُ عَمَلًا ذَنْبًا- فَاغْفِرْهُ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: عَبْدِي عَمِلَ ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِهِ، قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ عَمِلَ ذَنْبًا آخَرَ- أَوْ قَالَ: أَذْنَبَ ذَنْبًا آخَرَ- فَقَالَ: رَبِّ، إِنِّي عَمِلْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْهُ، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِهِ، قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ عَمِلَ ذَنْبًا آخَرَ- أَوْ أَذْنَبَ ذَنْبًا آخَرَ- فَقَالَ: رَبِّ، إِنِّي عَمِلْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْهُ، فَقَالَ: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِهِ، قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ عَمِلَ ذَنْبًا آخَرَ- أَوْ قَالَ: أَذْنَبَ ذَنْبًا آخَرَ- فَقَالَ: رَبِّ إِنِّي عَمِلْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْهُ، قَالَ: عَبْدِي عَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ».

 

وفي الصحيحين أيضًا أنَّ أبا بكر قال لرسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم: عَلِّمْنِي دعاء أَدعو به في صلاتِي قال: «قل: اللهم إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ».

 

وفي المسند، وسنن أبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، عن ابن عمر قال: إن كنا لَنَعُدُّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مئة يقول: «ربِّ اغفر لي، وتُبْ عليَّ، إنك أنت التوَّابُ الرحيمُ».

 

قال بعض العارفين: مَن لم يكن ثمرة استغفاره تصحيح توبته، فهو كاذب في استغفاره؛ انتهى، وقال بعضهم: استغفارنا هذا يحتاج إلى استغفار، فقال في ذلك بعضهم:

أستغفِرُ الله مِن أستغفـــــــر الله   ***   مِن لَفظةٍ بَدَرَت خَالَفْتُ مَعْناهــا 

وكيفَ أرجُو إجاباتِ الدعاءِ وقد   ***   سددْت بالذَّنْبِ عندَ اللهِ مَجْراها 

 

وقد أمر الملك العلَّام، ذو الجلال والإكرام بالذكر، وبالإكثار منه، وأفاد العباد بأن كثرة الذكر سببٌ للفلاح، والظفر بالأرباح، وصرح بأنه سبب المغفرة والأجر العظيم الذي لا يحد أحد من الخلق، وكفى بالأمر به شرفًا، وكفى بالذاكر الفاعل للأمر شرفًا، قال رب العالمين: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152]، وقال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36]، وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]، وقال تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35]، وقال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]، وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10]، وقال تعالى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 37]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9]، وقال: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الزمر: 22].

 

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النَّبِيَّ صلَّى الله عليه وسلم قال: «يقول الله عزَّ وجلَّ: أنا عندَ ظَنِّ عبدي بي، وأنا معه حينَ يذكُرُني، فإنْ ذَكَرني في نفسِه ذكرتُه في نفسي، وإنْ ذكرني في ملأ ذكرتُه في ملأٍ هُمْ خيرٌ منهم»؛ (أخرجه الشيخان) (البخاري ومسلم).

 

وعن عبد اللَّه بْنِ بُسْرٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ، فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ؛ أَتَشَبَّثُ بِهِ، قَالَ: «لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ»؛ (أخرجه الترمذي، وصححه الألباني).

 

وأخرج الترمذي من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لقيتُ ليلة أُسري بي إبراهيمَ الخليل عليه السلام، فقال: يا محمد، أقْرِئ السلام أُمَّتك، وأخبرهم أنَّ الجنة طيِّبة التربة، عَذبة الماء، وأنها قِيعان، وأنَّ غِراسها: سبحانَ الله، والحمدُ للهِ، ولا إلهَ إلَّا اللهُ، واللهُ أكبرُ».

 

وأخرَج الإمام النسائي في "السنن الصغرى" من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنَّ الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «خُذوا جُنَّتكم من النار، قولوا: سبحانَ الله، والحمدُ لله، ولا إلهَ إلَّا اللهُ، واللهُ أكبرُ، فإنهنَّ يأتينَ يوم القيامة مقدِّمات، ومُعقِّبات ومُجنِّبات، وهنَّ الباقياتُ الصالحاتُ».

 

وأخرج الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، وخير لكم مِنْ أَنْ تلقَوْا عدوَّكُمْ، فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم»؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: «ذكر الله عز وجل».

 

وغير ذلك من النصوص التي لا يمكن الإحاطة بها، وقد ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله في الوابل الصيب نحو مئة فائدة للذكر؛ ومنها: قوله في صدر الفوائد، الصفحة ٩٤: وفي الذكر نحو من مائة فائدة:

إحداها: أنه يطرد الشيطان، ويقمعه، ويكسره.

الثانية: أنه يرضي الرحمن عز وجل.

الثالثة: أنه يزيل الهمَّ والغمَّ عن القلب.

الرابعة: أنه يجلب للقلب الفرح والسرور والبسط.

الخامسة: أنه يقوِّي القلب والبدن.

السادسة: أنه ينوِّر الوجه والقلب.

السابعة: أنه يجلب الرزق.

الثامنة: أنه يكسو الذاكر المهابة والحلاوة والنضرة.

التاسعة: أنه يورثه المحبة التي هي روح الإسلام، وقطب رحى الدين، ومدار السعادة والنجاة، وقد جعل الله لكل شيء سببًا، وجعل سبب المحبة دوام الذكر؛ فمن أراد أن ينال محبة الله عز وجل فليلهج بذكره؛ انتهى.

 

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الذِّكر للقلب مثل الماء للسَّمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارَق الماء؟! نقله عنه ابن القيم في "الوابل الصيب، ص71 ".

 

وذكر عنه العلامة ابن القيم أنه مرَّة صلَّى الفجر، ثم جلَس يذكر الله تعالى إلى قُرب من انتصاف النهار، ثم الْتفتَ إليه وقال: هذه غدوتي، ولو لَم أتغدَّ هذا الغداء لسَقَطت قوَّتي.

 

وقال ابن القيم: ‏أشد عقوبة في الدنيا أنْ يمسك الله لِسانك عن ذِكره.

قلت: ولو لم يكن للذكر من الفوائد إلا أنه طاعة لله رب العالمين، لكفى به فائدة.

وكذا من الفوائد أنه يصد اللسان عن الكذب، والتعدي على المسلمين في الأعراض.

 

أسباب الغفلة عن الذكر:

وللغفلة عن الذكر أسباب؛ منها:

١- التعلق بالدنيا، والغفلة عن الآخرة؛ فيجره ذلك إلى السعي إليها، وطلبها، والبحث عنها، وإن صرحت ببغضه، والفرار منه؛ بل البعد عنه أشد البعد، إلا أنه لا طائل من ذلك كله؛ بل الهدف الأول هي وإن حاولت الفرار منه.

 

فأي عقل هذا الذي يتمتع بالحياة، وقد أحاط به جندُ الموت؟! ألم تر إليها وهي تفر منك، ولا تريد لك منها حظًّا، وربك يريد لك الخير الذي ما بعده خير؛ من الطاعة والاستقامة على أمره ونهيه، ودينه، فحصول الرضا منه، والظفر بالسعادة الأبدية، وهذه الحياة العاجلة فانية، زائلة، ذاهبة، ولا أثر لشيء مما فيها بعد أمدٍ.

 

٢- الهموم الموجبة للتفكير البالغ؛ بحيث إنه لا ينام من أجلها، فكيف لو أنه ذكر الله في الساعات الطوال تلك؟!

 

٣- ذكر المسلمين بما لا يحبون؛ بل بما يكرهون، فإن ذلك مما يصد اللسان عن الذكر، كما أن الذكر يصد اللسان عن الذِّكر المذموم.

 

٤- الجهل بالله، ولله درُّ الحافظ ابن رجب رحمه الله في قوله: فمتى امتلأ القلب بعظمة الله تعالى، محا ذلك من القلب كل ما سواه، ولم يبق للعبد شيء من نفسه وهواه، ولا إرادة إلا لما يريده منه مولاه، فحينئذٍ لا ينطق العبد إلا بذكره، ولا يتحرك إلا بأمره، فإن نطق نطق بالله، وإن سمع سمع به، وإن نظر نظر به؛ انتهى؛ من ((جامع العلوم والحكم، ص ٦٨٤، ط دار ابن الجوزي، ت: طارق عوض الله)).

 

قال بعضهم:

ساكنٌ في القَلْبِ يعمُــــــــرُه   ***   لستُ أنساه فأَذْكُــــرُهُ 

غابَ عن سَمْعي وعَنْ بَصَري   ***   فسُوَيدا القلب تُبصِرُهُ 

 

٥- الانشغال عنه بغيره؛ بحيث لا يطرأ عليه الذكر إلا نادرًا، وهذه آفة القراءة في غير الكتب الشرعية، والعمل الموجب للتركيز البالغ، ولا مطعن في العمل بحد ذاته، وهي آفة الجليس الفاسد، الذي يفسد على المرء دينه، ويصده عن ذكر ربه؛ بل لو أنه ذَكَّرَه بربه، وأمره ونهيه، وكان ذلك دأبه في حياته، لما أطلق عليه لفظ "جليس السوء".

 

قال الله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} [الفرقان: 27 - 29].

 

وعن أَبي موسى الأَشعَرِيِّ رضي الله عنه أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّما مثَلُ الجلِيس الصَّالِحِ وَجَلِيسِ السُّوءِ كَحَامِلِ المِسْكِ، وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحامِلُ المِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ ريحًا طيِّبةً، ونَافِخُ الكِيرِ إِمَّا أَن يَحْرِقَ ثِيابَكَ، وإمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا مُنْتِنَةً»؛  (متفقٌ عَلَيهِ).

 

وعن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا تَصْحَبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ»؛ أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي.

 

وعن ابن عباس رضي الله عنهما: من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله؛ فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئًا.

 

وقال ابن القيم: الأصدقاء ثلاثة؛ الأول: كالغذاء لا بد منه، والثاني: كالدواء يحتاج إليه وقت دون وقت، والثالث: كالداء لا يُحتاج إليه قط؛ فالأول هو الجليس الصالح، والثالث هو الجليس السوء، والثاني هو الجليس الذي به بعض صفات السوء؛ ولكن يُرتجى منه الخير.

 

وذكر ابن الجوزي في "صيد الخاطر ٣٩١" طرفًا مما وقع له مع أهل زمانه، حيث قال: كان لنا أصدقاء وإخوان أعتد بهم، فرأيت منهم من الجفاء وترك شروط الصداقة والأخوة عجائب، وجمهور الناس اليوم معارف، ويندر فيهم صديق في الظاهر؛ فأما الأخوة والمصافاة، فذاك شيء نسخ، فلا يطمع فيه، وما أرى الإنسان تصفو له أخوة من النسب ولا ولده ولا زوجته، فدع الطمع في الصفا، وخذ عن الكل جانبًا، وعاملهم معاملة الغرباء، وإياك أن تنخدع بمن يظهر لك الود، فإنه مع الزمان يبين.

 

وقال فتح الموصلي: المُحب لا يجد مع حب الله عز وجل للدنيا لذة، ولا يغفل عن ذكر الله طرفة.

 

وقال بعضهم: المحبُّ لله طائر القلب، كثير الذكر، متسبب إلى رضوانه بكل سبيل يقدر عليها من الوسائل والنوافل دَوْبًا دوبًا، وشوقًا شوقًا.

 

قال الحافظ ابن رجب: ومن أعظم ما يتقرب به إلى الله عز وجل من النوافل كثرة تلاوة كتابه، وسماعه بتدبر وتفكر وتفهُّم، قال خباب بن الأرت رضي الله عنه لرجل: تقرَّبْ إلى الله ما استعطتَ، واعلم أنَّكَ لن تتقرب إليه بشيء هو أحب إليه من كلامه.

 

كان بعضهم يُكْثِرُ تلاوة القرآن، ثم اشتغل عنه بغيره، فرأى في المنام قائلًا يقول له:

 

إنْ كُنتَ تَزْعُمُ حبي   ***   فلمَ جَفَوْتَ كِتابـــي 

أَمَا تأمَّلت ما فيـــــ   ***   ـه مِنْ لَطِيفِ عِتَابي 

 

ومن ذلك كثرة الذكر الذي يواطأ عليه القلب واللسان. انتهى باختصار؛ من ((جامع العلوم والحكم، ص ٠٨٦_١٨٦)).

 

هذا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.