الأولاد أمانة ومسؤولية

يقول الإمام الغزالي: "الطفل أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما يُنقَش فيه، ومائل إلى كل ما يُمال به إليه، فإنْ عُوِّد الخير وعُلِّمه، نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة...

  • التصنيفات: التربية والأسرة المسلمة - تربية الأبناء في الإسلام -

إن من النعم العظيمة التي تستوجب منا الشكر، والحفاظ عليها، ورعايتها حتى تظل نعمةً تقر بها العين - نعمةَ الأولاد، فهم - إذا صلحوا - عمل يُستثْمَر للأبوين حتى بعد موتهما؛ روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات الإنسان، انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له».

 

وإذا لم يصلحوا، يكدر عيشهم وعيش آبائهم الذين لم يراعوا المسؤولية، ولم يقوموا بالأمانة كما ينبغي، فالأولاد مسؤولية عظيمة، وأمانة جسيمة مُلقَاة على كاهل الأبوين، والمعلمين، وكل من يتولى رعايتهم وإرشادهم؛ قال الله تعالى:  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27]، وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته، والأمير راعٍ، والرجل راعٍ على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده، فكلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته».

 

ومن رحمة الله بنا أن الولد يُولَد على الفطرة والميول إلى حب الخالق والدين، حتى لو تُرِك وشأنه، لاختار الدين الإسلامي الحق؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يُولَد على الفطرة؛ فأبواه يُهوِّدانه، أو يُنصِّرانه، أو يُمجِّسانه؛ كمَثَل البهيمة تُنتجُ البهيمةَ، هل ترى فيها جدعاءَ»؟.

 

فالمولود يُولَد على الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فما على الوالدين إلا الحفاظ على الخير الموجود في المولود، وصيانته من كل الشرور التي تتربص به.

 

ومن المؤسف أن يكون الوالدان مع تقصيرهما في حفظ ولدهما سببَ الانحراف ومفتاحَ الشر؛ فالوالدان لهما دور كبير في صلاح الولد أو فساده؛ يقول الإمام الغزالي: "الطفل أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما يُنقَش فيه، ومائل إلى كل ما يُمال به إليه، فإنْ عُوِّد الخير وعُلِّمه، نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبواه، وكل معلم له ومؤدب، وإن عوِّد الشر، وأُهمل إهمال البهائم، شَقِيَ وهلك"، ويقول الإمام ابن القيم: "وكم ممن أشقى ولده وفلذة كبده في الدنيا والآخرة بإهماله وترك تأديبه، وإعانته له على شهواته، ويزعم أنه يكرمه وقد أهانه، وأنه يرحمه وقد ظلمه وحرمه، ففاته انتفاعه بولده، وفوت عليه حظه في الدنيا والآخرة، وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد، رأيتَ علمته من قِبل الآباء"، ويمكن أن نقول في زمننا: "وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد، رأيت علمته من قِبل الأمهات".

 

فهؤلاء العلماء يحذرون من إهمال الولد وعدم تربيته في زمنٍ لم تكن فيه تكنولوجيا، ولا تلفاز، ولا وسائل التواصل الاجتماعي، فكيف بزمننا الذي عمَّت فيه وسائل التواصل الاجتماعي، واستعمرت عقول جُلِّ الشباب، وجعلتهم مدمنين عليها، لا يستفيقون منها إلا إذا أحسوا بالجوع أو العطش، وهذا أمر لا غرابة فيه، فوسائل التواصل سلبت عقول الكبار، فكيف بالصغار إذا تركوا، ولم يجدوا من يأخذ بأيديهم، ويقنن لهم الدخول إذا كان من أجل الاستفادة أو الترويح على النفس من أجل أن تعيد نشاطها، وتستعيد قوتها، وتقبل على ما هو مطلوب منها؟

 

فتربية الأولاد ورعايتهم مسؤولية جسيمة، قد يتسبب إهمالها، وعدم الحفاظ عليها في مصير مؤلم ينتظر الوالدين؛ ففي الصحيحين عن أبي يعلى معقل بن يسار قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبدٍ يسترعيه الله تعالى رعية، يموت يوم يموت وهو غاشٌّ لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة».

 

 

فعلى الوالدين أن يقدِّرا هذه المسؤولية، وأن يعلما أن المسؤولية لا تقتصر على الطعام والشراب، والملبس والمسكن، وإنما تشمل أيضًا التعليم، والتأديب، والإرشاد، والتوجيه؛ قال الله تعالى:  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]؛ قال أهل التفسير:  {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ}؛ أي: فقِّهوهم وأدِّبوهم، وادعوهم إلى طاعة الله تعالى، وامنعوهم عن استحقاق العقوبة بإرشادهم وتعليمهم.

 

ومن أهم ما يعين على القيام بأمانة الأولاد الدعاءُ:

 

الدعاء بالذرية الطيبة قبل أن توجد، فالمؤمن يدعو ربه أن يرزقه الذرية الطيبة الصالحة، وهذه من صفات عباد الرحمن؛ قال الله تعالى:  {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان: 74]، ومن صفات الأنبياء أيضًا؛ قال الله تعالى حكاية عن سيدنا زكريا:  {قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران: 38].

 

 

وأرشدنا رسولنا الكريم إلى دعاء يحفظ الولد من كيد الشيطان قبل أن يُوجَد؛ فقال عليه الصلاة والسلام: «لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتيَ أهله، قال: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنِّب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يُقدَّر بينهما ولدٌ في ذلك، لم يضره شيطان أبدًا».

 

الدعاء لهم بالصلاح والهداية والخير حينما يُولدوا؛ قال الله تعالى حكاية عن سيدنا إبراهيم {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35]، وقال سبحانه حكاية عن سيدنا إبراهيم أيضًا:  {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40]، وقال سبحانه حكاية عن سيدنا إبراهيم أيضًا:  {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128].

 

فدعاء الوالدين كله خير وبركة؛ قال عليه الصلاة والسلام: «ثلاث دعوات تُستجاب لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة الوالد، ودعوة المسافر»، ومن أجل هذا حذرنا ديننا الإسلامي من الدعاء على الأولاد؛ فقد روى الإمام مسلم عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يُسأل فيها عطاءٌ فيستجيب لكم».

________________________________________________________

الكاتب: الجيلالي نمير