شرح حديث: من قتل تسعا وتسعين نفسا

في هذا المقال جَمْع شرحٍ لحديث: ((من قتل تسعًا وتسعين نفسًا)) في إيجاز غير مُخلٍّ، مستعرضًا قول كبار شُرَّاح الحديث.

  • التصنيفات: التوبة -

سأقوم في هذا المقال بجَمْع شرحٍ لحديث: ((من قتل تسعًا وتسعين نفسًا)) في إيجاز غير مُخلٍّ، مستعرضًا قول كبار شُرَّاح الحديث.

 

أولاً: نص الحديث:

قال الإمام مسلم: حدثنا محمد بن المُثنى، ومحمد بن بشار - واللفظ لابن المُثنى - قالا: حدَّثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن أبي الصِّديق، عن أبي سعيد الخدري، أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «كان فيمَن كان قبلكم رجلٌ قتَل تسعًا وتسعين نفسًا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على راهبٍ، فأتاه، فقال: إنه قتل تسعًا وتسعين نفسًا، فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتَلَه، فكمَّل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على رجلٍ عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومَن يَحول بينه وبين التوبة؟ انطلِق إلى أرض كذا وكذا؛ فإن بها أُناسًا يعبدون الله، فاعبُد الله معهم، ولا ترجِع إلى أرضك؛ فإنها أرض سوءٍ، فانطلَق حتى إذا نصَفَ الطريقَ أتاه الموت، فاختصَمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مُقبلاً بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قطُّ، فأتاهم مَلَكٌ في صورة آدمي، فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيَّتهما كان أدنى، فهو له، فقاسُوه فوجَدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبَضتْه ملائكة الرحمة»، قال قتادة: فقال الحسن ذُكِر لنا أنه لَمَّا أتاه الموت نأَى بصدره"؛ (أخرجه مسلم) .

 

قال النووي: "قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن رجلاً قتل تسعًا وتسعين نفسًا، ثم قتل تمام المائة، ثم أفتاه العالم بأن له توبة)، هذا مذهب أهل العلم، وإجماعهم على صحة توبة القاتل عمدًا، ولم يُخالف أحد منهم إلا ابن عباس، وأما ما نُقِل عن بعض السلف من خلاف هذا، فمراد قائلِه الزجرُ عن سبب التوبة، لا أنه يعتقد بُطلان توبته، وهذا الحديث ظاهر فيه، وهو وإن كان شرعًا لمن قبلنا وفي الاحتجاج به خلافٌ، فليس موضع الخلاف؛ وإنما موضعه إذا لم يَرِد شرعُنا بموافقته وتقريره، فإن ورَد كان شرعًا لنا بلا شكٍّ، وهذا قد ورَد شرعُنا به، وهو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ} [الفرقان: 68]، إلى قوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان: 70].

 

قوله: «انطلِق إلى أرض كذا وكذا؛ فإن فيها أناسًا يعبدون الله، فاعبُد الله معهم، ولا ترجِع إلى أرضك؛ فإنها أرض سوء»، قال العلماء: في هذا استحباب مفارقة التائب المواضعَ التي أصاب بها الذنوب، والأخدانَ المساعدين له على ذلك، ومقاطعتهم ما داموا على حالهم، وأن يَستبدل بهم صُحبةَ أهل الخير والصلاح، والعلماء والمتعبِّدين الوَرِعين، ومَن يَقتدي بهم ويَنتفع بصُحبتهم، وتتأكَّد بذلك توبته.

 

قوله: «فانطلَق حتى إذا نصَف الطريق أتاه الموت»: بتخفيف الصاد؛ أي: بَلَغَ نِصفَها، قوله: (نأى بصدره)؛ أي: نهَض، ويجوز تقديم الألف على الهمزة وعكسه... وأما قياس الملائكة ما بين القريتين، وحُكم المَلك الذي جعلوه بينهم بذلك، فهذا محمول على أن الله تعالى أمَرهم عند اشتباه أمره عليهم واختلافهم فيه، أن يُحَكِّموا رجلاً ممن يمرُّ بهم، فمرَّ المَلك في صورة رجلٍ، فحكَم بذلك".

 

قال الشيخ فيصل بن عبدالعزيز بن فيصل بن حمد المبارك الحريملي النجدي (المتوفى: 1376هـ) في "تطريز رياض الصالحين": "في هذا الحديث: فضل العلم على العبادة، وفيه الهجرة من دار العصيان، ومقاطعة إخوان السوء، واستبدالهم بصُحبة أهل الخير والصلاح، وفيه دليلٌ على أنَّ القاضي إذا تعارَضت الأقوال عنده، يَحكُم بالقرائن، وفيه أن الذنوب وإن عظُمت، فعفو الله أعظمُ منها، وأن مَن صدَق في توبته، تاب الله عليه، ولو لم يعمل خيرًا إذا عزَم على فِعله".

 

قال الشيخ محمد بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى: 1421هـ) في "شرح رياض الصالحين": "نقَل المؤلف - رحمه الله - عن أبي سعيد سعدِ بن مالك بن سِنان الخُدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كان فيمن قبلكم رجلٌ قتل تسعًا وتسعين نفسًا»، ثم إنه ندِم وسأل عن أعلم أهل الأرض يسأله: هل له من توبة؟ فدُلَّ على رجلٍ، فإذا هو راهب - يعني: عابدًا - ولكن ليس عنده علمٌ، فلمَّا سأله، قال: إنه قتل تسعًا وتسعين نفسًا، فهل له من توبة؟ فاستعظَم الراهب هذا الذنب، وقال: ليس لك توبة، فغضِب الرجل وانزَعج، وقتَل الراهب، فأتَمَّ به مائة نفس، ثم إنه سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على رجلٍ عالم، فقال له: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ قال: نعم، ومَن الذي يحول بينه وبين التوبة؟ باب التوبة مفتوح، ولكن اذهَب إلى القرية الفلانية؛ فإن فيها قومًا يعبدون الله، والأرض التي كان فيها كأنها - والله أعلم - دارُ كفرٍ، فأمره هذا العالم أن يُهاجر بدينه إلى هذه القرية التي يُعبَد فيها الله - سبحانه وتعالى - فخرج تائبًا نادمًا مهاجرًا بدينه إلى الأرض التي فيها القوم الذين يعبدون الله - عز وجل - وفي منتصف الطريق أتاه الموت، فاختصَمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلاً بقلبه إلى الله تعالى، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قطُّ، فبعَث الله إليهم مَلكًا؛ ليَحكُم بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيَّتها كان أقربَ، فهو له؛ يعني: فهو من أهلها، إن كانت أرض الكفر أقرب إليه، فملائكة العذاب تَقبض رُوحه، وإن كان إلى بلد الإيمان أقربَ، فملائكة الرحمة تَقبض رُوحه، فقاسوا ما بينهما، فإذا البلد التي اتَّجه إليها - وهي بلد الإيمان - أقرب من البلد التي هاجر منها بنحو شبرٍ - مسافة قريبة - فقبَضتْه ملائكة الرحمة، وفي هذا دليل على فوائدَ كثيرة؛ منها: أن القاتل إذا قتل إنسانًا عمدًا، ثم تاب، فإن الله تعالى يقبَل توبته، ودليل ذلك في كتاب الله قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]؛ يعني: ما دون الشِّرك، فإن الله تعالى يغفِره إذا شاء، وهذا الذي عليه جمهور أهل العلم".

 

قال الدكتور وجيه الشيمي: "أراد النبي أن يُعلِّمنا عددًا من القضايا، منها:

أ- أن باب التوبة مفتوح، وأن رحمة الله قريب من المحسنين؛ {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].

 

ب- ألا نَستفتي إلا ذا علمٍ، وألا يتجرأ أحدٌ على الفتوى، إلا إذا كان من أهلها؛ لأنه قد ورد في الأثر: "أجرؤكم على الفتوى، أجرؤكم على النار"، وكان السلف الصالح يكرهون التسرُّع في الفتوى، ويَوَدُّ كل واحدٍ منهم أن يَكفيَه إياها غيرُه، فإذا رأى أنها قد تعيَّنت عليه، بذَل اجتهاده في معرفة حُكمها من الكتاب والسُّنة، أو قول الخلفاء الراشدين، ثم أفتَى.

 

ج- نتعلم أيضًا أهمية الصُّحبة وخطرها، وكيف أن للبيئة دورًا كبيرًا في سلوك الفرد.

 

د- الحديث يرشدنا إلى أن على العالم أن يُرشد السائل على الطريق الذي يُوصِّله إلى الله، وألا يَقتصر جوابه على محل السؤال، وهذا ما استفدناه من ردِّ العالم على القاتل، مع أنه لم يسأله إلا عن التوبة ذاتها: هل لهذا القاتل توبة أم لا؟ ولَم يسأل عن كيفية تحقيقها، ولكنه رأى أن السائل يَحتاج لهذه الزيادة، وهذا ما سلَكه النبي - صلى الله عليه وسلم - في كثير من أحاديثه، فلمَّا سأله بعض أصحابه أنهم يَركبون البحر وليس معهم إلا الماء القليل: أفنتوضَّأ بماء البحر؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «هو الطَّهور ماؤه، الحِلُّ ميتته»، مع أنهم لم يسألوه عن ميتة البحر، ولكنه علِم احتياجهم لهذا الحكم؛ لكثرة ركوبهم البحرَ، وهذا ما يُسميه البلاغيون: أسلوب الحكيم".

________________________________________________________

الكاتب: محمود حسن عمر