الأصول الصليبية لبناء سد النهضة الأثيوبي على نهر النيل لخنق مصر
عبد المنعم منيب
هناك جانبا لم يلق اهتماما كافيا رغم أهميته وهو الجانب التاريخي أو الأصل التاريخي لفكرة بناء سد على نهر النيل يتحكم في جريان مياه هذا النهر
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
حظيت عملية بناء سد النهضة الأثيوبي بالاهتمام سياسيا واقتصاديا وتقنيا كتابة وتعليقا وتناولا في وسائل الاعلام المختلفة إلا أن هناك جانبا لم يلق اهتماما كافيا رغم أهميته وهو الجانب التاريخي أو الأصل التاريخي لفكرة بناء سد على نهر النيل يتحكم في جريان مياه هذا النهر، وهذا الجانب التاريخي نراه موثقا في تاريخ العصور الوسطى بل وفي وثائق التاريخ الحديث والمعاصر بوضوح.
نجد في تاريخ العصور الوسطى أن اتصلات مهمة جرت بين إثيوبيا وقوى أوروبية عدة، فبعد هزيمة البيزنطيين في ملاذكرد عام 1071م دعا بابا روما الى إطلاق الحملات الصليبية على المشرق وفي نفس الوقت تواصل مع ملك الحبشة طالبا منه أن يضغط عسكريا على المسلمين في إطار الحملات الصليبية كي تكون الحرب على المسلمين من جهة الجنوب أيضا وليس من الشمال فقط، وقد ارسل ملك الحبشة يوحنس عام 1165م الى الامبراطور البيزنطي كومنيوس يخبره بتجهزه للحرب من أجل المسيحيين، كما تبادل البابا الكسندر الثالث مع النجاشي رسائل سنة 1177م تهدف أن تساهم الحبشة في القضاء على الاسلام والمسلمين([1]).
وحدثت اتصالات متكررة بين بابوات روما أو ملوك أوربيين منهم ملوك فرنسا والبرتغال وأرجونة وقبرص من جهة وبين ملوك الحبشة (أثيوبيا الحالية) المتعاقبين من جهة أخرى بهدف الضغط العسكري على دولة الإسلام إن الدولة المملوكية او العثمانية عبر الجنوب وعبر البحر الأحمر إن بالحصار أو بالهجوم([2])، وبسبب هذه الاتصالات بين ملوك أوروبا والحبشة فإن دولة المماليك احتاطت لنفسها وأخذت تراقب البحر الأحمر رقابة دقيقة كما منعت الأوربيين من اجتيازه دون تصريح خاص من سلطان المماليك([3]).
وبغض النظر عن الأحداث التفصيلية للعلاقات بين الحبشة من جهة وبين البابوات الذين توالوا على كرسي بابوية الفاتيكان والعديد من ملوك وأمراء القوى الصليبية الأوروبية([4]) فإن أحد استراتيجيات الحبشة وحلفائها الأوربيين كان هو تحويل مياه النيل عن الجريان في اتجاه مصر من أجل تجويع سلطنة المماليك في مصر، يقول أستاذنا د.سعيد عبد الفتاح عاشور: "وهناك في المصادر ما يشير إلى أن ملوك الحبشة هددوا بتحويل مجرى النيل للقضاء على دولة المماليك قضاء تاما، وقد أشار فيليب دي ميزيير –صاحب المشروع الصليبي الكبير في القرن الرابع عشر- إلى إمكان تنفيذ مشروع تحويل مجرى النيل للقضاء على دولة المماليك قضاء تاما، وظلت هذه الفكرة تراود عقول المتحمسين للحرب الصليبية حتى نهاية العصور الوسطى، فأرسل الفونس الخامس ملك أرغونة إلى ملك الحبشة سنة 1450 يطلب منه أن يعمل على تحويل مجرى النيل ومهاجمة مصر من الجنوب، في الوقت الذي يقوم ألفونس نفسه بغزو بيت المقدس وفلسطين([5]).
ولما اشتد النزاع بين المماليك والبرتغاليين عقب كشف طريق رأس الرجاء الصالح، أرسل البوكرك –قائد الأسطول البرتغالي- إلى ملك البرتغال يطلب إمداده بعدد كبير من العمال المدربين على قطع الصخور وحفر الأرض، للعمل فورا على تحويل مجرى النيل، مما يدل على اعتقاد الأوربيين والأحباش جميعا في إمكانية تنفيذ هذا المشروع، ولكن لم تلبث الأيام أن أثبتت أن النيل لا يستغنى عن مصر"([6])أ.هـ نص كلام د.سعيد عبد الفتاح عاشور.
وذكرت المصادر عن المراحل التاريخية التالية محاولات أخرى لمنع جريان نهر النيل إلى مصر والسودان([7])، و من ذلك محاولة ملك فرنسا لويس الرابع عشر، تحويل مجرى النيل الأزرق، بالاتفاق مع ياسو ملك الحبشة سنة 1705، وأرسل المسيو "لانوا ردى رول" محملا بالهدايا للقيام بالمهمة فأرسلت مصر العثمانية إلى مملكة "سنار" لتعترض المبعوث الفرنسي فاعترضته قوات مملكة "سنار" وقتلته هو ومن معه، وكان ذلك سببا لنشوب حرب بين الحبشة ومملكة "سنار" انتهت بهزيمة الأحباش.
وفى أثناء النزاع بين مصر وإثيوبيا فى عهد الخديوى سعيد على الحدود الشرقية للسودان كتب القنصل الفرنسى فى مصر بنديتى إلى حكومته فى نوفمبر 1856 أن الامبراطور الإثيوبى تيودور يهدد بالإغارة على السودان المصرى ويريد تحويل مجرى النيل حتى يجعله يصب في البحر الأحمر.
وفى فترة الاحتلال الإيطالى للحبشة فى ثلاثينيات القرن العشرين، فكر الإيطاليون فى تحويل مياه النيل الأزرق إلى البحر الأحمر ومنعها من الوصول الى مصر، لكنهم اصطدموا بالتضاريس التى جعلت عملية التنفيذ صعبة، كما أن الإنجليز لم يمهلوهم وتدخلوا وأخرجوا إيطاليا من إثيوبيا عام 1941.
وإذا كانت هذه المعلومات الموثقة تؤرخ لمحاولات أثيوبيا وحلفائها الأوربيين لتنفيذ استراتيجية التحكم في نهر النيل عبر تحويل مجرى نهر النيل عن السريان شمالا لمنع جريان ماءه إلى مصر وتجويعها في العصور الوسطى ومطلع التاريخ الحديث، عصر الاستعمار الأوربي لأفريقيا، فإن وثائق تاريخية مهمة أخرى تؤرخ لأحداث التاريخ المعاصر تكشف أن أثيوبيا مازالت تسعى للتحكم في جريان مياه النيل باتجاه مصر، ومن هذه الوثائق وثيقة سرية لوزارة الخارجية البريطانية تم رفع السرية عنها مؤخرا تكشف أن بريطانيا في الفترة 1961-1962 سعت لإيجاد حالة من التفاهم بين مصر والسودان وأثيوبيا حول إدارة مياه نهر النيل ورغم أنها فشلت في ذلك لأسباب مختلفة إلا أن الوثيقة تقول: " انطلاقا من التقارير القادمة من أديس أبابا عن المناقشات مع بتريديس (مستشار امبراطور إثيوبيا) في السنوات الأخيرة والكلام الذي يصدر من حين لآخر عن السفير الإثيوبي في القاهرة، فإنه لو امتلك الإثيوبيون ثروة تضاهي في أي وقت أفكارهم بشأن النيل، كان الله في عون مصر"([8]).
وأوردت وثيقة الخارجية البريطانية السرية نفسها أنه في إطار نقاش البريطانيين مع محمد فائق أحد مستشاري جمال عبد الناصر اعتبر هذا المسئول المصري أن أثيوبيا لن تمتلك القدرة على تنفيذ مخططاتها للهيمنة على نهر النيل وعقبت الوثيقة البريطانية قائلة: "إن المصريين لا يعبأون بالإثيوبيين"، و وحذر "التقرير/الوثيقة" من عواقب وخيمة للغاية لمثل هذا التصور، قائلا إنه "لو تبين خطأ المصريين، فستكون تلك نهايتهم"([9]).
واستنادا إلى هذا التصور، توقعت الخارجية البريطانية أن تواجه مصر مشكلة لا قبل لها بها مع الإثيوبيين بسبب المياه([10]).
ولم تقتصر المحاولات والمخططات الأثيوبية في ستينات القرن العشرين الميلادي على مجال الهيمنة والتحكم في مياه نهر النيل بل سعت أيضا لتكوين تكتل اقليمي من دول منابع نهر النيل لمجابهة مصر والسودان وسعت للحصول على مساندة المملكة المتحدة (بريطانيا) لهذا التكتل المناهض لمصر والسودان وقد كشفت وثائق وزارة الخارجية البريطانية السرية المرفوع عنها السرية مؤخرا عن تفاصيل هذا السعي الأثيوبي وكشفت أنه في 24 نوفمبر 1961، عرض "بتدريديس"، مستشار الحكومة الإمبراطورية الإثيوبية لشؤون المياه، على السفارة البريطانية في أديس أبابا الاقتراح، وتقول الوثائق إن السفارة البريطانية في أثيوبيا تعاملت بجدية مع عرض "بتدريديس"، اليوناني الجنسية، وفي تقرير إلى الخارجية في لندن، قالت السفارة إن بتدريديس أبلغها أنه أعد ورقة لمجلس الوزراء الإثيوبي والامبراطور توصي "بضرورة أن تتعاون الحكومة الإثيوبية مع حكومة جلالة الملكة (البريطانية) ودول منابع النيل عموما لصياغة سياسة مشتركة"([11]).
وقد أجمعت الآراء في وزارة الخارجية البريطانية و وزارة شؤون المستعمرات على رفض العرض الإثيوبي، الذي وصف بأنه "يدعو للأسف وإن كان غير مفاجىء بتشكيل جبهة في مواجهة مصر والسودان لأنه سوف يعقد الأمور وقد كانت السفارة البريطانية في أثيوبيا أيدت التقييم نفسه، ما جعل الخارجية تتبنى، في مذكرتها، الرأي بأن أفكار الإثيوبيين غير معقولة ولا يمكن قبولها، وقالت إن الاعتراضات على عرض تبني سياسة مشتركة مع الإثيوبيين (جبهة واحدة في مواجهة المصريين) ستكون أقل لو كانت الأفكارالإثيوبية بشأن الموضوع (مشكلة مياه النيل) معقولة، و في تقييمها للعرض الإثيوبي، خشيت بريطانيا على مستقبل علاقات بريطانيا مع مصر إن هي وافقت على العرض الإثيوبي([12]).
وفي مقال "مأزق على النيل" نشره مركز كارنيغي للشرق الأوسط ذكر أنه كادت تندلع حرب بين مصر وأثيوبيا سنة 1979، عندما ردّت مصر على سعي إثيوبيا لبناء سد وحشدت قواتها في السودان، كما لوحت مصر باللجوء إلى العمل العسكري ضد إثيوبيا مرة أخرى سنة 1994 بسبب كشف أثيوبيا عن خطط لبناء سد على نهر النيل([13]).
ومؤخرا نجد وزير الخارجية الاثيوبي فور انتهاء إثيوبيا من الملء الأول لسد النهضة في 2020، يغرّد على حسابه في تويتر قائلا باللغة الأمهرية "تهانينا، سابقاً كان النيل يتدفق، والآن أصبحت هناك بحيرة، ولن تتدفق مياهها نحو النهر، ومنها ستحصل إثيوبيا على تنميتها المنشودة. في الحقيقة.. النيل لنا"([14]).
وقد يقول البعض إن اثيوبيا في العصر الحالي انما تفعل ذلك من أجل حاجتها للتنمية الاقنصادية وليس بهدف خنق مصر والسودان عكس ما كانت تهدف خططها في الماضي البعيد والقريب على حد سواء ولكن يرد على ذلك أن أثيوبيا "ليست بحاجة لأي ماء فهى أغنى مكان في العالم بالمياه العذبة حيث يسقط على إثيوبيا 936 مليار متر مكعب من الأمطار سنوياً، ولا حاجة لديها للمياه إلا إذا كان الغرض هو منعها عن الآخرين، إذ أن نصيب الفرد من المياه في إثيوبيا ثلاثة أضعافه في مصر، والأراضي المزروعة فعلاً في إثيوبيا عشرة أضعاف الأراضي الزراعية في مصر، وعدد رؤوس الماشية في إثيوبيا 13 ضعف عددها في مصر، وتستهلك أكثر مما يستهلكه 100 مليون نسمة في مصر، وعدد أحواض الأنهار في إثيوبيا تسعة أحواض بكل حوض عشرات الأنهار، مقابل نهر يتيم بلا روافد أو فروع في مصر، أما بحيرة تانا في إثيوبيا التي ينبع منها النيل الأزرق فبها مياه تستأثر بها إثيوبيا وحدها تزيد على كامل حصة مصر من المياه، وإثيوبيا بها خزان سد تيكيزي على عطبرة أحد روافد النيل يضم 10 مليارات متر مكعبة تستفيد منها إثيوبيا، وعدد السدود المقامة على الأنهار والبحيرات في إثيوبيا 12 سداً، إضافة إلى سدها الأخير أي 13 سداً مقابل سد وحيد في دولة صحراوية جافة هي مصر"([15]).
ولذلك يقول وزير الموارد المائية والري المصري الأسبق محمد نصرالدين علام: إثيوبيا تهدف إلى الهيمنة المائية لتغيير ميزان القوى الاستراتيجي في شرق أفريقيا.
ونفس الرأي يراه العديد من الباحثين والمحللين السياسيين وهو أن غرض أثيوبيا هو الهيمنة المائية والهيدرومائية على مصر والسودان وبالتالي تحقيق هيمنة استراتيجية عليهما وعلى شرق أفريقيا كله كما أن العديد من المحللين السياسيين يتهمون قوى اقليمية ودولية كبرى بمساندة أثيوبيا في هذا المسعى للهيمنة وعلى رأسها اسرائيل والولايات المتحدة وغيرهما([16]).
فإذا كانت أثيوبيا سعت لمنع تدفق النهر الخالد إلى مصر والسودان سابقا لخنقهما فهي الآن تسعى للتحكم في جريانه من أجل الهيمنة على مصر والسودان.
([1])محمد عبد الله النقيرة، انتشار الإسلام في شرق افريقية، ط دار المريخ للنشر، الرياض، د.ت، ص295 وما بعدها.
([2])انظر تفاصيل هذه الاتصالات والخطط عبر فترة زمنية طويلة شملت عدة قرون متتالية في: سعيد عبد الفتاح عاشور، الحركة الصليبية، ط مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة 2010، ج2 ص408-412
([3])سعيد عبد الفتاح عاشور، نفس المصدر، ج2 ص410.
([4])وشملت أغلب قوى ذلك الوقت من أول قبرص وإيطاليا وصولا لفرنسا وأرغونة والبرتغال وأسبانيا..الخ من جهة أخرى.
([5]) De La Ronciere: La Decoverte de L’Afrique au Moyen Age, Tom II, P119.
نقلا عن: سعيد عبد الفتاح عاشور، مصدر سبق ذكره، ج2 ص411-412.
([6])سعيد عبد الفتاح عاشور، مصدر سبق ذكره، ج2 ص411-412.
([7])محمد عبد الرحمن، خلاف تاريخى .. تعرف على محاولات منع مياه النيل عن مصر بواسطة إثيوبيا، تقرير على الرابط التالي: https://cutt.us/ZZu4i بتاريخ 12/6/2020.
([8])عامر سلـطان، سد النهضة: لو امتلك الإثيوبيون ثروة تمكنهم من تنفيذ أفكارهم بشأن النيل، فليُعِن الله مصر ـ وثائق بريطانية، تقرير بتاريخ 4/7/2021 على الرابط التالي: https://cutt.us/IJxI3
([9]) نفس المصدر.
([10]) نفس المصدر.
([11]) عامر سلطان، النيل: لندن رفضت خطة إثيوبية قبل ستة عقود لتشكيل جبهة من دول المنبع ضد مصر والسودان، وثائق بريطانية، بتاريخ 18/7/2021، على الرابط التالي: https://cutt.us/ptAzl .
([12])نفس المصدر السابق.
([13]) بهاء الدين عياد، قضية سد النهضة الإثيوبي: اتفاقيات وحروب للسيطرة على "الذهب الأزرق"، تقرير على الرابط التالي: https://cutt.us/nyNtk بتاريخ 28 أكتوبر 2021 ، تاريخ المشاهدة 26/9/2022.
([14])نفس المصدر السابق.
([15])نفس المصدر السابق.
([16]) إسراء عباس و إبراهيم عباس، سد النهضة الإثيوبي ما بين اتفاقيات مياة النيل والنظام القانوني للأنهار الدولية، https://cutt.us/3nqLQ بتاريخ 11/1/2021، وذكر هذا البحث أنه كانت بعثة أرسلتها الولايات المتحدة عام 1958 إلى أثيوبيا قد وضعت مخططاً لبناء 33 مشروعاً وسداً كان هدفه في الأساس الاضرار بالمصالح المائية المصرية، كما ذكر البحث أنه طرحت عدة مشروعات لتوصيل النيل لإسرائيل مثل: مشروع إليشع كالي الذي طرح في1986، 1989، 1991، و مشروع يؤر1979، ومشروع هيرتزل.