الاستغناء بالقرآن

محمد بن عبد الله السحيم

إن من أعظمِ مقوماتِ الغنى الإيمانيِّ الاستغناءَ بالقرآنِ العظيمِ الذي يُبْصِرُ به المؤمنُ حقيقةَ الغنى، فيستشعرُ عظيمَ نعمةِ اللهِ عليه باصطفائه لوراثةِ كتابِه، واستغناءَه به عن ذلِّ الحاجةِ إلى الناسِ...

  • التصنيفات: القرآن وعلومه - الزهد والرقائق -

الافتقارُ من أوجهِ الضَّعفِ الجِبِلِّيِّ الذي فُطِرَ عليه البشرُ، وذاك ما يجعلُهم يَسْعَوْنَ في سدِّه بطلبِ الغنى جَهْدَهم، وقد تباينتْ طرائقُهم في ذلك الاستغناءِ؛ بناءً على اختلافِ همومِهم، واستحضارِهم الغايةَ من الوجودِ وذِكْرَ الآخرةِ، فكان مسلكُ الكثيرِ في طلبِ الغنى مفضيًا إلى عكسِ مقصودِهم؛ إذ كان الفقرُ قارًّا في القلبِ ومنظرُه لا يغيبُ عن العينِ، وإنْ مَلَكَ صاحبُه دنيا عريضةً، فكان حالُهم كحالِ الظامئِ الذي يرومُ الارتواءَ من ماءِ البحرِ؛ فلا يزيدُه إلا عطشًا، هذا وإن للإيمان تميُّزًا في استغناءِ أهلِه حين سما بهم عن حضيضِ حطامِ الدنيا الذي تنافسَ أهلُها في طلبِ الاستغناءِ به، فلم يزدْهم إلا فقرًا، فعاشَ أهلُ الإيمانِ بذلك الاستغناءِ النقيِّ حقيقةَ الغنى الذي لا يَفنى وإنْ كانوا من عَرَضِ الدنيا مُعْدَمين.

 

عبادَ اللهِ، إن من أعظمِ مقوماتِ الغنى الإيمانيِّ الاستغناءَ بالقرآنِ العظيمِ الذي يُبْصِرُ به المؤمنُ حقيقةَ الغنى، فيستشعرُ عظيمَ نعمةِ اللهِ عليه باصطفائه لوراثةِ كتابِه، واستغناءَه به عن ذلِّ الحاجةِ إلى الناسِ، وسلوَّه عن شقاءِ التطلُّعِ لما في أيديهم، فضلًا عن حسدِهم والبغيِ عليهم، وذاك ما أرشدُ اللهُ نبيَّه صلى الله عليه وسلم إلى لزومِ جادَّتِه في سيرِه إليه وتخطِّيه عقابيلَ الدنيا المغريةَ بسلوٍّ وسلامٍ؛ إذ أمَرَهُ بالاستغناءِ بالقرآنِ حين استغنى غيرُه بالمالِ والمتاعِ، فقالَ: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ * لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [الحجر: 87، 88]، فالقرآنُ خيرُ رزقٍ يُمْنَحُ لعبدٍ، وماذا عسى أنْ يكونَ رزقٌ يُدانيه في الخيريةِ والبقاءِ؟! وذاك ما يَقْصِرُ العينَ عن التطلعِ إلى المكاثرةِ في زخرفِ الدنيا أو المنافسةِ فيها، {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131]، وبهذا الغنى القرآنيِّ فاقتِ الآيةُ منه خيرَ المالِ بِعَدِّها؛ فكانت عزاءَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لفقراءِ أصحابِه مِن أهلِ الصُّفَّةِ، قالَ عقبةُ بنُ عَامِرٍ -رضيَ اللهُ عنه -: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ، فَقَالَ: «أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بُطْحَانَ أَوْ إِلَى الْعَقِيقِ، فَيَأْتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ ‌كَوْمَاوَيْنِ[1]، فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلَا قَطْعِ رَحِمٍ» ؟ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! نُحِبُّ ذَلِكَ، قَالَ: «أَفَلَا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمُ أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلَاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ، وَمِنْ أعدادِهنَّ من الإبلِ» ؟!؛ (رواه مسلمٌ).

 

وبغنى القرآنِ طابَ النكاحُ حين كان خيرَ ما يُبذلُ في مهورِ النساءِ إنْ عُدِمُ المالُ، قالَ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ - رضيَ اللهُ عنه -: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَهَبُ لك نفسيَ، فنظرَ إليها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَصَعَّدَ النَّظَرَ فِيهَا وَصَوَّبَهُ، ثُمَّ طَأْطَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِيهَا شَيْئًا، جَلَسَتْ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا، فقَالَ: «فَهَلْ عَنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ» ؟، فقَالَ: لَا، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فقَالَ: «اذْهَبْ إِلَى أَهْلِكَ، فانظر هل تَجِدُ شَيْئًا» ؟، فَذَهَبَ، ثُمَّ رَجَعَ، فقَالَ: لَا، والله ما وجدتُ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «انظر ولو خاتمًا مِنْ حَدِيدٍ» ، فَذَهَبَ، ثُمَّ رَجَعَ، فقَالَ: لَا، والله! يا رسول الله، ولا خاتمًا مِنْ حَدِيدٍ، وَلَكِنْ هَذَا إِزَارِي، - قَالَ سَهْلٌ: مَا لَهُ رِدَاءٌ - فَلَهَا نِصْفُهُ، فقَالَ رَسُولُ اللهِ: «مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ» ؟!، فَجَلَسَ الرَّجُلُ، حَتَّى إِذَا طَالَ مَجْلِسُهُ قَامَ، فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُوَلِّيًا، فَأَمَرَ بِهِ فَدُعِيَ، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: «مَاذَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ» ؟، قال: معي سورةُ كذا وكذا؛ عَدَّدَهَا، فقَالَ: «تَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ» ؟، قَالَ: نعم، قالَ: «اذهبْ فقدْ مَلَّكْتُها ‌بِمَا ‌مَعَكَ ‌مِنَ ‌الْقُرْآنِ»؛ (رواه مسلمٌ).

 

وبهذا الاستغناءِ القرآنيِّ كانت خصيصةُ أهلِ الإيمانِ الذين تميَّزوا بها عن غيرِهم، فقدْ حَمَلَ جمْعٌ من العلماءِ المحققين قولَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاريُّ -: «لَيْسَ منَّا مَنْ لَمْ ‌يتغنَّ ‌بالقرآنِ» على ذلك الاستغناءِ، قال الإمامُ أبو عبيدٍ القاسمُ بنُ سلَّامٍ: لَا يَنْبَغِي لحاملِ الْقُرْآن أَنْ يرى أحدًا من أهلِ الأَرْضِ أغْنى مِنْهُ وَلَو مَلَكَ الدُّنْيَا بِرَحْبِها، وقال بعضُ السلفِ: مَن قَرَأَ الْقُرْآنَ فَرَأى أَنَّ أحدًا أُعْطيَ أفضلَ مِمَّا أُعْطيَ؛ فقد عظَّمَ صَغِيرًا، وَصَغَّرَ عَظِيمًا، وكَانَ ابنُ مسعودٍ - رضيَ اللهُ عنه - يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَيَمُرُّ بِالْآيَةِ، فَيَقُولُ لِلرَّجُلِ: «خُذْهَا؛ فَوَاللَّهِ لَهِيَ ‌خَيْرٌ ‌مِمَّا ‌عَلَى ‌الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ»، وكان يقول: مَن قرأَ آلَ عمرانَ فهو غنيٌّ، وكَانَ رَجُلٌ يُكْثِرُ غَشَيَانَ ‌بَابِ ‌عُمَرَ بنِ الخطابِ - رضيَ اللهُ عنه - طالبًا المالَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: اذْهَبْ فَتَعَلَّمْ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى، فَذَهَبَ الرَّجُلُ فَفَقَدَهُ عُمَرُ، ثُمَّ لَقِيَهُ فَكَأَنَّهُ عَاتَبَهُ، فَقَالَ: وَجَدتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا أَغْنَانِي عَنْ ‌بَابِ ‌عُمَرَ!

 

عبادَ اللهِ، إنَّ للقرآنِ خاصيةً تُكْسِبُ صاحبَه الغنى الحقيقيَّ وإنْ كان مُعْدَمًا من الدنيا، وذاك بما أودعَه اللهُ من الخيرِ والبركةِ التي لا تفْنى ولا تنقصُ، بل تزيدُ وتَفيضُ، فبالقرآنِ هناءُ الدنيا؛ إذ به انشراحُ الصدرِ، وطمأنينةُ القلبِ، وتسكينِ الرَّوْعِ، وذهابُ الهمِّ، وعلاجُ الألمِ، وإذهابُ الحزنِ، وتحقُّقُ البصيرةِ التي تُدْرَكُ بها حقائقُ الأقدارِ، وهل يُرادُ من الاستغناءِ إلا هذا؟! {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 57، 58]، ويقولُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ هَمٌّ، أَوْ حَزَنٌ فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ، إِنِّي عَبْدُكَ، وَابْنُ عَبْدِكَ، وَابْنُ أَمَتِكَ، وَفِي قَبْضَتِكَ، نَاصِيَتِي فِي يَدَيْكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ: أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ ‌رَبِيعَ ‌قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي»، قَالَ: «فَمَا قَالَهُنَّ عَبْدٌ قَطُّ إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَ حُزْنِهِ فَرَحًا»، قَالُوا: أَفَلَا نَتَعَلَّمُهُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «بَلَى، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِكُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُنَّ أَنْ يَتَعَلَّمَهُنَّ»؛  (رواه أحمدُ وصحَّحَه الألبانيُّ).

 

ولاستشعارِ قَدْرِ العلمِ الذي يُكْسِبُه القرآنُ صاحبَه لذةُ غنىً لا يَعْدِلُها كلُّ ملاذِّ الدنيا، ولأجلِها صُبِرَ على الفقرِ والتغرُّبِ وتعبِ البدنِ، وكان محلَّ الاغتباطِ، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51]، ويقولُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا ‌حَسَدَ إِلَّا في اثنتين: رجلٍ علمه اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النهار، فسمعَه جارٌ له فقال: ليتني أوتيتُ مثلَ ما أوتيَ فلانٌ، فعملتُ مثلَ ما يَعملُ، ورجلٍ آتاه اللهُ مالًا فهو يُهْلِكُه في الحقِّ، فقالَ رجلٌ: ليتني أوتيتُ مثلَ ما أوتي فلانٌ، فعملتُ مثلَ ما يَعملُ»؛ (رواه البخاريُّ).

 

وملازمةُ القناعةِ التي تطيبُ بها الحياةُ، والاصطبارُ على إبقائها من أسرارِ الغنى القرآنيِّ؛ إذ هو منبعٌ لها وباعثٌ عليها، خَرَجَ الإمامُ المزنيُّ مِنْ بَابِ جَامِعِ الْفُسْطَاطِ مُعَلِّقًا نَعْلَيْهِ وَقَدْ أَقْبَلَ قرينٌ له في العلمِ ثريٌّ فِي مَوْكِبِهِ، فَبَهَرَهُ مَا رَأَى مِنْ حَالِهِ وَحُسْنِ هَيْبَتِهِ، فَتَلَا قَوْلَهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ}، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ بَلَى؛ ‌أَصْبِرُ وَأَرْضَى، وَكَانَ مُقِلًّا رَحْمَةُ اللَّهُ عَلَيْهِ.

 

أما بعدُ، فاعلموا أنَّ أحسنَ الحديثِ كتابُ اللهِ، أيها المؤمنون، ولئن كان غنى القرآنِ الدنيويُّ عظيمًا، فماذا عساه أنْ يكونَ في الآخرةِ؟! بركةٌ تَفْيضُ وتمتدُّ إلى أبوي صاحبِ القرآنِ الحافظِ له العاملِ به، يقولُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْقُرْآنَ يَلْقَى صَاحِبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَنْشَقُّ عَنْهُ قَبْرُهُ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ[2]، فَيَقُولُ لَهُ: هَلْ تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: مَا أَعْرِفُكَ، فَيَقُولُ: أَنَا صَاحِبُكَ الْقُرْآنُ الَّذِي أَظْمَأْتُكَ فِي الْهَوَاجِرِ وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ، وَإِنَّ كُلَّ تَاجِرٍ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِهِ، وَإِنَّكَ الْيَوْمَ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ تِجَارَةٍ؛ فَيُعْطَى الْمُلْكَ بِيَمِينِهِ، وَالْخُلْدَ بِشِمَالِهِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لَا يُقَوَّمُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا، فَيَقُولَانِ: بِمَ كُسِينَا هَذَا؟ فَيُقَالُ: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ وَاصْعَدْ فِي دَرَجِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا، فَهُوَ فِي صُعُودٍ مَا دَامَ يَقْرَأُ، هَذًّا كَانَ، أَوْ تَرْتِيلًا»؛ (رواه أحمدُ وحسَّنَه ابنُ كثيرٍ).

 

بتلك المآثرِ الدنيويةِ والأخرويةِ فاقَ إغناءُ القرآنِ كلَّ غنى، بل لا ذِكْرَ للغِنى سواه، وكان لاستشعارِ ذلك الغنى والاصطباغِ بحُلَّتِه أثرُه الوضيءُ الراسخُ على أهلِه المستغنين به؛ إذ كان ذاك حاملًا لهم على الزهدِ في الدنيا وإنزالِها منزلتَها التي أنزلَها اللهُ تعالى، وإنْ طَلبوا منها ما طَلبوا، ومَلَكوا من زهرتِها ما مَلَكوا، فلم تفتنْهم، ولم تطغْهم، وذاك ما جعلَ الإمامَ أحمدَ يأسى على حالِ مَن تعلَّمَ القرآنَ وفَتَنَتْهُ الدنيا؛ إذ يقولُ: عَزِيزٌ ‌عَلَيَّ أَنْ تُذِيبَ الدُّنْيَا أَكْبَادَ رِجَالٍ وَعَتْ صُدُورُهُمْ الْقُرْآنَ، فكيف بحالِ مَن جعلَ القرآنَ عوضًا عن عَرَضٍ من الدنيا خسيسٍ؟! وعاشَ بهذا الاستغناءِ القرآنيِّ أهلُه القائمون به أباةً كِرامًا وإنْ أقْفَروا من حطامِ الدنيا، فلم يَذِلُّوا لأهلِها، أو يُعْطُوا الدَّنِيَّةَ في دينِهم، أو يشتروا بآياتِ اللهِ ثمنًا قليلًا؛ قال عبدُاللهِ الليثيُّ: لَا يَنْبَغِي لِمَنْ أَخَذَ بِالتَّقْوَى وَالْوَرَعِ ‌أَنْ ‌يُذَلَّ لِصَاحِبِ الدُّنْيَا، وكَانَتْ للعالِمِ معمرِ بنِ سليمانَ النخعيِّ حَاجَةٌ إِلَى بَعْضِ أهلِ الدنيا، فَقِيلَ لَهُ: لَوْ أَتَيْتَهُ فَكَلَّمْتَهُ، فقال: قَدْ أَرَدتُ إِتْيَانَهُ، ثُمَّ ‌ذَكَرْتُ ‌الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ؛ فَأَكْرَمْتُهُمَا عَنْ ذَلِكَ.

يَقُولُونَ لِي فِيكَ انْقِبَاضٌ وَإِنَّمَـــــــا   ***   رَأَوْا رَجُلًا عَنْ مَوْقِفِ الذُّلِّ أَحْجَمَـــــا 

أَرَى النَّاسَ مَنْ دَانَاهُمْ هَانَ عِنْدَهُــمْ   ***   وَمَنْ لَزِمَتْهُ عِزَّةُ النَّفْسِ أُكْرِمَـــــــــــا 

وَلَمْ أَقْضِ حَقَّ الْعِلْمِ إنْ كَانَ كُلَّمَـــــا   ***   بَدَا طَمَعٌ صَيَّرْتُهُ لِي سُلَّمَـــــــــــــــــا 

وَمَا كُلُّ بَرْقٍ لَاحَ لِي يَسْتَفِزُّنِـــــــــي   ***   وَلَا كُلُّ مَنْ فِي الْأَرْضِ أَرْضَاهُ مُنْعِمَـا 

إذَا قِيلَ هَذَا مَنْهَلٌ قُلْتُ قَـــــــدْ أَرَى   ***   وَلَكِنَّ نَفْسَ الْحُرِّ تَحْتَمِلُ الظَّمَـــــــــا 

وَلَمْ أَبْتَذِلْ فِي خِدْمَةِ الْعِلْمِ مُهْجَتِي   ***   لِأَخْدِمَ مَنْ لَاقَيْتُ لَكِنْ لِأُخْدَمَــــــــــا 

أَأَشْقَى بِهِ غَرْسًا وَأَجْنِيهِ ذِلَّـــــــــــةً   ***   إذًا فَاتِّبَاعُ الْجَهْلِ قَدْ كَانَ أَحْزَمَــــــــا 

وَلَوْ أَنَّ ‌أَهْلَ ‌الْعِلْمِ ‌صَانُوهُ صَانَهُــــمْ   ***   وَلَوْ عَظَّمُوهُ فِي النُّفُوسِ لَعُظِّمَـــــــــا 

وَلَكِنْ أَذَلُّوهُ فَهَانَ وَدَنَّسُــــــــــــــوا   ***   مُحَيَّاهُ بِالْأَطْمَاعِ حَتَّى تَجَهَّمَــــــــــــا 

 


[1] الناقة الكوماء: عظيمة السنام، وهي من أنفس مال العرب.

[2] الشحوب: تغيّر اللون.