فضيلة التواضع
يا عبد الله، تواضَعْ؛ فالتواضع في موضعه رِفعة وعزٌّ، والله تعالى قد جعل أكرم الناس أتقاهم، لا أنسبهم، ولا أعلمهم، ولا أكثرهم مالًا وولدًا وجاهًا...
- التصنيفات: تزكية النفس - أخلاق إسلامية -
يا عبد الله، تواضَعْ؛ فالتواضع في موضعه رِفعة وعزٌّ، والله تعالى قد جعل أكرم الناس أتقاهم، لا أنسبهم، ولا أعلمهم، ولا أكثرهم مالًا وولدًا وجاهًا، وتعظم الرزيَّة حين يكون المتفاخر طالب علم، وتأمل كيف كان الرجل يدخل على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو بين أصحابه فيسألهم: أيكم محمد؟ لقد كان صلى الله عليه وسلم مدرسةً متكاملة في كل خصال الخير، وقد كانت جواري الحيِّ الصغيرات ينتهين بغنمهن إلى أبي بكر الصديق فيقول لهن بكل تواضع: "أتُحْبِبْنَ أن أحْلِبَ لكنَّ حَلْبَ ابْنِ عَفْرَاء؟".
فحدِّث نفسك على الدوام ألَّا تظن أنها أفضل من أحد من المسلمين، فإن أبَتْ، فذكِّرها الثلاث: أنك لا تعلم باطنه؛ فقد يكون خيرًا من باطنك، ولا تعلم قبولك عند ربك؛ فقد تكون أعمالك رُدَّت، ولا تعلم خاتمته وخاتمتك، ويا أيها الفاني تواضع، واعلم أنك ترتفع وتسمو في قلوب الناس على قدر اتضاعك العفوي لهم، وتسقط من عيونهم وتتضع في صدورهم على قدر ترفعك عنهم وتكبرك عليهم.
وإن لكل إنسان قصةَ حياةٍ كاملة، قد تكون أعجب مما تتصور، وله أحاسيسه المفعمة بألوان المشاعر مهما رأيت فراغ كينونته، وكل شخص لديه قصة حزن بداخله، فرفقًا بمن تحبون، ولا تحقرن من البشر أحدًا، وتأمل مليًّا أول قصة في التاريخ، واعلم أن بعض صورها يتكرر فيك وبك، فتدبر واستلهم العبر؛ إنها: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، وكُنْ كأبيك الصالح لا عدوك الرجيم، وإن رأيت من أحد ذنبًا تتعاظمه، فلا تحجرن عنه رحمة الله وهدايته، فإنك لا تعلم خابيته ولا خاتمته؛ ولقد قال عامر بن ربيعة رضي الله عنه يومًا: "لا يسلم الذي رأيت – أي عمر - حتى يسلم حمار الخطاب"، فما هو إلا زمن ليس بالطويل، وإذ بعمر قد صار وزيرًا مقربًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعزًّا للإسلام، وغيظًا للشيطان وحزبه، وأميرًا للمؤمنين.
واعلم أنه ليس من عادة الصدر الأول تصدير الأسماء بألقاب التفخيم كسموه، ومعاليه، وفضيلته، ولا بحرف الدال والميم، ولا تقديم النسب على الاسم، بل كانوا أهل تواضع وبساطة وعفوية، كما أنه ليس من شرط العلم والثقافة نيل الشهادات العرفية، فالرافعي والعقاد اللذان أسمعا آذان الدنيا شهادتهما هي الابتدائية فقط، كما أن بعض كبار العلماء وفحول الفقهاء ونحارير العلم في هذا الزمان ليس لهم شهادة ولا منصب أصلًا، فلا تغتر بالزبد وانفذ للصريح.
لقد رفع الإسلام سلمان فارس *** وأذل الشرك الشريفَ أبا لهب
هذا وإن الأصل في الفخر بالنسب هو المنع، مهما كان شرفه إلا في الحرب؛ وذلك لأمرين:
1- عمومات النهي عن التفاخر بالحسب والنسب، ولا استثناء إلا بدليل.
2- أن شرف النسب لا يخلو من كونه نعمةً في الدنيا فيكون حاله كالمال والمتاع ونحوه؛ فلا يشرع الفخر به، أو أن يكون نعمةً دينية كالإيمان والفقه؛ فالمنع من التفاخر به آكد.
ومهما يكن من أمر، فالمرء لا يُوزَن بماله ولا نسبه ولا لحمه، بل بدينه وعلمه وعقله وأدبه؛ قال شيخ الإسلام: "ليس في كتاب الله آية واحدة يُمدَح فيها أحد بنسبه، ولا يُذَم أحد بنسبه"، وقال الرجيم يومًا مفتخرًا بأصله، متعاليًا على نبي كريم، خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف: 12]، فمَنْ تَعَالى على الناس بنسبه، فشيخه إبليس، ومن تعالى عليهم بماله، فشيخه قارون، وعلم لا يقرب من الله لا خير فيه، وخيرُ أصلٍ تنتسب إليه هو أصل الإسلام {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78]، فهو النسب الذي يستحق الغبطة حقًّا، وتفكر في العندية في قول الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيدُ ولدِ آدمَ ولا فخر»، فحتى في مقام السيادة على جميع البشر، تبرأ من الافتخار على أحد منهم، فهو يتحدث بنعمة الله لا يفتخر؛ وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "غلط من ألغى فضيلة الأنساب، وغلط من ظن أنها تفضيل بتعيين الشخص، والحق أنها فضيلة جملة، وفضيلة لأجل المظنة والسبب، أما فضيلة التقوى ففضيلة تعيين"، ومثال ذلك في معادن الأرض لمن ينقبون عن الذهب، فنراهم يركزون البحث في بقاع معينة أكثر من غيرها؛ لأنه في الأغلب تكثر فيها عروق الذهب أكثر مما عداها، مع علمهم أنه قد توجد في البقاع التي رغبوا عنها عروق أفضل وأجود مما ظنوه في الأولى، فالمسألة مسألة غلبة ظن بوجود الصفات الحسنة في كذا وكذا، وقد لا توجد في الحقيقة، وقد توجد ناقصة، وقد يوجد في غيرها أفضل منها، ومن ذلك أن جنس المهاجرين أفضل من جنس الأنصار، ولكن يوجد من الأنصار كسعد بن معاذ وأسيد بن حضير وعبادة بن الصامت وغيرهم أشخاص أفضل من كثير من المهاجرين، فعاد الأمر للمظنة والأغلبية، لا التعيين بالذات، وبكل حال:
إن يختلف ماء الوصال فماؤنا *** عذب تحدَّر من غمام واحدِ
أو يختلف نسب يؤلف بيننــا *** دين أقمناه مقام الوالــــــــدِ
ولا تهتم للون بشرتك في الدنيا، فمصيرها للدود، ولا لنسبك فهو للفناء، ولكن اهتم لبياض وجهك غدًا بين يدي ربك {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106]، وإنما يحمد المرء بما له تصرف فيه؛ كخلقه الحسن، وعلمه النافع، وعمله المبرور، وسجاياه الكريمة، أما ما سواه فلا يعول عليه، وعلى المؤمن أن يقنع بقدر الله له مما ليس له حيلة في كسبه ولا دفعه؛ كجنسه ولونه ونسبه وزمانه، ومن الضياع مدافعة ذلك، وعند عتبة الموت تذوب كل الفروق، وإن جمال الصورة وعدمها ليس بمكتسب، فلا يُذَمُّ المرء على أمر لم يصنعه لنفسه، لكن الأخلاق مكتسبة، فهي محل الحمد والذم، ولما سأل رجل آخر عن نسبه ليضع من قدره أجابه: "يا هذا، نسبك ينتهي بك، ونسبي يبدأ بي"، ومنه قول الأول:
إن الفتى من يقول ها أنا ذا *** ليس الفتى من يقول كان أبي
ومما يؤلم المؤمن أن نبرة الازدراء للعنصر المختلف لا تزال سائدة لدى كثير من المسلمين، فلا يزال بعض قومنا إذا ذكر العنصر المختلف بلونه أو نسبه أو شكله أو جنسيته أو إقليمه نَبَزَهُ، وليس مراد كثيرهم التوضيح بل نظرة الدون، وهذا التلوث المعياري لا يسلم منه بلد من بلاد الإسلام، لكنه يزداد في بلد عن غيره بحسب نفخة الشيطان لأهله، ورب العزة يقول: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78]، فبئسًا لأوضار الجاهلية، وتعسًا لمروط الخُيَلاء!
أبي الإسلام لا أب لي سواه *** وإن افتخروا بقيسٍ أو تميمِ
وعند طروء الحسب والسلالة الطيبة التي عنيت بمعالي الأمور على قلب العاقل، فإنها تثمر الهمة العالية، وسمو النفس عن سفاسف الأمور، والبعد عن كل ما يشين، وتدفق في صدره التواضع الصادق، أما إن وردت قلب السفيه، فإنها تثمر الكبر، والغرور، والتيه، والدوران حول ذوات قد فَنَتْ، والفخر بما ليس له، والغفلة عما خُلِق له، ومن تواضع ارتفع، ومن تعالى اتضع، ولا يتواضع إلا من كان واثقًا بنفسه، ولا يتكبر إلا من كان عالمًا بنقصه.
لسنا وإن كرمت أوائلنا *** يومًا على الأحساب نتكلُ
نبني كما كانت أوائلنــا *** تبني ونفعل مثلما فعلـوا
ومن فروع ذلك: كثرة الحديث، وطول النقاش عند مسألة التفضيل بين الذكر والأنثى، والذي ينتهي إليه فضلاء العقلاء: أن المسألة في جوهرها تكامل لا تفاضل.
وخير لك ألَّا ترى ذاتك، فكن في غبراء الناس، إن حضرت لم يأبهوا لك، وإن غبت لم يفقدوك، واكسِرْ صولة عُجْبِك بتذكر ذنبك، وتعاظُمِ نفسك بنقصك وفنائك، وحرصك بحتم قضائك، وطول أملك باقترابك كل مرحلة من موعد رحيلك، واعبر الدنيا بالعبادة، ولا تعمرها بالغفلة، وأحسن علاقتك بالحي القيوم، ثم الْتَحِفْ بقية عمرك.
قال ابن القيم رحمه الله: "إذا أراد الله بعبده خيرًا، سلب رؤية أعماله الحسنة من قلبه، والإخبار بها من لسانه، وشغله برؤية ذنبه، فلا يزال نُصْبَ عينيه حتى يدخل الجنة"، فمن التوفيق لكل ناصح لنفسه أن يجعل نصب عينيه دومًا ذنوبًا سالفة، وأن يستعظمها بلا قنوط، كسرًا لسَوْرَةِ الكبر في نفسه، وقرعًا لصولة عبادته وتدينه، وما أقرب التائب من ربه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة: 222]، فيا صاحبي: كن مخلصًا في غير خنوع، صادقًا في غير غفلة، شريفًا في غير تيه، واعلم أن علامة العظمة التواضع، وأمارة الجبن البطش بالضعيف، وبرهان العقل الاستعداد للقاء الله تعالى، والورع قيد التقوى، والتقوى جماع الخير، وإذا أردت تعلُّمَ علْمٍ، فاعترف بجهلك به أولًا.
ويا عبد الله، ازهد في الرئاسة زهدك في الميتة، فحب الرئاسة من فروع حب الدنيا، وهو آخر ما يسقط من رؤوس الصِّدِّيقين، فترى الرجل من أزهد الناس في المال والمتاع، حتى إذا هَزْهَزَهُ منصب أو رئاسة، تهالك على تحصيله تهالك الغريق بالخشبة، ونسيَ ما كان يُوعَظ به، وسبيل الموت غاية كل حي.
ولحب الرئاسة علامات؛ قال شيخ الإسلام: "وطالب الرئاسة - ولو بالباطل - ترضيه الكلمة التي فيها تعظيمه وإن كانت باطلًا، وتغضبه الكلمة التي فيها ذمه وإن كانت حقًّا، والمؤمن ترضيه كلمة الحق له وعليه، وتغضبه كلمة الباطل له وعليه؛ لأن الله تعالى يحب الحق والصدق والعدل، ويبغض الكذب والظلم".
وشتان بين من وصفهم ربهم بقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات: 16]، وبين: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} [الواقعة: 45]، والقبور مليئة بهؤلاء وأولئك، ونحن نمشي سراعًا على الأثر، ولكل جيل فتنه.
ولا تفرح بالشهرة؛ فالأضواء محرقة، وقد كان السلف يغبطون المجتهد الخفي، وإن الزهد في الدنيا ليس محصورًا في المال فقط، إنه أكثر من ذلك وأشد، وأهون الزهد هو الزهد في المال، ولكل نفس ركن تضعف فيه، وباب يُولَج على حرمتها منه، وإبليس يشم القلب ويدرك باب ضعفه الذي يلج منه، فاحذره؛ {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6]، وكتب سفيان الثوري لأخ له: "واحذر حب المنزلة؛ فإن الزهادة فيها أشد من الزهادة في الدنيا"، فازهد في الثناء، وازهد في الرئاسة، وازهد كذلك في المال، وفي كل ما لا ينفع في الآخرة.
وعليك بالورع في لسانك ويدك وبطنك وجوارحك، ولا تحفِل بما لا ينفعك في مبعثك، وأولى عنه ما تخشى مَغَبَّتَه، ورُبَّ لُعاعة دنيا حجبت رضوان الله، ولو عُرضت عليك حسنات نظير مبلغ مالي، فهل ستشتريها؟ أو عُرض عليك حمل بعض أوزارك عنك مقابل مبلغ مالي، فهل ستقبل؟! هل تعلم أنك تأخذ ذلك من الخلق إذا انتهكوا لك حقًّا، وأنك تعطيهم ذلك إذا انتهكت لهم حقًّا؟ فغدًا يوم الدينونة.
وكثير من سور القرآن العظيم تُخْتَمُ بمواعظ عميقة تُرقِّق قسوة القلوب، فما ظنك بختام القرآن كله وهو قول الله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281]، فما أعظمه من وداع! وما أجلَّها من خاتمة! وهي آخر عهد نزل من السماء، وآخر وصية لي ولك من الله العظيم، فتأملها وتدبرها وتفكر فيها، فأنت المعنيُّ بها.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على محمد...