أكل الحرام
إن من أعظم المصائب التي عمت وطمت في هذا الزمان الجشع والطمع والحرص على جمع المال من كل الطريق وبكل وسيلة ممكنة بغض النظر عن كون هذه الوسيلة تجوز أو لا تجوز حلالا كانت أو حراما.
- التصنيفات: - آفاق الشريعة - فقه البيع والشراء -
إن من أعظم المصائب التي عمت وطمت في هذا الزمان الجشع والطمع والحرص على جمع المال من كل الطريق وبكل وسيلة ممكنة بغض النظر عن كون هذه الوسيلة تجوز أو لا تجوز حلالا كانت أو حراما.
فهذا تاجر يغش الناس بسلعته وذاك موظف لا ينهض بمسئولية وظيفته والآخر يمنع أصحاب الحقوق حقوقهم مع غناه وقدرته وهذا يرتشي وذاك يسرق والآخر يلف ويدور ويكذب والرابع يغش ويحتال وينصب وذاك يتعامل بالربا وهذا يتاجر بما يفسد عقول الناس ويدمر حياتهم.
يقول الله في كتابه العظيم {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالًا وعدده * يحسب أَنَّ مَالَهُ أخلده * كلا لَيُنبَذَنَّ فِي الحطمة * وما أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} ويقول سبحانه وتعالى {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ َ ﴾ ويقول ﴿ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}.
إننا في زمان لم يعد بعض الناس يبالي فيه بما أكل أمن حرام أو من حلال ولا يهمه أن يغذي أهله وأولاده من الحرام أو الحلال.
إن هذا الزمان أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فقال «يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه، أمن الحلال أم من الحرام» ؟ (رواه البخاري).
أنظر إلى أسواقنا لتسمع الأيمان الكاذبة وترى الغش الواضح وتطفيف المكيال والميزان واختلاس الأموال وبيع ما لا يجوز بيعه واللف والخداع والقمار يقول الله {كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى} ويقول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}.
عباد الله:
إن المال الحرام والمكاسب المحرمة تقّسي القلب وتطفئ نور الإيمان وتذهب البركة وتعمي البصيرة، وتوهن الدين، وتٌظلم الفكر، وتقعد الجوارح عن الطاعات، وتوقع المرء في حبائل الدنيا وغوائلها، وتمنع إجابة الدعاء فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِيَ بالحرام، فأنَّى يُستجاب له؟
ولهذا فإن السلف رضي الله عنهم كانوا في قمة الحذر وفي غاية الخوف من أن تصل إلى أجوافهم ولو لقمة من الحرام فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم خير خلق الله وأتقاهم لله يقول «إني لأنقلب إلى أهلي فأجد الثمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها، ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها».
وهذا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان لا يأكل إلا من كسبه وفي يوم من الأيام جاءه غلامه بشيء فأكل منه ثم قال الغلام لإبي بكر أتدري ما هذا، فقال أبو بكر: وما هو ؟ قال: كنت تكهنت لرجل في الجاهلية فأعطاني فأدخل الصديق أصبعه في فيه وجعل يقيئ حتى ظن أن نفسه ستخرج.
ورُوي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شرب لبنًا فأعجبه، فقال للذي سقاه: من أين لك هذا؟ فقال: مررت بإبل الصدقة وهم على ماء فأخذت من ألبانها، فأدخل عمر يده فاستقاء.
وهذه إمراءة من الصالحات تقول لزوجها اتق الله في رزقنا، فإنا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار.
روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم خيبر أقبل نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: فلان شهيد، وفلان شهيد، حتى مروا على رجل فقالوا: فلان شهيد، فقال النبي : «كلا، إني رأيته في النار في بردة أو عباءة غلها» يعني أخذها من الغنيمة قبل أن تقسم.
فانظروا يا عباد الله رجل يقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يكرمه الله بالشهادة ولكن لأنه أخذ حراما - ربما يراه بعض الناس منا يسيرا بردة أو عباءة أخذها من غنيمة شارك هو في القتال فيها ومع ذلك كله قال النبي صلى الله عليه وسلم «كلا، إني رأيته في النار» فالأمر خطير جدا جداً ياعباد الله.
ألا يتق الله من يرتشي وهو يسمع حيث النبي صلى الله عليه وسلم لعن الله الراشي والمرتشي.
ألا يتق الله بعض الباعة الذين يستغفلون الناس ويضحكون عليهم ويزينون لهم شراء أمور هم أنفسهم يعلمون أنها لا تنفع أو لا تساوي الثمن المطلوب.
ألا يتق الله من يزور الوثائق ويلعب بالعقار ويعطي الأرض الواحدة لشخصين أو أكثر.
ألا يتق الله بعض السماسرة والمقاولون الذين يتفقون مع أرباب العمل على اتفاقيات وعهود ثم لا يوفون بها أو يخالفونها.
ألا يتق الله بعض المسئولين والتجار الذين يأكلون ملئ بطونهم وينامون ملئ جفونهم والآف الأسر بل ملايين البشر يكابدون الجوع والذل والمسكنة.
ألا يتق الله بعض أصحاب المحلات الذين يبيعون أمورا منكرة لا يشك عاقل في تحريمها وإنكارها.
ألم يؤمن هؤلاء جميعا بقول الله {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} ألم يسمعوا حديث النبي صلى الله عليه وسلم ( «لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع»، وذكر منها: «وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه» ؟ ألم يسمعوا حديث النبي صلى الله عليه وسلم عند ما قال في الحديث الصحيح «فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله، فإن الله لا يُنال ما عنده إلا بطاعته» ألم يسمعوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «لتؤدُن الحقوق إلى أهلها حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء».
اقنعوا بالحلال عن الحرام، وتوبوا إلى الله من المظالم والآثام، وأحسنوا كما أحسن الله إليكم، ويسروا على عباد الله إن يسر الله عليكم، واجعلوا أموالكم حجابا لكم من النار وأتقوا النار ولو بشق تمرة.
يقول الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه: إن الدنيا حلالها حساب وحرامها عذاب، وشبهتها عتاب.
يقول الله في كتابه الكريم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.
إن من أعظم أسباب الشقاء والدمار، ومن أخطر ما يوصل الإنسان إلى النار ومما يجلب للعبد سخط الجبار أكل المال الحرام.
يقول الله {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} ويقول النبي صلى الله عليه وسلم «من اقتطع حق امرئ مسلمٍ بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرّم عليه الجنة»، فقال له رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال: «وإن كان قضيبًا من أراك» (رواه مسلم في صحيحه).
أيها الناس:
إن صعوبة الأوضاع وتعقد الحياة وغلاء الأسعار وظنك المعيشة ليس عذرا لبعض الناس في اللف والدوران وأخذ الرشوة وأكل الحرام فإن الله يقول {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} ولا يفعل ذلك إلا من قسى قلبه واستولت الغفلة على نفسه وضعف إيمانه وقل يقينه وعميت بصيرته.
دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فوجد رجلا من أصحابه عليه علامات الهم والغم فقال له صلوات الله وسلامه عليه «يا أبا أمامة ما الذي أجلسك في المسجد في هذه الساعة» ؟ قال: يا رسول الله، هموم أصابتني وديون غلبتني فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : «ألا أعلمك كلمات إذا قلتهن أذهب الله همك وقضى دينك» قال قلت: بلى يا رسول الله، قال: «قل إذا أصبحت وإذا أمسيت اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال» قال فقلتهن فأذهب الله همي وقضى ديني" رواه أبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
عباد الله:
إن الغنى ليس بكثرة الرزق وإنما الغنى ببركة الرزق والبركة ليست في الكثرة وإنما البركة في الطاعة والقناعة وأن ترضى بما قسم الله لك وأن تقنع بما آتاك الله.
ولعلم كل من تسول له نفسه في أكل الحرام أنه سيجد عاقبة الحرام في الدنيا قبل الآخرة وسيعذب به في الحياة قبل الموت يقول الله {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}.
اشتكت امراءة إلى مروان بن الحكم الصحابي الجليل سعيد بن زيد رضي الله عنه وأرضاه مدعية - كذبا وزورا - أن سعيدا أخذ شيئا من مالها فقال سعيد : اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها واجعل قبرها في دارها، قال راوي الحديث عروة بن الزبير: فوالله، لقد عمي بصرها حتى رأيتها امرأة مسنة تلتمس الجدران بيديها، وكانت في هذه الأرض بئر فسقطت في البئر، فكان ذلك البئر قبرها.
يقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم «إنَّمَا أنا بَشَرٌ وَإِنَّمَا يَأْتِينِي الْخَصْمُ فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ من بَعْضٍ فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ فَأَقْضِي له فَمَنْ قَضَيْتُ له بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ من النار فَلْيَحْمِلْهَا أو يَذَرْهَا». (أخرجه البخاري ومسلم).
_______________________________________________
الكاتب: د. مراد باخريصة