حزن تمليه الخشية!

عن سفيان رحمه الله: “ما أطاق أحدٌ العبادةَ ولا قوِيَ عليها إلا بشدةِ الخوف”.

  • التصنيفات: الزهد والرقائق -

صبغ الحزن أيامهم، وغير الخوف ملامحهم، وصاروا أشبه ما يكونون بالأنين الذي يصدر عن قلوبهم!

يقول بشر بن الوليد: “رأيت الأوزاعي كأنه أعمى من الخشوع[1]

ويقول جعفر: “كنت إذا رأيت وجه محمد بن واسع حسبت أن وجهه وجه ثكلى”[2]

وهم أهل العلم، وقد أخبرنا الله تعالى في كتابه العزيز أنّ الخوف منه إنّما يتوطّن قلوب أهل العلم به، قال تعالى: “إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ”..

كان أمر الخوف من الله يمسك في أنفسهم بزمام بقيّة الأمور، فيكون انقياد حياتهم إليه، والاعتماد في السير إلى الله عليه.

وعن الخوف في حياتهم نتحدّث، فأوقدوا شموعكم، والتئموا حول هذا الحديث الخاشع يرحمكم الله.

 

السماء

في زمن يعتقد ميمون بن مهران أنّ الخوف قد بهت في نفوس العباد، أخذ يطوّف بذكريات أيامه الخوالي، ثم قال: “أدركت من لم يكن يملأ عينيه من السماء فَرَقًا من ربه عز وجل”[3]

هكذا يسيرون مطرقين، ينظرون إلى الأرض، يتخايلونها تميد بهم خشية وخوفًا..

إن السماء لعلوّها، تذكرهم بربهم الأعلى الذي خلق فسوّى والذي قدّر فهدى! تذكرهم بالذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، تذكرهم بالذي على العرش استوى، الذي يعلم السر وأخفى! فلا يحدّقون في الأعلى! لأنّ شيئًا من الذهول يغشاهم إذا ما حدّقوا في الأعلى، وشيئا من الرعب يحيط بهم، وأشياء من الرجفة والانضمام والبرودة تنتزع الراحة من حياتهم!

يروي قتادة عن مورِّق العِجْلي قوله: “ما وجدت للمؤمن في الدنيا مَثَلًا إلا مَثَلَ رجلٍ على خشبةٍ في البحر وهو يقول: يا رب، يا رب!”[4]

هذا المنظر هو أقرب منظر لما ينبغي أن يكون عليه شأن المؤمن عند مورّق رحمه الله! إنّه على خشبة في البحر، والأمواج تتلاطم به، وهو يجأر: يا رب، يا رب.. هكذا كانوا يرون الحياة، ويرون ما ينبغي أن يكون عليه أهل هذه الحياة! فكل شيء من حولهم ينبغي أن ينزع عنهم أردية الطمأنينة! فالله عظيم ينبغي أن يُحذر منه! “ويحذركم الله نفسه”!

 

التردد

مسلم بن يسار يفتق معنًى من معاني الخشية عميق وجليل، يقول رحمه الله: “إذا حدثت عن الله، فأمسك! فاعلم ما قبله وما بعده”[5] إنّه معنى التردد لأجل الله، التوقف قليلًا قبل أن تزعم أن الله يريد هذا، أو لا يريد ذاك! إنّه باب إلى النار يفتح، فإما أن تغلقه بالخشية، وإما أن تَلِجَه بالجرأة!

والحديث عن الله مرعب ومرهب! يقول الأشعث: “كان محمد بن سيرين إذا سُئل عن شيء من الفقه.. تغير لونُه وتبدّل حتى كأنه ليس بالذي كان”[6]

ويأخذ مهدي بن ميمون عدسته ويقربها أكثر من ابن سيرين فيقول: “كان محمد بن سيرين يتمثل الشعر، ويذكر الشيء ويضحك، حتى إذا جاء الحديث من السُنّة كلح، وانضم بعضه إلى بعض!”[7]

وهذا ابن عون يزيد أمر ابن سيرين جلاء فيقول: “كان محمد بن سيرين إذا حدّث كأنه يتقي شيئاً، كأنه يحذر شيئاً”[8]

إنه رحمه الله يتمثل الوقوف بين يدي الله، وكيف سيجيب الله عن شيء أباحه، وقد حرّمه الله تعالى! أو حرّمه وقد أباحه الله تعالى! هذه الفكرة تجعل جلده يتغيّر، ولونه يتبدّل، وملامحه تذبُل!

يتخايل حديث  «من كذب عليّ متعمدًا فليتبوّأ مقعده من النار»  فيتراءى النار تصطفق أبوابها، فيضطرب لأجل ذلك! ويصرف وجهه ليشتت ذاك الخيال!

ولذلك فإن علماء الحديث يصفون ابن سيرين بشدّة الدقة في نقل وضبط ألفاظ الحديث! ولعل هذا هو السبب، فلم يكن يجيز لنفسه الرواية بالمعنى!

أما إن أردت أن يذهلك ابن سيرين رحمه الله، فتعال معي لتسمعه وهو يقول: “إني أرى المرأة في المنام فأعرف أنها لا تحل لي، فأصرف بصري عنها”[9]إنه نوع من الخوف لا يخطر ببال أحد، فرحم الله التربة التي كانوا يمشون عليها!

 

طول النسيئة

ما أصدق كلماتهم رحمهم الله، لذلك فإنّها تحرّك تلك المناطق التي علاها السكون في قلوبنا!

ولم يكونوا يتمثلون الخشية فحسب، بل كانوا يدفعون الحياة لتجثو في محراب الخشية، فتزكوا النفوس بمواعظهم، ويفقه الغافل شيئًا لم يكن يدركه!

يقول أبو عمران الجوني: “لا يغرنكم من الله طول النسيئة، فإن أخذه أليم شديد”[10]

إن شيئًا من الطمأنينة تعلو القلوب، بسبب إمهال الله تعالى عباده، وحلمه عنهم، ولكن لا ينبغي أن يغتر العبد بذلك الإمهال، أو كما عبّر أبو عمران “طول النسيئة” فإن الله إن أخذ العبد لم يفلته، وهذا المعنى من المعاني التي بسببها طال خوفهم، وعظم واشتد..

ويعلي الفضيل بن عياض نبرته لتستيقظ نفوس طال نومها! فيقول رحمه الله: “إن خفت الله لم يضرك أحد، وإن خفت غير الله لم ينفعك أحد”[11]ثنائية سهلة الفهم، بسيطة الإدراك! ولكنه لا يُلَقَّاها إلا الذين أدركوا غورها وعمقها!

إن خفت الله فإن خوف الله أعظم ما يساقط عنك الذنوب! فهو مثل الريح الشديدة التي تتساقط بها أوراق يابسة على شجرة ذابلة في ليلة خريفية!

فإذا نقّيت من الذنوب، لم تعد متلبّسا بما تستحق العقاب لأجله، من إضرار الآخرين بك! فيكون بذلك الخوف من الله سبب في طمأنينة العبد من أن يضرّه أحد من الخلق! كيف أدرك الفضيل هذا العمق، ثم عبّر عنه بهذا اللغة السهلة!

أما الحسن البصري فيقول واعظًا كعادته في الوعظ: “والله لأن تصحب أقواما يخوفونك حتى يدركك الأمن خير لك من أن تصحب أقواما يؤمنونك حتى يلحقك الخوف”[12]

فانظر إلى عاقبة الأمر، ولا تصرفك البدايات عن النهايات!

 

دموع الحسن:

وكانوا رحمهم الله يعيشون بالخوف، حتى طبعهم الخوف بطابع الحزن، فصاروا وكأنّهم قطع خلقت من الحزن والكآبة!

فهذا الحسن البصري، يسير في طرقات البصرة كاسف النظرة، متحقّبًا أحزانه، مرتديًا مخاوفه، مصطحبًا توجّسه!

يقول يوسف بن أسباط: “مكث الحسن ثلاثين سنة لم يضحك، وأربعين سنة لم يمزح”![13]

ويصفه إبراهيم بن عيسى اليشكري فيقول: “ما رأيت أحدا أطول حزنًا من الحسن، ما رأيته إلا حسبته حديث عهد بمصيبة”[14]

يراه الناظر، فيظن أنّه حديث عهد بفقد حميم! هكذا ترى مخايل الوجع في ملامحه!

يفسّر رحمه الله شيئا من سر تلك النظرات الموغلة في الحزن، وذلك الذعر الملاصق لقلبه فيقول: “نضحك ولعل الله قد اطلع على بعض أعمالنا فقال: لا أقبل منكم شيئاً” [15]

فاطلاع الله على أعمالنا المسكونة بإرادة الدنيا كان أحد أسباب حزنه!

ومرة أخرى يكشف لنا عن سرّ آخر لذلك القلق، فيقول: “يحق لمن يعلم أن الموت مورده وأن الساعة موعده وأن القيام بين يدي الله تعالى مشهده أن يطول حزنه”[16]

وقد طال حزن الحسن طولًا لا مزيد عليه!

 

أحزان الفضيل:

وهذا الفضيل بن عياض كان سابغ الأحزان، منكسر النظرات، يسير في الدنيا وكأنّه ليس من الدنيا!

يقول عبد الله بن المبارك: “إذا نظرت إلى الفضيل جدد لي الحزن، ومقتُّ نفسي، ثم بكى”[17]

بات حزنه يبث هالاته فيمن حوله! ويتحدث ابن المبارك مرة أخرى عن هذا الحزن فيقول: “إذا مات الفضيل؛ ارتفع الحزن”[18]

نعم فهو يرى أن كل الحزن قد اجتمع في صدر الفضيل!

ويفسّر الفضيل سبب تلك المسحة الحزينة بالخوف من الذنوب ومغبّتها، فيقول: “المؤمن يهمه الهرب بذنبه إلى الله يصبح مغموما ويمسي مغمومًا”[19]

ويفسرها مرة أخرى بأنها ناجمة عن التزوّد ليوم المعاد فيقول: “المؤمن في الدنيا مغموم يتزود ليوم معاده قليل فرحه”[20]

فقد صُنعت آهاته بين ذنوب يخافها، وأعمال يخاف عليها!

 

مخاوف سفيان:

يأتينا سفيان الثوري فتأتي معه الدهشة! كان يقول رحمه الله: “إني لأسأل الله أن يذهب عني من خوفه”[21]

لقد كان يعاني من شدّة الخوف من الله، إن النوم لا يغدو مريحًا، والحديث مع الناس لا يبدو ممتعًا، بل وحتى العبادة يغدو عليها شيء من رماد الرهبة إذا ما عظم خوف العبد من الله! وهذا الذي كان يسكن روح سفيان! لقد أذبله القلق، وشتت فؤاده الفَرَق! فلذلك كان يدعو الله أن يخفف عنه ما يجده في نفسه من الخوف الشديد!

يقول عطاء الخفاف: ما لقيت سفيان الثوري إلا باكيا! فقلت: ما شأنك؟ قال: “أتخوّف أن أكون في أم الكتاب شقيا”[22]

إنه الخوف من الشقاء الأخروي! الخوف من أن يتفاجأ عند الرجوع إلى الله بأن تقديراته لم تكن دقيقة! خاصّة حينما يصل إلى أذنيه صوت شهيق جهنّم!

ولشدة خوفه من ربّه بات يمشي بين الناس، ولسانه يشي بذلك الشعور الذي يتغشّى فؤادَه! فقد وصف رحمه الله أنّه كان يُرى وكأنه في سفينة يخاف الغَرَق! وأكثر ما يُسمع منه رحمه الله قوله: “يا رب سلّم سلّم”[23]

ويحدثنا سفيان وهو الخبير، بسبب بهتان الخشية في نفوس العباد فيقول: “بلغني أنه يأتي على الناس زمان تمتلئ قلوبهم في ذلك الزمان من حب الدنيا فلا تدخله الخشية”[24]فالدنيا هي التي يدور حولها الشأن كلّه، فإن دخلت إلى القلب من باب، فسيخرج منه الخوف من الباب الآخر! وكل شيء من الدنيا يأتي، يعقبه شيء من الخشية يذهب!

يقول رحمه الله: “ليس طلب العلم فلان عن فلان إنما طلب العلم الخشية لله عز وجل”[25]

ويقول: “لو لم أعلم لكان أقل لحزني”[26]

يختصر سفيان قضية طلب العلم في الخشية، وما أجمل اختصاراتهم رحمهم الله، لديهم قدرة فائقة في تحييد ما ليس له مساس بأصل المسألة، ثم يعطونك الخلاصة أنقى ما تكون!

يأتي ابن المبارك رحمه الله ليشرح ذلك الاختصار فيقول: “أكثركم علما ينبغي أن يكون، أشدكم خوفا”[27]

والفضيل بن عياض رحمه الله يؤمّن على ذات المعنى فيقول: “أعلم الناس بالله أخوفهم منه”[28]

فالعلاقة بين العلم والخشية لديهم كما ترى طرديّة، فالزيادة في هذا يتبعها زيادة في هذه.. أو هكذا ينبغي أن يكون الأمر.

ويختم لنا سفيان رحمه الله درس الخوف بمقولة مهمة جدًا، ومحوريّة جدّا في هذا الباب: “ما أطاق أحدٌ العبادةَ ولا قوِيَ عليها إلا بشدةِ الخوف”[29]وهو ولا شك يتحدّث عن تجرِبته الخاصة، وإلا فهناك من أطاق العبادة بالرجاء، وهناك من أطاقها بالحب، وهناك من أطاقها بالشكر! وللنفس أحوال، وإقبال وإدبار.. ورضي الله عن سفيان، وعن أيام سفيان..


[1] صفة الصفوة (2/ 405)

[2] صفة الصفوة (2/ 159)

[3] تاريخ دمشق لابن عساكر (61/ 345)

[4] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (2/ 235)

[5] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (2/ 292)

[6] صفة الصفوة (2/ 144)

[7] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (2/ 274)

[8] صفة الصفوة (2/ 143)

[9] تاريخ بغداد ت بشار (3/ 283)

[10] حفظ العمر لابن الجوزي (ص: 68)

[11] شعب الإيمان (2/ 305)

[12] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (2/ 150)

[13] صفة الصفوة (2/ 138)

[14] سير أعلام النبلاء ط الرسالة (4/ 575)

[15] صفة الصفوة (2/ 138)

[16] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (2/ 133)

[17] تاريخ دمشق لابن عساكر (48/ 389)

[18] تاريخ دمشق لابن عساكر (48/ 382)

[19] تاريخ دمشق لابن عساكر (48/ 445)

[20] تاريخ دمشق لابن عساكر (48/ 445)

[21] سير أعلام النبلاء ط الرسالة (7/ 276)

[22] سير أعلام النبلاء ط الرسالة (7/ 266)

[23] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (7/ 21)

[24] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (7/ 38)

[25] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (6/ 370)

[26] صفة الصفوة (2/ 85)

[27] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (8/ 168)

[28] تاريخ دمشق لابن عساكر (48/ 415)

[29] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (6/ 362)

_____________________________________________________

الكاتب: علي جابر الفيفي