كيف فهم العلماء نصوص الطب النبوي؟
أحمد عبد المجيد مكي
في السطور التالية عرض مختصر لأقوال شراح الأحاديث ، و بطبيعة الحال، لن أسرد كل أقوالهم، كما لن أقف مع كل وسيلة على حدة بل سأتعرض لأشهرها.
- التصنيفات: الحديث وعلومه -
ينقسم علاج الأمراض إلى ثلاثة أقسام:
القسم الاول : الوسائل التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم لغيره، كالعلاج بالعسل وأبوال الإبل وألبانها والحجامة والتمر والتلبينة....( ويطلق عليها الطب النبوي).
القسم الثاني: العلاج بالأذكار والأدعية والمعوذات والرقى، وهذه لا يستغنى عنها المسلم بحال ، أيا كان نوع المرض، وخاصة في علاج العين والسحر والحسد.
القسم الثالث: العلاج عن طريق الطب الحديث، الذي يعتمد على الحقائق العلمية والعلاجات المادية المدروسة.
وحديثنا هنا عن القسم الأول، هل له صفة العموم لكل أحد في كل زمان ومكان؟، أم أن بعضه مخصوص بزمان النبي صلى الله عليه وسلم ، وبعضها له صفة الخصوص من حيث حالة كل مريض ، فما يصلح لمريض قد لا يصلح لآخر؟.
في السطور التالية عرض مختصر لأقوال شراح الأحاديث ، و بطبيعة الحال، لن أسرد كل أقوالهم، كما لن أقف مع كل وسيلة على حدة بل سأتعرض لأشهرها.
أولًا - عسل النحل :
-أخبرنا ربنا في محكم تنزيله أن العسل فيه شفاء للناس، قال تعالى : {(يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ)} [النحل: 69].
قال الإمام القرطبي (ت: 671هـ) : اختلف العلماء هل هو على عمومه أم لا، فقالت طائفة: هو على العموم في كل حال ولكل أحد، وقالت طائفة: إن ذلك على الخصوص، ولا يقتضي العموم في كُلِّ عِلَّةٍ وفي كل إنسان، بل إِنَّهُ خَبَرٌ عن أنه يَشْفِي كما يَشْفِي غيره من الأدوية في بعض وعلى حال دون حال، ففائدة الآية إخبار أنه دواء- لَمَّا كَثُرَ الشفاء به وصار خليطا و مُعِينًا للأدوية في الأشربة والمعاجين- ، وليس هذا بأول لفظ خُصِّص، فالقرآن مملوء منه، ولغة العرب يأتي فيها العام كثيرا بمعنى الخاص، والخاص بمعنى العام.
ومما يدل على أنه ليس على العموم أن" شِفاءٌ " نكرة في سياق الإثبات، ولا عموم فيها باتفاق أهل اللسان ومحققي أهل العلم و أهل الأصول ([1]).
- وفي الصحيحين أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أخي يشتكي بطنه فقال: اسْقِهِ عَسَلاً ثم أتى الثانية، فقال: اسْقِهِ عَسَلاً ثم أتاه الثالثة، فقال: اسْقِهِ عَسَلاً ثم أتاه، فقال: فَعَلْتُ فقال: صَدَقَ الله و كَذَبَ بَطْنُ أخيك، اسقه عسلا فسقاه، فَبَرَأَ ([2]).
قال النووي : قال بعض العلماء: الآية على الخصوص، أي شفاء من بعض الأدواء، ولبعض الناس، وكان داء هذا المبطون مما يُشفى بالعسل، وليس في الآية تصريح بأنه شفاء من كل داء، ولكن عَلِم النبي صلى الله عليه وسلم أن داء هذا الرجل مما يشفى بالعسل ([3]).
ثانيًا - الحبة السوداء:
حديث أبي هريرة ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «في الحبة السوداء شفاء من كل داء، إلا السام» ([4]). والسام يعني: الموت.
وصيغة هذا الحديث فيها من التعميم ما ليس في آية النحل ، ومع ذلك لم يقل العلماء بأنها على عمومها، وأنها نافعة لكل داء.
قال الخطابي: قوله (من كل داء) هو من العام الذي يراد به الخاص ، لأنه ليس في طبع شيء من النبات ما يجمع جميع الأمور التي تقابل الطبائع في معالجة الأدواء بمقابلها، وإنما المراد أنها شفاء من كل داء يحدث من الرطوبة....
وقال أبو بكر بن العربي : من الأمراض ما لو شرب صاحبه العسل لتأذى به ، فإن كان المراد بقوله في العسل "فيه شفاء للناس" الأكثر الأغلب ، فَحَمْل الحبة السوداء على ذلك : أولى.
وقال غيره : كان النبي صلى الله عليه وسلم يصف الدواء بحسب ما يشاهده من حال المريض، فلعل قوله ذلك وافق مرض مَن مزاجه بارد، فيكون معنى قوله:( شفاء من كل داء) أي : من هذا الجنس الذي وقع القول فيه، والتخصيص بالحيثية كثير شائع ([5]).
ثالثًا - التداوي بأبوال الإبل :
روى البخاري وغيره أن قوماً قَدِموا إلى المدينة ، فمرضوا، فأشار عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بالشرب من ألبان إبل الصدقة وأبوالها ، حَتَّى صَحُّوا وَسَمِنُوا ، وفي القصة أنهم ارتدوا وقتلوا راعي الإبل، ثم أدركهم المسلمون وقتلوهم ([6]).
وقد ذهب الإمام السَّرَخْسيُّ، الفقيه الأصوليُّ المعروف وأحد أئمَّة المذهب الحنفي (ت :483 هـ) إلى إن التداوي بأبوال الإبل رخصة لأناس مخصوصين في وقت مخصوص، ولا يصح تعميمه على الناس إلى الأبد ، واستند في ذلك إلى قاعدة أصولية مفادها أن ( حكاية الحال -إذا تطرق إليها الاحتمال- كساها ثوب الإجمال ، وسقط منها الاستدلال) ، وهذا فيما يتعلق بالوقائع الفعلية التي تحتمل التخصيص ، وهو ما ينطبق على هذه الحادثة.
ونَصُّ كلامه : الحديث حكاية حال، فإذا دار بين أن يكون حجة، أو لا يكون حجة سقط الاحتجاج به، ثم نقول: خصهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك؛ لأنه عرف من طريق الوحي أن شفاءهم فيه، ولا يوجد مثله في زماننا، وهو كما خص الزبير ابن العوام بلبس الحرير لِحَكَّة كانت به... ، أو لأنهم كانوا كفارا في علم الله تعالى، وقد عَلِم رسول الله - من طريق الوحي- أنهم يموتون على الردة، ولا يبعد أن يكون شفاء الكافر في النجس ([7]).
وقد نقل العلامة بدر الدين العينى (ت: 855هـ) كلام السرخسي السابق ثم أعقبه بقوله : فإن قلت: هل لأبوال الإبل تأثير في الاستشفاء حتى أمرهم صلى الله عليه وسلم بذلك؟ قلت: قد كانت إبله صلى الله عليه وسلم ترعى الشيح والقيصوم، وأبوال الإبل- التي ترعى ذلك وألبانها- تدخل في علاج نوع من أنواع الاستشفاء، فإذا كان كذلك، كان الأمر في هذا أنه- عليه الصلاة والسلام- عرف من طريق الوحي كون هذه للشفاء، وعرف أيضا مرضهم الذي تزيله هذه الأبوال، فأمرهم لذلك، ولا يوجد هذا في زماننا([8]).
رابعًا -أحاديث العجوة :
قوله صلى الله عليه وسلم: مَن أكل سبع تمرات من تمر المدينة حين يُصبح: لم يضرَّه سُمّ حتى يُمْسِي ([9])
يرى جمع من اهل العلم ان هذا الحديث- وما في معناه- خاصّ بزمانه صلى الله عليه وسلم ، وحجتهم عدم معقولية معناه من جهة الطب، وفي هذا يقول المازري (ت 536هـ): هذا مما لا يعقل معناه في طريقة علم الطّبّ ، ولو صحّ أن يخرج لمنفعة التّمر في السمّ وجه- من جهة الطبّ- لم يقدر على إظهار وجه الاقتصار على هذا العدد الّذي هو سبعٌ، ولا على الاقتصار على هذا الجنس الذي هو العجوة، ولعلّ ذلك كان لأهل زمانه - صلى الله عليه وسلم - خاصةً أو لاكثرهم، إذ لم يثبت عِندي استمرار وقوع الشّفاء بذلك في زمنناغالبا،...([10]).
وأقره غير واحد كالإمام ابن العربي والقاضي عياض وابن حجر والمناوي.
وانتقد الإمام النووي هذا التوجيه، وحذر من الاغترار به، ورأى انه كلام باطل لا يلتفت إليه ، وعلق ابن حجر على كلام النووي بقوله : ولم يظهر لي من كلامهما –أي المازري والقاضي عياض- ما يقتضي الحكم عليه بالبطلان([11]).
قال أبو العباس القرطبي (ت 656 هـ) : فحيث أطلق العجوة هنا إنما أراد به عجوة المدينة ... وظاهر هذه الأحاديث: خصوصية عجوة المدينة بدفع السُّم، وإبطال السحر.... ثم هل ذلك مخصوص بزمان نطقه - صلى الله عليه وسلم - أو هو في كل زمان؟ كل ذلك محتمل، والذي يرفع هذا الاحتمال التجربة المتكررة، فإنَّ وجدنا ذلك كذلك في هذا الزمان؛ علمنا أنها خاصة دائمة، وإن لم نجده مع كثرة التجربة؛ علمنا أن ذلك مخصوص بزمان ذلك القول([12]).
خامسًا-أحاديث الحجامة :
قال صلى الله عليه وسلم : إِنَّ أَمْثَلَ ما تداويتم به الحجامة والقُسْطُ البَحْرِيُّ ([13]).
قال ابن القيم (ت: 751هـ) تعليقا على هذا الحديث: إشارة إلى أهل الحجاز، والبلاد الحارة؛ لأن دماءهم رقيقة ([14]).
وقال المناوي (ت: 1031هـ): في الحجامة شفاء من غالب الأمراض لغالب الناس في قطر مخصوص في زمن مخصوص، هكذا فافهم كلام الرسول، ولا عليك من ضعفاء العقول، فإن هذا وأشباهه يخرج جوابًا لسؤال معين يكون الحجم له من أنفع الأدوية ولا يلزم من ذلك الاطراد([15]).
وأخيرا أود التنبيه على أمرين مهمين :
الأول: أن القول بخصوصية هذه الوسائل لا يعني عدم الاستفادة منها لمن احتاج إليها، ولم يكن هناك ضرر من استعمالها، بشرط ألَّا يقدح ذلك في الأصل ، وهو أن أهل كل فن أعرف وأحق به من غيرهم، وأن مرض الإنسان وما يتعلق به موكل إلى الأطباء ، استنادا لقوله تعالى {{فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}} [النحل: 43].
الثاني: أن بعض المشتغلين بالطب النبوي بالغوا فيه وقدّموا أنفسهم على أنهم مختصون بهذا الطب، ويعالجون المرضى على هذا الأساس، ولا ريب أن في هذا السلوك جرأة على دين الله وغش لعباده ومخاطرة بحياتهم.
نسأل الله أن يفقهنا في الدين ، وأن يديم علينا الصحة والعافية، وأن يشفي مرضانا ومرضى المسلمين أجمعين ، اللهم آمين.
([1]) تفسير القرطبي (10/ 136).
([2]) اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان (1432 (.
([3]) شرح النووي على مسلم (14/ 203).
([4]) اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان (1430 (.
([5]) فتح الباري (10/145).
([6]) رواه البخاري ( 2855 ) ومسلم (1671 (.
([7]) المبسوط للسرخسي (1/ 54).
([8])عمدة القاري شرح صحيح البخاري (3/ 155).
([9]) رواه مسلم (2047).
([10]) المُعْلم بفوائد مسلم (3/ 121(.
([11]) فتح الباري لابن حجر (10/ 240(.
([12]) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (5/ 321).
([13]) اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان (1015 (.
([14]) زاد المعاد في هدي خير العباد (4/ 50(.
([15]) فيض القدير (2/ 471(.