العقل العربي وصناعة التفاهة
إن العقل العربي ملزم بتصحيح المسار الذي يسير فيه اليوم قبل فوات الأوان، فينأى عن صناعة التفاهة والتفاخر بها...
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
ماذا عرى العقل العربي في زمن الرقمنة؟ هل أصابه الخبل، أم يا تُراه جُن جنونًا لا سبيل إلى رده، أم هو حب المحاكاة لِما يجري هناك وراء البحار؟ لا إخال أن الرائي إذا أبصر، والسامع إذا سمع، ينكر درجات الإسفاف والانحطاط التي بلغها العقل العربي في زمن مُجِّدت فيه التفاهة، وأُسقط فيه الجدُّ، وحُط فيه من قدر الفكر والعلم، فترى الكثير الكثير من أبنائنا متهافتين وراء من لا قدرَ لهم إلا حظ من غناء تافه، ولا منزلة لهم غير حظ صنعوه لهم في عوالم الفيديو التافهة، تجد العيون متطلعة والأعناق مشرئبة نحو ما يصنعون؛ بحثًا عن متعة زائفة ضلَّت طريقها نحوهم، شباب غفل يلهث متحلب الأرياق وراء تفاهات التافهين، مكَّن لهم الإعلام في الأرض، فَهَفَتْ نحوهم مكبرات الصوت تستجدي كلمات منهم لتدوِّنها الأقلام في صفحات ومواقع غدت مطلوبة للقراءة، وسط هذا الزخم من التفاهة المصنوعة والمتهافت نحوها، ضاع العقل العربي في متاهة لا سبيل إلى الخروج منها؛ فغرِق في بحرها اللجي الذي تركب فيه الظلمة بعضها بعضًا، فامَّحت أوراق الكتاب، وانتحرت القراءة الجادة، وأُقبر الفكر في أجداثٍ كانت قد جهزتها أيادٍ خفيَّة من قبل، إلا ما استطاع أن يظل على قيد الحياة وهو يخوض غمار حربٍ ضروس، خرج منها منتصرًا، فأوجد لفكره مكانًا ضيقًا في أرض التفاهة يحاول أن يغالبها فتغالبه، كالأسد يصارع بهيبة الملوك وحوشَ الغاب، لكنه لن يستطيع إليهم سبيلًا؛ لأن الكثرة تغلب الشجاعة.
هكذا حال الفكر المسكين ينوح كالثكلى، وينتحب على وضعٍ آلَ إليه في زمن الرقميات التي كان من المفروض أن تشجع الفكر، وتنهض به من عقاله، وتحيي العقل العربي بدل أن تميته وتسير به إلى مقبرة التاريخ، لينتظر أياديَ أخرى تبعثه من رقاده، بعد أن شهِد عالمنا العربي موتَ الكثير من المفكرين الذين سينتهي برحيلهم رحيلُ الفكر في زمن المعرفة الجاهزة القاتلة للتفكير والإبداع، والنقد والتنقيح، والتعديل والتحديث، في زمن متسارع التحولات محتاج إلى من يأخذ بالفكر إلى طريق حداثي مستجيب للإيقاعات التاريخية المتحولة، لكن العقل العربي للأسف لا يزال خائضًا في لهوه وعبثه، مع ما يجده من التحفيز والتشجيع المباشر وغير المباشر من شبابنا، الذي توسمنا فيه زرع بذور التغيير نحو التحديث والعصرنة، لا نحو الإسفاف والتدني الفكري القاتل للحضارة.
إن ما نشهده اليوم من منطق غريب للحضارة أمر يَندى له الجبين ويرفَضُّ له الجسد عرقًا، فأنت ترى الإقبال الكثيف على عوالم الفيديو من أصناف "الروتين اليومي"، والأغاني الساقطة الملأى بكلمات خادشة للحياء، وما شابه ذلك مما يجري في العالم الرقمي؛ من إثارات وفتنة ظاهرة وباطنة أبطالها نسوة هَتَكْنَ الأعراض، وفضحن المستور، وأخْلَلْنَ بالحياء، لا حظَّ لهن من خُلُق إلا التهتك والعربدة؛ بحثًا عن جني المال، والطامة الكبرى أن شبابنا من أشباه الرجال بدؤوا يحذون حذوهن، كما تحذو القذةُ القذةَ، ويحذو النعلُ النعلَ، فتهافتت العيون إليهم وغدَوا حديث الناس في المجالس وموضوع أسمارهم، فمُنحوا بذلك التمجيد الذي لا يليق بهم، وأُعطوا حظًّا في حياتهم لا يستحقون منه قِيد أنملة، ولا مقدار قطمير في نواة، هكذا صنعتهم ثقافة بناها الجهل والبعد عن قيم الإسلام الراقية، التي ما التفتت يومًا في تاريخها إلى انحلال مجده، أو تفسخ منزله، كما صرنا نشهد الآن على مرأى ومسمع من الكل، حتى بات المشهد مألوفًا، والغريب هو كل صورة معاكسة للفحش والتهتك يتلو فيها قارئ آي الله، أو عالم مبجل يشرح مسألة من مسائل الدين، أو رجل في مكان عام يمسك بكتابٍ يتصفحه بدل الإمساك بهاتف يقلب المواقع فيه، دون أن يرفع بصره عنه أو يزيغ عنه، على هذه الحال صار واقعنا مقلوبًا رأسًا على عقب، مُجِّد فيه أهل البضاعة البخسة الرعناء، وحُط فيه من قدر أهل العلم والفكر، فلم تعد ترى لهم أثرًا في محافل إعلامية، كانت في الماضي مشوقة توَّاقة إلى استضافة النخب المفكرة وصناع الإبداع، فتُعَرِّفُ النشء بهم؛ ليقتدوا بهم ويسلكوا مسلكهم، عدا بعض المحافل الكبرى التي تلتفت بين الفينة والأخرى إلى هؤلاء؛ إرضاء لذوق جماهيري لا يزال العقل العربي يحفِل به، وفي هذا مؤشر خير على أن الفكر مهما صُنع به، فإنه ماضٍ في طريق الانبعاث، ولن تخمد جذوته إلا مع فناء الإنسان، غير أننا نود أن يسود ويطغى على غيره، كما كان في سالف عهودنا؛ ذلك أن طبع الثقافة أن تتأثر بالعناصر من داخلها وخارجها، فتتلون بتلاوين يصنعها توجه الإنسان ذي الأفكار والميولات المتباينة، فبينما تجد فكرًا جادًّا يتشرب من القيم والأخلاق، ويستجيب لمنهج الدين تُلفي آخر تتجاذبه قيمٌ تنأى عن ثقافة الإسلام، مشحونة بالميوعة والتحلل كما كان في عصر بني العباس، ففي الوقت الذي ترجمنا فيه مظانَّ الكتب وأمهاتها وأرسلنا في طلبها من الإفرنجة مقابل الهدايا، فأُنفق لأجلها الكثير من المال حتى فجرنا ينابيع العلوم والفنون، فأدهشنا العالم بعبقرياتنا زمن المنصور وهارون والمأمون، يومها كنا قد بنينا بيت الحكمة، لكننا في الآن نفسه كنا نتصارع مع الملل والنِّحَل المختلفة المفسدة للإسلام؛ كالمانوية والمزدكية وغيرهما من ديانات الأقوام الذين امتزجنا معهم، يومها كنا نعاقب الزنادقة الذين انتشروا كالنار في الهشيم، وفي نفس التاريخ انتشر المجون والانحلال، وفشا الغناء واللهو والعبث، وظهر ذلك في الأشعار؛ فكان شعر الخمر، والتغزل بالغلمان، في مقابل شعر الزهد والتصوف، فهذا النوع من الصراع بين الخير والشر يظل سنة كونية في الأرض، لا سبيل إلى الفرار منه، وإنما المقصد طغيان الخير على الشر؛ لأن هذا مراد النفس السوية الخيرة، فإذا بلغنا هذا المبلغ، فهو جهاد كبير تكبح فيه جماح النفس الأمارة بالسوء، فيعود شبابنا إلى جادة الصواب، ويَدَعُوا سفاسف الأمور تعبث وحدها لتدرك أن لا جمهور لديها، فتكف عن عبثها وترتدع، ولربما كان ذلك سبيلًا إلى عودتها إلى الله وإنابتها.
إن العقل العربي ملزم بتصحيح المسار الذي يسير فيه اليوم قبل فوات الأوان، فينأى عن صناعة التفاهة والتفاخر بها؛ إذ يكفي ما صنعناه منذ سنوات خلت من تباهٍ بأكبر ألوان المآدب، ومنذ أيام مضت بأكبر مزهرية؛ لأن في مثل هذا هدرًا للمال الذي نحتاجه في أمور أكثر إلحاحًا؛ كإصلاح الحفر في طرقاتنا، وترميم مدارس قد تنهار فوق رؤوس الطلاب ومعلميهم، وبناء جسور قد تنقذ أرواح أطفال سيعبرون عليها جيئة وذهابًا، فلا يكونون عرضة لسيل جارف يأتي على حين غرة يخطف أرواحهم الطاهرة، وهلم جرًّا... ولينظر العقل العربي إلى أولئك الذين يتباهون بأسرع طائرة، وأذكى هاتف نقَّال، وأدق رجل آلي، وأفتك سلاح جوي أو بري أو مائي... لينظر إلى مثل هذا وذاك، وليتخذ منه نموذجًا للتنافس، مستجيبًا لنداء رباني جميل، وإن كان في معرض الحديث عن السباق نحو الجنة؛ قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26]، ها هنا مكمن القوة ومربط الفرس، أيها العقل العربي، فما خُلقتَ للعبث واللهو والتفاهة التي طفح كيلها، وبلغ سيلها الزُّبى، وإنما وُجدت لتقود الحضارة، وتمضي قدمًا نحو السناء، كما كنت في الماضي التليد قائدًا رائعًا محنكًا، تهابك الملوك، وتخشى ركابك، وخيلك المطهمة الحضاراتُ، فتحسب لمقدِمِك ألف حساب.
إن صناعة التفاهة مشهودة من أولي النُّهى، ولا يستطيع عاقل أن يجحد وجودها إلا إذا كان من أهل الدناءة، وأصحاب الدعوة إلى الحرية المطلقة المتجاوزة للحدود والخطوط الحمراء، والإبقاء عليها وتشجيعها صناعة للتافهين في مجتمعاتنا، في الوقت الذي تجِدُّ فيه الحضارات الكبرى، وتتحكم في دواليب العالم، وتُسيِّره وفق منظورها ومصالحها، سننتج جيلًا تافهًا يستمرئ التفاهة، ويجعلها جزءًا من ثقافته الاجتماعية، جيلًا يعيش مع عوالم الفيديو التافهة ليلَ نهارَ، يتتبع كل إصدار جديد، همه الأكبر مشاهدة العري والفسق والمجون، وسماع موضات الغناء، منصرفًا عن أمور الدين التي سيجدها ثقيلة على محمله، ممقوتة في مسمعه، فيظل قلبه مغلقًا عليه الأقفال، وفي أذنيه وقر، يظل على هذه الحال شهورًا وسنين، وهو مستجيب للهوى، لا ضمير يحركه، ولا تفكير يململ خاطره؛ علَّه يستشعر ما آلت إليه حاله من بُعْدٍ عن الله، وعن فكر متَّقِدٍ ينير له الطريق، أو إبداع جميل يمتع عقله، ويحرك وجدانه، فيرى الفروق واضحة المعالم بين مسفٍّ منحط كان قد انغمس فيه دهرًا، وطاهر نقي كان قد شطَّ عنه النوى في غفلة منه، وجميل نير كان يصرف عنه النظر يوم جذبته العوالم التافهة بكل مغرياتها الساقطة، فاليوم خمر وغدًا أمر، لتنقلب الدائرة ويعود الجيل إلى جادة الصواب؛ فنضع الموازين في مواضعها الصحيحة، رافعين من درجات أهل العلم والفكر والإبداع الجميل الراقي، وحاطِّين من مراتب أهل الإسفاف بعدما عثَوا في الأرض فسادًا؛ لنطهرها من الأدران التي تركوها على أديمها، ونشرع بحول الله في صناعة عقل عربي جديد سيأخذ منا وقتًا ليس باليسير، لكن الثمار ستكون يانعة متى تعهدناه بالسقيِ، وشذَّبنا أفنانه؛ لأننا سنكون قوة ضاربة في سلم الحضارة بعون الله وتوفيقه.
______________________________________________________
الكاتب: جواد عامر