الأعمار بالإنجازات لا بالسنوات
يخطئ الناس عندما يقيسون أعمارهم بالسنوات التي عاشوها على الأرض، فيقولون فلان مات صغيرا، وفلان تخطفته أيدي المنون سريعا، وفلان أدركه الموت قبل أن يفعل شيئا.
- التصنيفات: قضايا الشباب - تزكية النفس -
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
جاء في الحكم العطائية:
"رب عمر اتسعت آماده وقلت أمداده، ورب عمر قليلة آماده كثيرة إمداده، فمن بورك له في عمره أدرك في يسير من الزمن من منن الله تعالى ما لا يدخل تحت دوائر العبارة ولا تلحقه الإشارة.".
يخطئ الناس عندما يقيسون أعمارهم بالسنوات التي عاشوها على الأرض، فيقولون فلان مات صغيرا، وفلان تخطفته أيدي المنون سريعا، وفلان أدركه الموت قبل أن يفعل شيئا.
إن المقياس الحقيقي للأعمار هو إنجازات الإنسان في المدة التي عاشها على الأرض سواء كانت طويلة أوقصيرة، فكم من أناس عمروا في هذه الدنيا ثم خرجوا منها ولم يتركوا أثرا ذا بال ولا ذكرهم أحد بعد موتهم، بينما هناك أناس عاشوا سنوات قليلة، وكانت أعمارهم الزمنية قصيرة، ولكن حياتهم استمرت بعد موتهم مئات بل آلاف السنين بسبب انجازاتهم التي قدموها للبشرية، وأعمالهم التي خلدت ذكرهم بين الناس، وجعلتهم يترحمون عليهم أويثنون عليهم كلما ذكروا أوذكرت أعمالهم وعلومهم التي خلفوها.
سعد بن معاذ رضي الله عنه:
"والذي نفسي بيده لقد استبشرت الملائكة بروح سعد، واهتز له العرش" أقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الملائكة استبشرت بروحه رضي الله عنه، وأن عرش الرحمن اهتز لموته.إنه سعد بن معاذ سيد الأوس، أسلم على يد مصعب بن عمير رضى الله عنه وكان عمره ثلاثون عاما تقريبا، وكان سببا في إسلام قومه بني عبد الأشهل عن آخرهم.
شارك في غزوة بدر الكبرى وكان له فيها موقف رائع، عندما استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فقال سعد " «قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به الحق، وأعطيناك مواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق، لواستعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، لعل الله يريك فينا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله».
وكان رضي الله عنه ممن ثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم عندما اضطربت الصفوف وفر الكثيرون، وشارك رضي الله عنه في غزوة الخندق وشاهد خيانة بني قريظة وأصيب بسهم قطع منه الأكحل، فدعا الله ألا يميته حتى تقر عينه من بني قريظة، واستجاب الله لدعوته، واستسلم بنوقريظة بعد حصار دام 25 يوما وطلبوا تحكيم سعد بن معاذ فيهم، فاستدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكم بقتل الرجال وسبي الذراري، فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «والذي نفسي بيده، لقد أشرت عليّ فيهم بالذي أمرني الله به». ثم مات سعد بن معاذ من يومه متأثرا بجرحه في غزوة الخندق، وكان عمره رضي الله عنه 37 سنة، وعمره في الإسلام 6 سنوات أوأكثر قليلا. وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الملائكة نزلت من السماء لتصلي عليه: "لقد نزل سبعون ألف ملك شهدوا سعد بن معاذ، ما وطئوا الأرض قبل ذلك اليوم".
عمر بن عبد العزيز رحمه الله:
ولد عمر بن عبد العزيز رحمه الله عام 61 هـ وكانت وفاته عام 101 هـ، أي أنه مات وهو ابن أربعين سنة. تولى الخلافة في عام 99 هـ واستمرت خلافته سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام، وقد أنجز في عمره القصير ما يدهش العقول ويبعث على الاعجاب، ولا سيما في فترة الخلافة.
كان عصرُ عمر بن عبد العزيز عصرًا مميَّزًا عن العصور التي تلته، وكانت سيرته أشبه بسيرة الخلفاء الراشدين، ولذلك أطلق عليه لقب "خامس الخلفاء الراشدين"، عندما تولى الخلافة رد جميع المظالم إلى أهلها، وعزل كل قضاة وولاة بني أمية الظلمة، وأخرج المسجونين ظلما من السجون، وأطلق الحريات وأقام العدل بين الناس، واهتم بالعلم والعلماء وقربهم إليه وجعلهم أهل مشورته لا يخرج عن أقوالهم، وأمر بتدوين السنة النبوية حتى لا تضيع، ونشر الأمن والأمان في ربوع الدولة الإسلامية مترامية الأطراف، وعاش رحمه الله عيشة الزهاد، وعزف عن الدنيا، وكان كثيرا ما يبكي لشعوره بهول المسؤولية الملقاة على عاتقه، وأنه سوف يسأل أمام الله عن كل ما استرعاه، وكان يتمثل دائما بهذا البيت من الشعر:
تجرد من الدنيا فإنك إنما * خرجتَ إلى الدنيا وأنت مجردُ
الإمام النووي رحمه الله:
أبو زكريا يحيى بن شرف الحزامي النووي الشافعي عاش 45 عاما، ولد في عام (631هـ-1233م) وتوفي رحمه الله في عام (676هـ-1277م)، وفي هذه المدة الوجيزة ملأ الدنيا بعلمه وألف الكثير من الكتب في الفقه والحديث واللغة والتراجم، كرياض الصالحين والأربعين النووية ومنهاج الطالبين، وروضة الطالبين وعمدة المفتين، وشرح صحيح مسلم، والمجموع شرح المهذب وغيرها من الكتب والتصانيف الرائعة التي كتب الله لها القبول في مشارق الأرض ومغاربها وما زال الناس يتدارسونها في المدارس والمساجد والجامعات.
ابن المقفع:
من الأدباء الذين لم يعمروا طويلا، الأديب الأريب، وصاحب التصانيف أبومُحمّد عبد الله بن المقفع (106 - 142 هـ). كان فارسيا مجوسيا فأسلم ولكن ظلت الشكوك تحوم حول إسلامه. قتل ابن المقفع وكان عمره 36 سنة (اتهموه بالزندقة فقتله سفيان بن معاوية والي البصرة بإيعاز من الخليفة أبي جعفر المنصور). وبعيد عن الخوض في مسألة اتهامه بالزندقة، وهل كان هذا الاتهام صحيحا أم ملفقا للإيقاع به، فقد ترك ابن المقفع في هذه الفترة الوجيزة التي عاشها إرثا هائلا من كتب الأدب والمؤلفات المفيدة وقد نقل بعضها من الفارسية واليونانية وأشهرها:
- كليلة ودمنة ـ نقله عن الهندية.
- الأدب الكبير.
-الأدب الصغير.
أبوالقاسم الشابي رحمه الله:
ابوالقاسم الشابي (1909- 1934م) شاعر تونسي، مات وهوابن خمس وعشرين سنة تاركا لنا أروع القصائد وأعذبها عن الحرية وعن الظلم والاستبداد. وما يزال المناضلون من أجل الحرية يتغنون بكلماته:
ومما قاله الشابي رحمه الله في الظلم والاستبداد:
ألا أيها الظَّالمُ المستبـــــــــــــدُ *** حَبيبُ الظَّلامِ، عَدوالحيـــــــاهْ
سَخَرْتَ بأنّاتِ شَعْبٍ ضَعيـــــفٍ *** وكفُّكَ مخضوبة ُ من دِمــــــاهُ
وَسِرْتَ تُشَوِّه سِحْرَ الوجــــــودِ *** وتبدرُ شوكَ الأسى في رُبـــــاهُ
رُوَيدَكَ! لا يخدعنْك الربيــــــــعُ *** وصحوالفَضاءِ، وضوءُ الصـباحْ
ففي الأفُق الرحب هولُ الظلام *** وقصفُ الرُّعودِ، وعَصْفُ الرِّياحْ
حذارِ! فتحت الرّمادِ اللهيــــــبُ *** ومَن يَبْذُرِ الشَّوكَ يَجْنِ الجـراحْ
هاشم الرفاعي رحمه الله:
عندما قتل هاشم الرفاعي كان ما يزال طالبا في كلية دار العلوم ولم يتجاوز عمره أربعا وعشرين سنة (1935-1959 م). كان هاشم الرفاعي شاعرا مطبوعا، كأنه ولد ليقول الشعر، وقد تميز شعره بالحماس المفرط، والشعور المتأجج والعاطفة المتقدة، مع جمال العبارة ولطافة الصياغة ، وقد ترك ما يَزيد على 187 قصيدة شعريَّة تناول فيها الكثير من القضايا الإسلاميَّة، وقضايا النضال من أجل الحرية التي غابت عن المجال الأدبي في عصره.
ومن شعر "هاشم الرفاعي" ما صاغه على لسان أحد المناضلين في رسالة إلى والده قبل تنفيذ حكم الإعدام فيه قائلًا:
أبتاه ماذا قد يخطُّ بناني والحبلُ والجلادُ ينتظرانـــــي
هذا الكتابُ إليكَ مِنْ زَنْزانَةٍ مَقْرورَةٍ صَخْرِيَّةِ الجُـــــدْرانِ
لَمْ تَبْقَ إلاَّ ليلةٌ أحْيا بِها وأُحِسُّ أنَّ ظلامَها أكفـــــــــــانـي
سَتَمُرُّ يا أبتاهُ لستُ أشكُّ في هذا وتَحمِلُ بعدَها جُثمانـي
لليلُ مِنْ حَولي هُدوءٌ قاتِلٌ والذكرياتُ تَمورُ في وِجْدانـي
وَيَهُدُّني أَلمي فأنْشُدُ راحَتي في بِضْعِ آياتٍ مِنَ القُــــــرآنِ
والنَّفْسُ بينَ جوانِحي شفَّافةٌ دَبَّ الخُشوعُ بها فَهَزَّ كَيانـي
قَدْ عِشْتُ أُومِنُ بالإلهِ ولم أَذُقْ إلاَّ أخيرًا لذَّةَ الإيمـــــــــــانِ
شكرا لهم أنا لا أريد طعامهم فليرفعوه فلست بالجوعـــان
هذا الطعام المر ما صنعته لي أمي ولا وضعوه فوق خوان
كلا ولم يشهده يا أبتي معي أخوان جاءاه يستبقــــــــــان
ومن القصائد الإسلامية رائعته " شباب الإسلام " التي يتحدث فيها عن أمجاد الأمة الإسلامية والتي يقول فيها:
مَلَكْنَا هذه الدنيا قرونَـــــــــا *** وأخضعها جدودٌ خالدونَـــــا
وَسَطَّرْنَا صحائفَ من ضيــاءٍ *** فما نَسِيَ الزمانُ ولا نَسِينَــا
حملْنَاها سيوفًا لامعــــــــاتٍ *** غداةَ الرَّوْع تأبى أنْ تَلِينَـــــا
إذا خَرَجَتْ من الأغماد يومًا *** رأيتَ الهول والفتحَ المبينَـــا
وكنا حين يأخذُنَا وَلِـــــــــيٌّ *** بطغيانٍ ندوسُ لهُ الجبينَـــــا
تفيضُ قلوبنا بالهديِ بأسًـــا *** فما نُغضي عَنِ الظُّلْمِ الجفونَا
وهناك الكثير والكثير ممن العلماء والأدباء والشعراء الذين لم يعمروا طويلا ولكنهم تركوا ورآهم أعمالا جليلة وإنجازات رائعة انتفعت بها البشرية، والذين ذكرناهم هنا مجرد أمثلة.
كانت أعمارهم قصيرة ولكنهم عرفوا قيمة الوقت وعرفوا كيف يستفيدون من كل لحظة من أعمارهم.
نسأل الله أن يبارك في أعمارنا وأن يوفقنا للعمل الصالح الذي يحيي ذكرنا بعد أن تموت أجسادنا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
__________________________________________________________
الكاتب: جهلان إسماعيل