تَذَكُّر النِّعَم وآثاره التربوية

أحمد عبد المجيد مكي

المتأمل في منهج القرآن، يلحظ أن الله يحض عباده على دوام ذِكْر النِّعَم، وذلك في مواضع كثيرةٍ

  • التصنيفات: التقوى وحب الله - الطريق إلى الله -

 

      في كل طرفة عين، ودقة قلب، يتعرف الله إلى عباده بما يفيض عليهم من بركاته، وينزل عليهم من خيراته، وهي بركات وخيرات متجددة على اختلاف الليل والنهار؛ فمن اعتبر حال نفسه، وفتش على ما خصه الله به، وجد نعمًا كثيرة، كالصحة، والأمن، والستر، والعقل، وحسن الهيئة، وحسن الخلق، والزوجة الصالحة، والولد الصالح، والمال الحلال، وغير ذلك، هذا فضلاً عن النِّعَم العامة التي تحيط به من كل مكان.

    ولو حاول فَرْدٌ مِن أفراد العباد، أَنْ يُحصي ما أنعم الله به عليه في خلق عضو مِن أعضائه، أو حاسة مِن حواسه؛ لم يقدر على ذلك قط،

    والأدلة على أنَّ نعم الله التي تغمر العبد زمانًا ومكانًا، وجسدًا وروحًا؛ كثيرة جدًا، منها قوله تعالى: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}  [إبراهيم: 34]، [النحل: 18]، وقوله تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}  [لقمان: 20].

   الأمر بذِكْر النِّعَم في القرآن الكريم :

    المتأمل في منهج القرآن، يلحظ أن الله يحض عباده على دوام ذِكْر النِّعَم، وذلك في مواضع كثيرةٍ، منها:

   قوله تعالى:  {يأيها النَّاس اذكروا نِعْمَة الله عليكم} [فاطر: 3]، وقوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَة اللهِ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 11].

    وكرر الله على بني إسرائيل التذكير بنعمته، وعظًا لهم، وتحذيرًا وحثًا؛ حيث ورد قوله تعالى: {{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ}} ، في ثلاثة مواضع من سورة البقرة؛ وهي الآيات أرقام [40، 48، 122].

    وما من نَبِيّ من أنبياء الله إلا ذَكَّر قومه بهذه العبادة، إيقاظًا لعقولهم وتحريكًا لقلوبهم، قال تعالى: {{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ}} [المائدة: 20، إبراهيم: 6].

 وقال تعالى على لسان عدد من أنبيائه: {{فاذكروا آلاء الله}} [الأعراف 69، 74]؛ وآلاء أي نِعَمٌ كثيرة، مفردها: أَلْو وإلًى وأَلًى.

   وكان السَّلَف الصالح يتقربون إلى الله بذكر النِّعَم، وأخبارهم كثيرة في هذا، فقد جلس الفُضيلُ بن عياض، وسفيان بن عيينة؛ يتذاكران النِّعَم إِلَى الصباح، وقرأ الفُضيلُ ليلةً قوله تعالى: {{أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} } [البلد: 8،9]، فبكى، فسئل عن بكائِهِ، فقال: هل بتَّ ليلة شاكرًا لله أنْ جعل لك عينين تُبصر بهما؟ هل بتَّ ليلةً شاكرًا لله أنْ جعل لك لسانًا تنطق به؟، وجعل يعدِّد من هذا النوع([1]).

ذِكْر النِّعَم في دعاء النبي:

    أما  نَبِيُّنا  فلم يغب ذِكْر النِّعَم عن باله: فكان يقولُ في دُبُرِ كلِّ صلاةٍ حينَ يُسلمُ: ««لا حولَ ولا قُوَّةَ إلا بِاللهِ، لا إلهَ إلا اللهُ، ولا نَعبُدُ إلا إيَّاه، لَهُ النِّعْمَة، ولَهُ الفَضْلُ، ولَهُ الثَّنَاءُ الحَسَنُ»» ([2]).

ومن أدعيته المأثورة التي مَنْ قالها حين يُصبحُ فقد أدَّى شُكْرَ يَوْمِهِ، وَمَنْ قال مِثلَ ذلك حين يُمسْي، فقد أدَّى شُكْرَ لَيلَتِهِ: ««اللَّهمَّ ما أصبحَ بي من نِعْمَةٍ،  أو بأحدٍ من خَلْقِكَ؛ فَمِنْكَ وحدَكَ، لا شَريكَ لَكَ، لَكَ الحمدُ، ولك الشُّكْر»» ([3]).

    وفي دُعاء سَيِّد الاستغفار: ««أَبُوءُ لَكَ بِنعْمَتكَ عَليَّ، وَأَبُوءُ لك بِذَنْبي، فاغْفِر لِي؛ فَإنه لا يغفرُ الذنوبَ إِلا أنتَ»» ([4]).

    وفي تلبيته في الحج والعمرة: ««لبَّيكَ اللَّهُمَّ لبَّيْك، إنَّ الحمدَ والنِّعْمَة لك والمُلْك»» .

   ولتَذَكُّرِ النِّعَم فوائد تربوية عظيمة، منها:

   أولًا: مَحَبَّة الله عَزَّ وَجَلَّ على إحسانه وإنعامه:

    مَنْ أحَبَّ الله وأحبه الله، فقد ظفر بالغاية القصوى، والمقصد الأسنى؛ فحب الله عز وجل أصل عظيم من أصول الإيمان، ومصدر السعادة للإنسان في دنياه وأخراه، والمَحَبَّة درجات متفاوتة، بعضها أكمل من بعض، وتنقسم باعتبار الباعث عليها إلى مَحَبَّة بدافع الإجلال والكمال،  ومَحَبَّة تنشأُ من التفكير في نِعَم الله الباطنة والظاهرة؛ ويفصل ذلك شيخ الإسلام بن تيمية (توفى: 728هـ) بقوله:

أصل المحبة هو معرفة الله سبحانه وتعالى، ولها أصلان:

الأصل الأول: وهو الذي يقال له (مَحَبَّةُ العَامَّةِ لِأَجْلِ إحْسَانِهِ إلى عِبَادِهِ) وهذه المحبة -على هذا الأصل- لا يُنْكِرُهَا أَحَدٌ ، فَإِنَّ القلوب مجبولة على حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إليها، وبُغْضِ مَنْ أساء إليها. والله سبحانه هو الْمُنْعِمُ الْمُحْسِنُ إلى عبده بالحقيقة فَإِنَّهُ الْمُتَفَضِّلُ بجميع النِّعَمِ وإِنْ جَرَتْ بواسطة؛ إذ هو مُيَسِّرُ الوسائط و مُسَبِّبُ الأسباب ...

 الأصل الثاني: هو مَحَبَّتُهُ لما هو له أَهْلٌ ، وهذا حُبُّ مَنْ عَرَفَ مِنْ اللَّهِ ما يَسْتَحِقُّ أَنْ يُحَبَّ لِأَجْلِهِ ، وما من وجه من الوجوه التي يعرف الله بها- مما دلت عليه أسماؤه وصفاته- إلا وهو يَسْتَحِقُّ المحبة الكاملة من ذلك الوجه ، حتى جميع مفعولاته ، إذْ كُلُّ نِعْمَةٍ مِنْهُ فَضْلٌ، وكُلُّ نِقْمَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ، ولهذا اسْتَحَقَّ أَنْ يكون محمودا على كل حال و يَسْتَحِقُّ أَنْ يُحْمَدَ على السراء والضراء، وهذا أعلى وأكمل، وهذا حُبُّ الْخَاصَّةِ ([5]).

    ثانيًا: الإزراء بالنفس والشعور بالتقصير في حق الله تعالى:

حال الصالحين-إذا مَنَّ الله عليهم بالنعم الجليلة- أضافوها إلى واهبها ومُولِيها وازدادوا بها انكسارًا وتواضعًا، كما قال سليمان عليه السلام، لما حضر عنده عرش ملكة سبأ مع البعد العظيم: {{هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ}} [النمل: 40]، وقال تعالى على لسان ذي القرنين لما بنى السد: {{هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي}} [الكهف: 98]. بخلاف أهل التجبر والتكبر والعلو في الأرض؛ فإن النِّعَم تزيدهم أشَرًا وبَطَرًا، قال تعالى حكاية عنهم: {{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا}} [النحل: 83]؛ أي يعرفونها في الشدة وينكرونها في الرخاء، ويحتمل: يعرفونها بأقوالهم وينكرونها بأفعالهم، ويعرفونها بقلوبهم ويجحدونها بألسنتهم.

    وقد ذَمَّ الله من أضاف النِّعَم إلى نفسه وعلمه وقوته، ولم يضفها إلى فضل الله وإحسانه، كما قال تعالى حكاية عن قارون: {{إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}} [القصص: 78]، وقوله تعالى: {{فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَان ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِّعْمَة مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ}} [الزمر:49]، أي: علم من الله أني أهل لهذه النِّعْمَة ومستحق لها، أو على عِلْم مِنِّي، أي لمعرفتي بطرق تحصيلها، نظرًا لخبرتي وقوتي وذكائي.

    وليكن معلوما أنَّ العبد إن اجتهد في العمل والطاعة، بعدد الرمال والتراب والحصى والقطر وعدد أنفاس الخلائق وعدد ما خلق الله؛ فإنه لن يوفي الله شكر نِعْمَة واحدة.

     ثالثًا: القيام بشكر الله عَزَّ وَجَلَّ:

   أصل الشُّكْر في اللغة: ظهور أثر الغذاء في بَدَن الحيوان ظهورًا بيِّنًا، والشَّكُور من الدّواب: الذي يكفيه العَلَف القليل ليسمَن عليه.

    وكذلك حقيقته في الشرع، وهو ظهور أثر نِعْمَة الله على لسان عبده وقلبه وجوارحه، فالشُّكْر بالقلب استشعار قيمة النِّعْمَة، والإقرار أَنَّهَا من الله.

والشُّكْر باللسان: ذكر النِّعَم، وتعدادها وإظهارها، واشتغال اللسان بالثناء على الله عَزَّ وَجَلَّ.

 والشُّكْر بالجوارح: ألا يستعان بالنِّعَم إلا على طاعة الله عَزَّ وَجَلَّ، وأن يحذر من استعمالها في شيء من معاصيه.

    وقد أَمَرَ الله بالشُّكْر، ونَهَى عن ضدّه، ووصف به خواصّ خَلْقه، وأَثنى على أَهله ووعَدهم بأَحسن جزائه، وجعله سببًا للمزيد من فضله، وحارسًا وحافظًا لنعمته، قال جلَّ ذكره حكاية عمن كمل عقله وبلغ رشده: {{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ...}} [الأحقاف: 15]، وهو نفس دعاء نَبِيّ الله سليمان حين سمع كلام النملة، ومعنى أوزعني: أي ألهمني ووفقني.

 وقال تعالى: {{اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} } [سبأ: 13]، ولم يقل: اشكروا؛ لينبّه على أنَّ الشُّكْر يشمل الأَنواع الثلاثة،  قيل: «لم يأتِ عليهم ساعة مِن ليل أو نهار إلا وفيهم مصلٍّ يصلي».

    وأعظم من قام بهذا الأمر، هم الأنبياء والمرسلون عليهم السلام، وفي مقدمتهم  نَبِيُّنا  صلى الله عليه وسلم، الذي كان يقوم الليل حتى تتورم قدماه، فلما سألته عائشة: لمَ تصَنْع هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟، قال: «أفلا أحب أن أكون عبدًا شكورًا»([6]).

    رابعًا: تقرير التوحيد والنبوة والبعث:

     فالنِّعَم العامة والخاصة من أقوى الأدلة على وحدانية الله وقدرته، وعظيم كرمه وجوده في تلبية حاجة عبيده، ورحمته بهم في تحقيق حوائجهم ومصالحهم، ومن الشواهد على ذلك- من القرآن الكريم - أن سورة النحل تُسَمَّى بسُورَة النِّعَمِ ، وذلك بِسَبَبِ ما عَدَّدَ اللَّهُ فيها مِنْ نِعَمِهِ على عِبَادِهِ، وقد  ختم الله عز وجل كثيرًا من آيات تعداد النعم فيها بـقوله تعالى : لعلكم تهتدون، لعلكم تشكرون، لعلكم تسلمون، لعلكم تذكرون، لعلهم يتفكرون، لقوم يتفكرون، لقوم يعقلون، لقوم يذكرون، لقوم يؤمنون، لقوم يسمعون، وبعضها تكَرَّرَ أكثر من مرة؛ وذلك ليحث عباده على التذكر والتفكر في نِعَمِه، والنظر إليها بعين الاعتبار والاستدلال، لا بعين الغفلة والإهمال؛ لتبقى القلوب موصولة بالله عند كل حركة في الحياة، لا تغفل عن مراقبته سبحانه. ولا تتبلد بالركود والغفلة والنسيان.

     وفي سورة الرحمن شرح وتفصيل لعشرات النِّعَم الدينية والدنيوية والآخروية، وبعد كل جنس ونوع من نِعَمِه، ينبه الجن والإنس لشكره، ويقول: {{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}} [الرحمن]، جَدِيرٌ بِالذِّكْرِ أنَّ هذه الآية وَرَدَتْ في السورة إحدى وثلاثين مرة، والهدف من ذلك تقرير النِّعَم وتأكيد التذكير بها، كقول الرجل لمن أحسن إليه بأنواع النِّعَم، وهو ينكرها: ألم تكن فقيرًا فأغنيتك، أفتنكر هذا؟ ألم تكن عريانًا فكسوتك، أفتنكر هذا؟ ... ومثل هذا الأسلوب شائع في كلام العرب.

ويروى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خَرَجَ على أصحابه، فقرأَ عليهم سورة الرحمن، من أَولها إلى آخِرِها، فسَكَتُوا، فقال: «لقد قرأتُها على الجِنِّ، فكانُوا أحسنَ مردودًا منكم، كنتُ كُلَّما أتيتُ على قوله: فبأيِّ آلاءِ ربِّكما تُكَذِّبان، قالوا: لا بشيء من نِعَمِكَ ربَّنَا نُكَذِّبُ، فَلكَ الحمد» ([7]).

    نسأل الله أن يرزقنا شكر نعمته، ويسر طاعته، وتمام عافيته ، اللهم آمين.

 

([1]) جامع العلوم والحكم (2/75).

([2]) رواه مسلم (594)، وأبو داود (1506).

([3]) رواه أبو داود (5073)، وابن حبان (2361).

([4]) رواه البخاري (6306).

([5]) مجموع الفتاوى (10/ 85).

([6]) رواه البخاري (4557)، ومسلم (2820).

([7]) رواه الترمذي (3291)، والحاكم (3766).