توحيد الربوبية-1
هبة حلمي الجابري
والله لو كانت لدينا عقيدة راسخة قوية وإيمانا حقيقيا بمعنى ربوبية الله لنا لما تعلقنا بغير ربنا ولرتاحت نفوسنا وطرقت السعادة أبواب قلوبنا بل وعاشت وتربعت فيها.
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين، الكريم المنان، رفع شأن الإنسان،
وأغدق عليه فيوضات الإحسان، وأشهد أن لا اله إلا الله الآمر بالعدل والإحسان، وأشهد أن محمدا رسول الله، النبي الإنسان، أكثر الخلق رحمة، وأعظمهم تحليا بالخصال الحسان، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه المسارعين إلى بلوغ درجات الرضوان. أما بعد
عرفنا أهمية علم العقيدة، واليوم بإذن الله نبدأ أولى خطواتنا في هذا العلم الشيق الرائع الذي يخاطب القلوب ويهزها هزا، فلتستعد قلوبنا لتطير وتحلق في سماء السعادة وراحة القلوب فنحن سنتحدث اليوم عن رب العالمين.
ذكرنا في لقائنا الماضي أننا نستخدم لفظ "علم التوحيد" فيما يخص ربوبية الله وألوهيته وصفاته، وهذه العناصر الثلاثة هي أنواع التوحيد:
إذا أنواع التوحيد ثلاثة:
1⃣ توحيد الربوبية
2⃣ توحيد الألوهية
3⃣ توحيد الأسماء والصفات
وهناك تقسيمات أخرى لأنواع التوحيد ولكننا سنختار هذا التقسيم ونبدأ بإذن الله في معرفة كل نوع والتعرف على ما يضاده أي التعرف على ما يعكر صفو هذه الأنواع من التوحيد في قلوبنا.
ونبدأ بتوحيد الربوبية.
عندما نقول توحيد الربوبية يتبادر إلى ذهننا اسم من أسماء الله الحسنى الذي نعرفه ونردده كثيرا ونشعر معه بالأمان وأن هناك من يعتني بنا ويدبر أمرنا، وهو اسم الرب، ولكن ما معنى الرب؟
الرب في اللغة يطلق على ثلاثة معانٍ:
1⃣ يطلق على المالك
2⃣ ويطلق على السيد
3⃣ ويطلق على المربي
وكل هذه المعاني صحيحة في حق الله عز وجل.
ولكن لننتبه! الرب لا يطلق بغير تقييد إلا على الله عز وجل.
يعني عندما نقول "الرب" فقط بدون أي إضافة فلا نقصد به إلا الله سبحانه وتعالى.
أما إذا أطلق على غيره فلا يطلق إلا مقيدا يعني نقول رب الدار، أي مالك الدار أو صاحب الدار وليس خالقها. رب المال، أي مالك المال وليس خالقه، وهكذا.
إذا ما معنى توحيد الربوبية في الشرع؟
التوحيد معناه الإفراد، وبالتالي فإن توحيد الربوبية معناه: اعتقاد إفراد الله عز وجل بمعاني ربوبيته سبحانه وتعالى.
فما هي معاني الربوبية؟
عندما نقول ربَّ الولد أي تكفل بغذائه ولباسه وأدبه.
وعندما نقول ربَّ الشيء أي ملكه
وعندما يملك شيء فهو يتصرف فيه ويضع القوانين كيف يشاء ولا يملك المملوك إلا أن يطيع أمر مالكه.
إذا الربوبية لها ثلاث معانٍ، فهيا نطلق لقلوبنا العنان لنستشعر معاني الربوبية، فكل معنى منها يحتاج إلى تأمل وتفكر، يحرك القلوب، ويُدمع العيون من روعته وحلاوته، ويدفع الجوارح للعمل بجد ومثابرة وحب وشوق.
1- المعنى الأول من معاني الربوبية:
اعتقاد انفراده سبحانه وتعالى بالخلق والرزق والتدبير والإحياء والإماتة والعطاء والمنع والنفع والضر.
قال الله عز وجل: {(قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۚ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ۚ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ۖ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ۖ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ (32))} [سورة يونس]
أمور مستقرة في الفِطَر والعقول أن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت، ولذلك حتى مشركوا مكة اعترفوا بذلك، ولكن هذا الإقرار لم ينفعهم لأنهم لم يعملوا بمقتضاه ولذلك قال لهم: {(أفلا تتقون)} ؛ أفلا تتقون الشرك؟! أفلا تتقون عبادة غيره؟!
{(فَذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ۖ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ۖ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ)} أي لم تصرِفُون العبادة لغيره؟ وتذكروا هذه الآية جيدا فسوف يتضح معناها أكثر عند حديثنا عن توحيد الألوهية.
وحتى نعيش مع هذه الآية وغيرها من الآيات التي تذكرنا بربوبية الله تعالوا نتأمل
ونتفكر في مخلوقات الله ونرى إبداعه وعظمة خلقه سبحانه وتعالى، ولنرَ أولا التنوع في خلق الله:
هناك 35 ألف نوع من العناكب، و 10 آلاف نوع من النحل، و 370 ألف نوع من الخنافس، و 750 نوعا مختلفا من الأشجار في كل 10 آلاف متر مربع من الغابات المطيرة في الأمازون.
{(هَـٰذَا خَلۡقُ ٱللَّهِ فَأَرُونِی مَاذَا خَلَقَ ٱلَّذِینَ مِن دُونِهِۦبَلِ ٱلظَّـٰلِمُونَ فِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینࣲ)} .
يضع طائر الطنان بيضة أو بيضتين كل عام بينما تضع سمكة القد أكثر من 9 ملايين بيضة! وفي الوقت الذي يبلغ فيه حجم بيضة النعامة حوالي 2 كيلو جرام يبلغ حجم بيضة الطائر الطنان حجم حبة البازلاء، وكلاهما من الطيور، ويزن الخفاش الطنان جرامين فقط، بينما يزن القلب فقط للحوت الأزرق 600 كيلو جرام، وكلاهما من الثدييات. فسبحان ربي الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا
طحلب الكلاميدوناس يموت من الحر لو زادت درجة الحرارة عن 4 درجات مئوية، بينما شوهدت بعض أنواع البكتيريا التي تعيش في البراكين وهي تموت من البرودة بعد وضعها في ماء يغلي! وحين ينصهر فلز الزئبق عند درجة حرارة الغرفة العشرينية، فإن فلز التنجستين يحتاج إلى 3422 درجة مئوية حتى ينصهر، فسبحانك ربي ما أعظمك!
للأخطبوط ثلاثة قلوب ، وللبقرة أربع معدات، أنثى الفيل الهندي تحمل لمدة 648 يوما بينما أنثى قملة النبات تولد حاملا أصلا . تنام الحيتان والدلافين بنصف أمخاخها فقط كي لا تغرق ، وينام حيوان الكسلان ٢٠ ساعة ، وأما النمل فلا ينام أبدا، فسبحان الرب الرحيم الذي يعرف ما يناسب كل مخلوق من مخلوقاته.
ووسط كل ما هو غريب وبديع يظهر لنا طائر الكيوي ليعلمنا أننا لم نر شيئا بعد ! فهو عصفور، ولكن جسمه مغطى بالشعر بدلا من الريش ! وعشه تحت الأرض وليس فوق الشجر ، وله حاسة شم قوية يندر مثلها وسط الطيور ، ويضع بيضة ضخمة يصل طولها إلى ١٢ سم برغم أنه في حجم الدجاج !
هذا التنوع الخلقي الكبير تحدث عنه الله جل جلاله فقال : {{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ ۚ وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ}} [ الشوری ۲۹ ].
بل وتحدث القرآن عن الإعجاز في الاختلافات فقال جل جلاله: {{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }} [النور 45]
ثم يأتي بعد ذلك من يقول أن هذا الإبداع وهذه الدقة في الخلق إنما وجدت صدفة! أفلا يعقلون؟
هذا الخالق البديع الذي ليس لديه شكل واحد للخلق ولا طريقة واحدة للأحياء في معيشتهم ورزقهم، هذا الخالق المبدع يرينا الكثير من آياته في جميع خلقه من إنسان وحيوان ونبات
وجماد بل الكون كله، ولكن الكثيرين منا غافلون عن تدبر آياته والتفكر فيها.
التفكر في خلق الله تلك العبادة المنسية التي أمرنا الله بها كافية بأن تحيي قلوبنا، وتقوي إيماننا وتدفعنا دفعا للرجوع إلى الصراط المستقيم.
ألم نسمع أمر الله سبحانه وتعالى لنا بالتفكُّر والتدبر ونحن نقرأ كتابه العزيز، ألم نسمع ثناءه على من يتفكر في خلق الله وهو يقول: {{وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}} [آل عمران من الآية:191]، ألم نسمع كيف خاطب الله سبحانه الغافلين عن النظر والتدبر في كونه، فقال لهم: {{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}} [الحج:46]، وقال سبحانه وتعالى: {{وَكَأَيِّن مِّنْ ءَايَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}} [يوسف:105]. فما حظك من هذه العبادة العظيمة في يومك؟
ولا يمكن أن نتجاهل للحظة عناية الله لخلقه فهو لم يخلقهم فقط بل واعتنى بهم أيضا، فهيا بنا نتأمل بعض أشكال هذه العناية.
الببغاء لديه منقار معقوف ومخالب ثلاثية، المخالب تمسك بحبة الجوز والمنقار المعقوف ( الشبيه بعتلة فاتحة العلب المعدنية ) يتمكن من كسر القشرة الصلبة ويحصل على الغذاء الدسم السمين بداخلها. الببغاء يفعل ذلك لأن وزنه ثقيل ولو أكل أوراق النباتات حتى يشبع فسيثقل هذا وزنه أكثر ومن ثم يعجز عن الطيران، فيلجأ لهذه الحيلة حتى يحصل على غذاء خفيف الوزن عظيم الفائدة.
فمن الذي خلقه على هذه الصورة وأعطاه هذه المقدرة ليعيش؟
زهرة ( الهندباء ) تتخذ شكل المظلة لتتغلب على قوانين الجاذبية وتطير لمئات الأمتار لتتكاثر. فسبحان من رعاها.
زهرة ( الأوركيديا ) تتخذ شكل أنثى النحل، ليس هذا فقط بل تقلد هذه الزهور رائحة النحلة الأنثى حتى في بعض الشعر لتضيف بعض الوهم الحسي. وتتزاوج ذكور النحل مخدوعةً بسحر الزهور بكل نشاط بينما تقوم الزهور بطرح حبوب اللقاح والتي تحتوي على مادةٍ لاصقةٍ تلتصق بظهورها وتصب في أزهار أخرى من نفس الفصيلة عندما تنطلي الخدعة على ذكر النحل من جديد، فمن علمها ذلك؟
أما حشرة سرعوف الأوركيديا فهي حشرة أسيوية تتنكر على شكل زهرة الأوركيديا، فقد منحها الله القدرة على التخفي للحفاظ على نفسها من أعدائها ولتتمكن من الحصول على طعامها بسهولة، هذا خلق الله فسبحان من خلق فأبدع! سبحان من دبر لكل مخلوق أمره!
كما أن الله هيأ لكل كائن حي الوسائل التي تمكنه من الحصول على طعامه، فقد أعطى لكل منها أيضا وسائل تحميها من المفترسات وهكذا يحصل التوزان الطبيعي في البيئة وتبقى الكائنات القوية لتنجب نسلا قويا وتُفترس الفرائس الضعيفة.
ولنضرب مثلا على إحدى وسائل الحماية:
الأرنب والغزال وغيرها من الفرائس اللذيذة التي تعيش في الغابات يملك كل منهم عينين متباعدتين على جانبي رأسه، كل واحدة من هاتين العينين تشاهد صورة مختلفة عن التي تشاهدها الأخرى، هذا لا يصنع لديها صورة مجسمة ثلاثية الأبعاد مثل التي تحتاجها الحيوانات الصيادة، حيث إنها لا تحتاج إلى ذلك لأنها تأكل النبات أصلا، والنبات لا يتحرك، بينما عيناها وبهذه الطريقة تصنع لها صورة بانورامية واسعة المجال، يمكنها أن ترى ما يزيد عن الـ 180 درجة من مجال الإبصار بهذه البانوراما بالمقارنة بـ 120 درجة تقريبا للحيوانات ذوات العيون المتجاورة، وهذا هو بالضبط عين ما يحتاجه الأرنب أو الغزال كي يأخذ الحيطة وينجح في الفرار من هجمات الفهد الذي يشتهيه! يا لها من عناية من الله سبحانه وتعالى بمخلوقاته.
والإنسان له نصيب الأسد من هذه العناية، لنأخذ مثالا على ذلك : المثانة . اعلمي أن مثانتك -كمعظم البشر - تتغابى كثيرا ، ففي أوقات الحاجة الشديدة لدخول الحمام تكون قدرتها على التحمل كبيرة جدا فقط إلى اللحظة التي تقتربين فيها بالفعل من أحد دورات المياه ، حينها تصاب مثانتك بالجنون الفوري ، وتفقد كل قدرتها على التحمل، وسبب ذلك أن خلاياك العصبية على قدر من الذكاء يجعلها لا تستثار كثيرا بالإشارات
التي ترسلها لها المثانة حتى يكون هناك مجال لإفراغها بالفعل، خلاياك العصبية وقتها
تحرص على ألا تحيل حياتك جحيما، فهل تفكرنا في ذلك يوما؟
إنها مخلوقات الله الذي مكن لكل منها مقدارا كافيا من التكيف مع بيئتها ! لتقدر كلها على النجاة، وتنجح كلها في البقاء، وأمثال هذه العناية هي بالطبع أدلة على وجود من يعتني بكل هذه الكائنات.
ننتقل للمحة أخرى من لمحات الرب الخالق الرازق، نتأمل كيف يرزق عباده ومخلوقاته على اختلاف أنواعهم وكثرة عددهم، فالرب سبحانه يرزق كل مخلوق، ويقسم الأرزاق بين خلقه جميعًا؛ من بشر وحيوانات وطيور وحشرات وغيرها، ويرزق المؤمن والكافر؛ فالكل يُزرق، ولا يملك أحد رزقًا لأحد.
تأملوا نزول المطر من السماء، وما يملكه أحد، به تحيا الخلائق كلها، وبه تجري الأنهار وتمتلئ العيون والآبار، ويشرب الناس ويزرعون، وتشرب بهائمهم وتعيش، ويتغذى الإنسان على ذلك كله، ولو أراد الله -سبحانه وتعالى- أن يمنع ذلك كله أو شيئًا منه؛ لمنعه، بل لو أراد الله -سبحانه وتعالى- لجعل هذه الأمطار سببًا لهلاكهم، بالفيضانات والسيول وإغراقها للبلاد والعباد.
أصل الغذاء يعود إِلى النباتات والحشائش، وهي تحتاج إِلى نور الشمس، ولكن على عمق 700 متر فصاعداً لا وجود لنور الشمس أبداً، بل ليل أبدي مظلم يلقي ظلاله ويبسط أسداله هناك، فماذا تفعل الكائنات التي تعيش في الأعماق؟! لا تقلقوا فلم ينسَها الرب الرزاق فنور الشمس يُغذّي النباتات المجهرية في سطح الماء وبين الأمواج، وحين تبلغ مرحلة النضج تهبط إِلى أعماق البحر كالفاكهة الناضجة، وتنضم الى الأرزاق الإلهية للأحياء في تلك الأعماق!
ومن جهة أُخرى فهناك طيور كثيرة تتغذى من أسماك البحر، منها طيور تطير في الليل وتهبط إلى البحر كالغواص الماهر وعن طريق موجات رادارية خاصّة تخرج من آنافها تعرف صيدها وتصطاده بمنقارها، بل انظروا لهذا الرزق العجيب؛ فرزق بعض أنواع الطيور يكون مُدّخراً بين ثنايا أسنان التمساح فبعد أن يتغذى تحتاج أسنانه إِلى "منظف طبيعي" فيأتي إِلى الشاطئ ويفتح فمه الواسع فتدخل هذه الطيور التي أُدّخر رزقها في فم هذا الحيوان الضخم - دون وحشة ولا اضطراب - وتبحث عن رزقها بين ثنايا أسنان هذا الحيوان الكبير، فتملأ بطونها من جهة، وتريح الحيوان الذي تزدحم بين أسنانه "هذه الفضلات" من جهة أُخرى.. وحين تخرج الطيور وتطير في الفضاء يطبق هذا الحيوان البحري فمه بكل هدوء ويعود إِلى النهر.
وأنت أيتها الأم هل تشعرين في شهورك الأولى من الحمل بعدم الرغبة في الأكل؟ وتحملين هم إطعام جنينك؟ لا تقلقي فربه الرزاق تكفل برزقه، فقد جعل له الحبل السري ليكون حلقة الوصل والربط بينه وبينك، يقوم الحبل السري أثناء الحمل بإمداد الجنين بكل ما يحتاج إليه من المواد الغذائية والتي تصب في دم الجنين مباشرة، ويساعده كذلك على التخلص من كل الفضلات وإيصالها للمشيمة، وتحيط مادة هلامية بالأوعية الدموية التي يتكون منها الحبل السري لحمايتها، وهذه المادة بدورها يغلفها غشاء خاص رقيق.
وفي المراحل الأخيرة من الحمل تقوم المشيمة بإرسال أجسام مضادة إلى الحبل السري ليحملها من الأم إلى الجنين، وتساعد هذه الأجسام المضادة على حماية الطفل من الأمراض خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عمره، أرأيت كيف يصل إليه رزق الرزاق؟
طريقة إِيصال الرزق من الله تعالى إِلى الموجودات المختلفة مذهلة ومحيرة حقّاً، من الجنين الذي يعيش في بطن أُمّه، إِلى الحشرات المختلفة التي تعيش في طيّات الأرض، وفي الأشجار وعلى قمم الجبال أو في أعماق البحر، وفي الأصداف.. جميع هذه الموجودات يتكفل الله برزقها ولا تخفى على علمه، يقول الله تعالى: {﴿وَمَا مِن دَاۤبَّةࣲ فِی ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِ رِزۡقُهَا وَیَعۡلَمُ مُسۡتَقَرَّهَا وَمُسۡتَوۡدَعَهَاۚ كُلࣱّ فِی كِتَـٰبࣲ مُّبِینࣲ﴾ } [هود : ٦] فكيف بعد ذلك تقلق على رزقك وربك الرزاق يرزقك ولن ينساك؟! عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «(لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً)» ، رواه الترمذي، وقال: حديث حسن، فهل تتوكل على الله مثل هذه الطيور؟ من يتوكل على الله حق توكله سيتعجب من رزق الله له من حيث لا يحتسب، كل ما تحتاج إليه عقيدة راسخة قوية وقلبا ممتلأ بالإيمان وحسن ظن بربك وتوكل على ربك الرزاق وأن تكون على يقين بأن رزقك المكتوب لك سيأتيك رغم ضعفك ورغم صعوبة الظروف من حولك.
فإذا كانت عقيدتي قوية؛ عندها لن أرتشي طلبا للرزق، لن أتعامل بالربا، لن أسرق ولن آخذ حق غيري، لن أختلس، ولن أصارع زميلتي في العمل وأحاربها ظنا مني أنها تنافسني في رزقي.
مسكين من يفعل ذلك فهو لم يعرف أن الرزق الحرام يذهب ببركة الرزق حتى ولو كان كثيرا
يقول الإمام الشافعي رحمه الله:
ﺟﻤﻊ ﺍﻟﺤﺮﺍﻡ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺤﻼﻝ ﻟﻴﻜﺜﺮﻩ
ﺩﺧﻞ ﺍﻟﺤﺮﺍﻡ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺤﻼﻝ ﻓﺒﻌﺜﺮﻩ
يحكى أن رجلين قد ذهب بصرهما كانا يجلسان على طريق أم جعفر زبيدة العباسية لمعرفتهما بكرمها، فكان أحدهما يقول: اللهم ارزقني من فضلك، وكان الآخر يقول: اللهم ارزقني من فضل أم جعفر.
وكانت أم جعفر تعلم ذلك منهما وتسمع، فكانت ترسل لمن طلب فضل الله درهمين، ولمن طلب فضلها دجاجة مشوية في جوفها عشرة دنانير.
وكان صاحب الدجاجة يبيع دجاجته لصاحب الدرهمين، بدرهمين كل يوم، وهو لا يعلم ما في جوفها من دنانير.
وأقام على ذلك عشرة أيام متوالية، ثم أقبلت أم جعفر عليهما، وقالت لطالب فضلها: أما أغناك فضلنا ؟ قال: وما هو؟ قالت مائة دينار في عشرة أيام، قال: لا، بل دجاجة كنت أبيعها لصاحبي بدرهمين.
فقالت: هذا طلب من فضلنا فحرمه الله، وذاك طلب من فضل الله فأعطاه الله وأغناه.
وهكذا إذا أيقنا بمعنى توحيد الربوبية لن نعلق قلوبنا بأحد سوى بالله ولم نطلب إلا من الله، وذلك مع الأخذ بالأسباب فنحن مأمورون بذلك وإنما المهم ألا تتعلق قلوبنا بالأسباب وإنما برب الأسباب الذي يقول للشيء كن فيكون ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
وهكذا كما استشعرنا معنى الله الخالق البارئ المبدع المصور الرزاق، نستشعر كل معاني الربوبية وأن الله هو المحيي المميت، النافع الضار.
فهو خالق الحياة ومعطيها لمن يشاء، ثم يسلبها منهم بالموت متى شاء، وهو الذي أحيا قلوب المؤمنين بنوره، وهو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ونزل الكتاب، لينذر من كان حياً، ويحق القول على الكافرين، وهو الذي أنزل من السماء ماء، وجعل من الماء كل شيء حي ، يقول الحق سبحانه: {(وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ)} (30) الأنبياء
تلك الحياة تذكرنا بمعنى الحياة الحقيقية وهي حياة القلوب، فالمؤمن حيّ القلب؛ إذا قرأ القرآن تدمع عيناه، وإذا قرأ القرآن يقشعرُّ جلده، يذكر الله، ويذكِّر بالله، ويدعو إلى الله، وله أهداف كبيرة سامية، يسعى بها إلى مرضات ربه، وهذه هي الحياة الحقيقية "حياة القلوب".
فليس من مات فاستراح بميِّتٍ
وإنما الميِّتُ ميِّتُ الأحياء
والرب سبحانه هو الذي أمات الجبابرة رحمةً بعباده، بعد أن أمهلهم فلم يتوبوا فاستحقوا عقابه، وأمات الأرض إذ خلت من النبات، وكتب على خلقه الموت ثم يبعثهم ويجازيهم على أعمالهم فهو لم يخلقهم عبثا ولم يتركهم هملا.
فهو (المميت) : ليعلم الناس أنَّ الله قادرٌ على التصرُّف بالإحياء وبالإماتة متى شاء ومتى أراد. فالله قد قدَّر الموت على العباد والمخلوقات، وهو مما قهر الله به عباده، فعادوا بالموت إلى الأرض، وطواهم التراب الذي خلقهم منه بعد أن أخرهم إلى أجل مسمى، فسبحان المحيي المميت.
قال تعالى في سورة إبراهيم: (أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى). أي لا شك في الله، أي في توحيده، أو أفي قدرة الله شك؟ سبحانه وتعالى.
أيضا هو النافع الضار، هل تخاف من أحد؟ هل ترجو نفع أحد؟ لحظة من فضلك!
انتبه لقلبك، فكل البشر على ظهر الأرض ولو اجتمعوا جميعا لن يستطيعوا فعل إلا ما كتبه الله عليك، فكيف بعد ذلك نلجأ لغير الرب ليحمينا وينجينا مما نخاف ونحذر؟ أو نرجو عنده ما نتمنى وننسى أن الأمر كله لله؟
عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: (( «يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف» )) [رواه الترمذي وأحمد].
والله لو كانت لدينا عقيدة راسخة قوية وإيمانا حقيقيا بمعنى ربوبية الله لنا لما تعلقنا بغير ربنا ولرتاحت نفوسنا وطرقت السعادة أبواب قلوبنا بل وعاشت وتربعت فيها.
عشنا لمحات قليلة مع المعنى الأول من معاني الربوبية، ولو تأملنا حياتنا كلها لوجدنا كيف تحوطنا عناية الله ورعايته، كم نجانا من المهالك وكم فرج كربنا وكم يسر أمرنا وكم رزقنا من حيث لا نحتسب، فهيا بنا أيضا نعيش قليلا مع المعنى الثاني من معاني الربوبية.