من لآلئ القلوب: الصِّدق

الصِّدقُ يتصدَّر مكارم الأخلاق كما تتصدَّر الشمس مجموعةَ الكواكب، فهو روضةُ القلوب الغنَّاء، وزهرةُ المروءةِ الفيحاء، وابتسامةُ الضَّمائر الواعدة.

  • التصنيفات: محاسن الأخلاق - أخلاق إسلامية -

الصِّدقُ يتصدَّر مكارم الأخلاق كما تتصدَّر الشمس مجموعةَ الكواكب، فهو روضةُ القلوب الغنَّاء، وزهرةُ المروءةِ الفيحاء، وابتسامةُ الضَّمائر الواعدة.


الصِّدق بساطُ المحبَّة الناعم، وعُرى الألفة المتماسكة، وظلُّ السِّدرة المتراخي في وقت الهاجرة.

وُلِد معَ أول إطلالةٍ للشمس على ربوعِ البريَّة، وهمى مع أول سحابةٍ ماطرة بثَّت ظماءَ التلال أشواقَها البِكر، وفاح مع أول نسمةٍ شذيَّة هبَّت على أرجاء المعمورة، فعانقت حِمى البيت العتيق، وتعطَّرت - وهي معطَّرة - من أَرَجِ السماء الزكيِّ.


تكتنفُ سَمْتَهُ طلعةٌ رائقة ذاتُ مهابة ووَقار، وتعلو جبينَه مسحةٌ لطيفةٌ من الوَسامة.

هو درَّة في ليلٍ تدجَّى، وبريقٌ في جوهرة لم يحجُبْ سَناها طينُ القيعان أو زَبَدُ الموج الثائر.

قرأتُ عنه في الكتب فوجدته في أروع السُّطور، وأٍسمى المقامات، وأرفع الدرجات.

ونشدتُه في الناس فوجدتُه في أزكاهم نَفساً، وأطيبهم مَحتداً، وأحاسنهم أخلاقاً، وأنقاهم قلباً.

بحثتُ عنه في الشعر فوجدتُه وقد استحوذَ على أبلَغ الصُّور البيانيَّة، وأعذب التعابير وأرقِّها.

ما أشبهَه بالكلأ الزاهي الذي يحرِّكه نسيمُ الصَّبا المندَّى من صدى عشق الفجر المبارك، في الوقت الذي يَعجِز فيه دَويُّ الرَّعد الغاضب وثورةُ الزلازل المهتاجة عن تحريكه.


لكم جرَّبت من الأصدقاء فكان الصدقُ هو الأوفى، ولكم عاشرتُ من الصُّلَحاء فكان الأصلحَ..

كيف لا ؟! وهو صوت الحقِّ، ولغة البيان، وثمرةُ الإيمان.. قال تعالى: {يا أيُّها الَّذينَ آمَنوا اتَّقُوا الله وكُونُوا معَ الصَّادِقين}[1].

فما أبلغَها من آيةٍ أبرَزت قيمةَ الصِّدق، وجعلته أشبهَ بجذرِ الشَّجرة الذي تتغذَّى منه الأغصان، فالأوراق، فالبراعم، ثمَّ الثمار اليانعة.

وأما إذا عَقِمَ الجَذرُ، وأصابه المرضُ فأنَّى لأغصان الشَّجرة أن تتجمَّل بالأوراق الزَّاهية، أو تُعطي الثَّمر اللذيذ؟


عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلَّم قال: «إنَّ الصِّدقَ يَهْدي إلى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يَهدي إلى الجنَّة، وإنَّ الرَّجُل ليَصدُقُ حتَّى يُكتبَ عند الله صِدِّيقاً، وإنَّ الكَذِبَ يَهْدي إلى الفُجُور، وإنَّ الفُجُورَ يَهْدي إلى النَّار، وإنَّ الرَّجُلَ ليَكذِبُ حتَّى يُكتَبَ عندَ اللهِ كَذَّاباً» [2]  (متّفق عليه).


نعم هذا هو الصِّدق المثمرُ الذي تشكَّلت ملامحُ روعته في نفس الصادق الأمين والمبعوث رحمة للعالمين محمد صلى الله عليه وسلَّم، فاقتدى به محبُّوه، وأنصفه حسَّادُه الكفرة ومبغضوه، وذاك الذي عرفه أبو بكر جِبِلَّةً فعُرف به منارةً، و سكنَ قلبَ رِبْعِيِّ بن عامر فواجه به أكاسرةَ الباطل، وترعرع في صوت عمر، فوصل بإذن الله إلى جبال العراق ليُلامِسَ أذن سارية..

ماشى بلالاً فتحدَّى به زعماءَ الكفر والطُّغيان، وراح ينثُر إشراقات كلمة التوحيد عبرَ صوته الحاني غَماماتٍ تُظلُّ الحَزانى واليَتامى، وبيارقَ من المجد تُؤجِّج في النفوس جَذوةَ الإيمان، وترسمُ ملامحَ دروبِ الهداية التي تَخِِِذَت من غارِ حِراء نُقطة الانطلاق.


لعمري إنَّ شُعاع الصِّدق نفَّاذ، ومعانيه كثيرةُ الامتِداد، وأينما حلَّ فهو محبَّب ومنعَّم، فما أنداه في قُلوب الآباء وعلى ألسنتهم، وهو يتحدَّر سَلسبيلاً عذبَ المذاق يتلقَّفه الأبناء، ويُسكِنونَه قُلوبَهم ومحاجرَ عيونهم.


وما أعذَبَه حينما يتدفَّق مع حنان الأم، تلكم المربيةُ العظيمة التي تصنعُ أمجادَ الأمم، وتَحوكُ بَيارق العزَّة.. وأنعِم به من خصيصة في شخصية المعلِّم، فيشجِّع الطلابَ الصادقين، ويقوِّم مَن لم يأخذ الصِّدق مأخذَه فيه.


فمَن كان الصِّدق مَبدأه فليَهنَأ عَيشاً، وليَطمئنَّ بالاً؛ لأنه مُمسكٌ بسَنام الحقِّ وحِبال التوفيق.

وورَدَ في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَن سألَ اللهَ سبحانه وتعالى الشَّهادةَ بصِدقٍ بلَّغَه الله منازلَ الشُّهداء، وإن ماتَ على فِراشِه» رواه مسلم[3].


ولسموِّ مَقصِد الصِّدق ونُبل مَكانتِه تناوله الكُتَّاب أجملَ تناول، فأودعوا في ثنايا حُروفه السنيَّة أحسنَ الكَلِم، يقول أمين الرَّيحاني: "ازرَع الصِّدقَ والرَّصانَة تَحصُدِ الثِّقَةَ والأمانَة"[4].

ويقول إبراهيم اليازجي: "الصِّدق عَمود الدِّين، ورُكن الأدَب، وأصلُ المروءة"[5].

ويقول الكاتب العالمي ديوجين: "الصادقُ مَن يَصْدُقُ في أَفعالِهِ صِدقَه في أَقواله"[6].

ورحمَ الله شوقي إذ قال:

والمرءُ ليسَ بصادقٍ في قَولِهِ        حتَّى   يُؤَيِّدَ   قَولَه   بفِعالِ
 

ورحم الله الشاعرَ الذي قال:

الصِّدقُ  أفضلُ   شَيءٍ   أنتَ   فاعِلُهُ        لاشَيءَ كالصِّدقِ، لا فَخرٌ ولا حَسَبُ
 

ورحم الله القائل:

ما أَحسنَ الصِّدقَ في الدُّنيا لقائِلِه        وأقبحَ الكِذْبَ  عِندَ  اللهِ  والنَّاسِ
 

ما أقواهُ من وشيجةٍ، وأمتنه من مُرتكَز في علاقات الناس ومعاملاتهم، فحسبُ المرء أن يقولَ عنه الناس إنه صادق، لأنَّ وَهجَ الصِّدق المتألِّق إذا ما خَبا في سماء صاحبه فإنَّ إنسانيَّته ستُطعَن في الوَريد، وحديثُه سيكون أشبهَ بتُرابٍ على صَفوان في يومٍ عاصف، وأشبهَ بسحابةٍ من الدُّخان لا تَلبَثَ أن تتشكَّل حتى تَتلاشى في فضاء الكون الفَسيح دون أن يبقى لها أيُّ أثر.


وعندما يسكنُ الصدقُ قلبَ التاجر، ويدَ الصانع، وعينَ الحائك، ولسانَ المحدِّث، وقلمَ الكاتب، ومخطَّطَ المهندس، ووصفة الطبيب، عندئذٍ تبتسمُ قوافي الأوطان، وتتلألأُ مشاعلُ الضياء في سماء الأمَّة.


وليس كلُّ ما نقوله ونحن صادقون هو صدقٌ محمود، فليس من الصِّدق أن يقولَ المعلِّم لطالبه المقصِّر: أنت كسولٌ جداً. ويقولَ المقرئ لتلميذٍ له يُتأتِىء في القراءة: أنت قارىءٌ مُتلَعثِم. ولا أن يقولَ الزوج لزوجته القَصيرة: أنت قَزمَة...

فالصدق لا يَتنافى مع مُداراة المشاعر ذاتِ المقاصِد النَّبيلَة التي تُعنى بأحاسيسِ الإنسان ونَفسِه الشَّفيفة.


الصدق الجميلُ والنافعُ هو الصدقُ الذي يكون ثمرةً للدِّين والإيمان، وهو الذي يُجزى عليه المرءُ خيرَ الجزاء، قال تعالى: {مَن عَمِلَ صالحاً من ذَكَرٍ أو أُنثى وهُوَ مُؤمِنٌ فلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَة ولنَجزِينَّهُم أجرَهُم بأَحسن ماكانوا يَعمَلون}[7].


ويقول الفيلسوفُ الألمانيُّ فيخته: "الأخلاقُ مِن غَير دينٍ عَبَثٌ"[8].

ويصرِّح الفيلسوفُ كانت قائلاً: "لا وجودَ للأخلاقِ دون اعتِقاداتٍ ثلاث: وجود الإله، وخُلود الروح، والحساب بعد الموت"[9].


فأعطَرُ التَّحايا وأعطرُ الأشواق لأُولئك الصادقينَ الذين رسَموا في البريَّةِ خريطةَ العزَّة والمروءة والرُّجولة والصِّدق مع الله في الأقوال والأفعال..

وأجمل الشُّكر والتقدير للصَّادقين الذين يعيشون بين ظَهرانَينا، ويَبرُقُون في سمائنا الغائمة، ونحن في زمنٍ خَوى فيه نجمُ السَّجايا الحميدة، وزُهِد في لسان الصِّدق..


ووافرُ الثناء لِمَن ترسَّموا نهجَ أولئك الأحرار المتحرِّرين من عُبوديَّة النفس وأَسر الهوى وقُيود الباطل، فصَدَقوا مع أنفُسهم؛ لأنهم عرفوا نَفاسَة جَوهرها الرَّفيع الذي خلقَه الله سبحانه وتعالى، وصَدقوا مع خالقهم لأنهم عرَفوا قَدرَه وتبطَّنوا أسرارَ حِكمته في خَلقِه، وصَدقوا مع أَوطانهم فذادوا عنها بالغالي والنَّفيس.


أسألُ الله أن يجعلَنا من الصادقينَ في الأقوال والأفعال، إنه وليُّ ذلك والقادرُ عليه..

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.

ـــــــــــــــــــــــــ

[1] سورة التوبة الآية 119. 

[2] كتاب رياض الصالحين، الإمام النووي، باب الصدق ص 34، رقم الحديث 55. 

[3] كتاب رياض الصاحين، باب الصدق ص 35.

[4] موسوعة روائع الحكمة، لروحي البعلبكي ص 389. 

[5] موسوعة روائع الحكمة، لروحي البعلبكي ص 389. 

[6] موسوعة روائع الحِكَم، حسين الطويل ص: 275. 

[7] سورة النحل الآية 97. 

[8] كتاب تربية الأولاد في الإسلام، عبدالله علوان ص 135. 

[9] كتاب تربية الأولاد في الإسلام، عبدالله علوان ص135-136.