تحية المسجد والإمام يخطب يوم الجمعة

عبد الرزاق عفيفي

لمن دخل والخطيب يخطب للجمعة هل الإنصات والاستماع فلا يصلى التحية؟ أم صلاة التحية؟

  • التصنيفات: فقه العبادات -

اتفق العلماء على طلب تحية المسجد في الجملة لمن دخل المسجد كما اتفقوا على طلب الإنصات والإصغاء للخطيب يوم الجمعة في الجملة أيضًا واختلفوا فيما ينبغي لمن دخل والخطيب يخطب للجمعة هل الإنصات والاستماع فلا يصلى التحية؟ أم صلاة التحية؟ فذهب إلى الأول من الأئمة الأربعة مالك وأبو حنيفة وإلى الثاني منهم الشافعي وأحمد. وهاك مأخذ الفريقين ومنزع المذهبين وبيان ما يعطيه الحجاج من الحق.

 

احتج الأولون أولًا: بعموم قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204].

 

قالوا: أمر الله تعالى بالإنصات والاستماع للقرآن فالخطبة كذلك إذ هي قرآن وفي أداء التحية وقتئذ تشاغل وإعراض عن امتثال الأمر فلا يجوز.

 

وثانياً: بقوله عليه الصلاة والسلام «إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت» (متفق عليه) ، قالوا اعتبر إرشاده لجليسه إلى الخير وأمره بالمعروف لغواً مع قصر زمنه فالتشاغل بالتحية أولى أن يكون لغواً فيمنع.

 

وثالثاً: بما رواه الطبراني من حديث ابن عمر مرفوعاً إذا دخل أحدكم والإمام على المنبر فلا صلاة ولا كلام حتى يفرغ الإمام.

 

والجواب عن الثلاثة جملة أنها مخصوصة بمن دخل فلا يعمه حكمها لقوله عليه الصلاة والسلام «إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما» (رواه مسلم وأحمد وأبو داود فإنه إذا تعارض الخاص والعام قضي بالخاص على العام) .

 

ويخص الأول أن إطلاق القول بأن الخطبة قرآن دعوى لا دليل عليها. نعم يجوز أن يكون فيها منه آية أو أكثر ومع ذلك فالحكم للغالب، ويخص الثاني أن مصلي الركعتين يطلق عليه منصت ونظيره في ذلك ما رواه أبو هريرة في افتتاح الصلاة أنه قال يا رسول الله، سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول فيه فأطلق السكوت علي القول سراً فهنا كذلك ويخص الثالث أنه حديث ضعيف فيه أيوب بن نهيك قال أبو زرعة وأبو حاتم أنه منكر الحديث فلا تقوم به حجة.

 

واستدلوا رابعاً بما رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة من طريق عبد الله بن يسر قال جاء رجل يتخطى رقاب الناس والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال له اجلس فقد آذيت وفي رواية وأنيت قالوا أمره بالجلوس دون التحية فدل على عدم مشروعيتها حينئذ.

 

والجواب عنه من وجوه: الأول أنه يحتمل أن يكون هذا الرجل قد صلى التحية في مؤخر المسجد على مرأى منه صلى الله عليه وسلم ثم تقدم ليتمكن من سماع الخطبة فتخطى الأعناق فأنكر عليه. الثاني يحتمل أن يكون الرجل دخل في أواخر الخطبة وقد ضاق الوقت بحيث لا يتمكن من التحية قبل الإقامة فلا يطالب بها ويدل على ذلك ما في بعض الروايات فقد أذيت وأنيت أي أبطأت الثالث أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم اجلس النهي عن تخطي الأعناق بدليل قوله فقد آذيت وأما التحية فقد وكله عليه الصلاة والسلام إلى ما علمه الرجال قبل ذلك من ضرورة التحية ومع هذه الاحتمالات لا يقوى الحديث المذكور على الاحتجاج به في محل النزاع.

 

ذلك جملة حجج المانعين وقد بينا ما فيها من عيوب واحتج الآخرون أولا بقوله عليه الصلاة والسلام «إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما» وهو قاض على عموم ما ذكروا من الأدلة ولا مطعن فيه قال النووي لا أظن عالماً يبلغه هذا اللفظ صحيحاً فيخالفه واحتجوا ثانيا بما رواه جابر بن عبد الله قال جاء رجل والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة فقال صليت يا فلان فقال لا قال قم فاركع) وفي رواية فصلى ركعتين رواه الجماعة وهذا الرجل هو سليك الغطفاني وأجاب المانعون بأنها واقعة حال لا عموم لها ويدل على اختصاصها بسليك ما روي من حديث أبي سعيد أن الرجل كان في هيئة بذة فقال له أصليت قال لا قال صلِّ ركعتين وحض على الصدقة وأيضا في هذا الحديث عند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن هذا الرجل دخل في هيئة بذة وأنا أرجو أن يفطن له رجل فيتصدق عليه. ورد بأن الأصل عدم الخصوصية وما ذكروه من قصد الصدقة لا يمنع القصد إلى التحية أيضا معها فيكون كل منهما جزء علة للأمر ولو كان للفت النظر إلى الرجل فحسب لقال إذا رأيتم ذا بذة فتصدقوا أو إذا كان أحدكم ذا بذة فليصل ركعتين حتى يتنبه له فيتصدق عليه.

 

وأجابوا عن حديث سليك أيضا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سكت حتى فرغ سليك في صلاته فقد جمع سليك بين التحية والإنصات فلم يبق في حديثه حجة لمن أجاز التحية وقتئذ. ورد بأن حديث سكوت النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يفرغ سليك ضعيف فإن الدارقطني الذي أخرجه من حديث أنس بن مالك قد ضعفه وقال الصواب أنه من رواية سليمان التيمي مرسلا أو معضلا فلا صحة فيه على أنه لو ثبت لكان مخالفًا لقاعدتهم فإن العمل بعد الشروع فيه لا يجوز قطعه عندهم لاسيما إذا كان واجبا فعلى كلا الأمرين لا حجة لهم فيه وقد تعللوا بأجوبة أخرى يأباها النظر فلا داعي إلى سردها وبالجملة فلكل منزع وقد عرفت وجه الصواب في ذلك وهو ضرورة فصلاة تحية المسجد للداخل والإمام يخطب للأحاديث الصحيحة الصريحة الثابتة في ذلك مع ضعف جميع الأحاديث التي تمسك بها المانعون ولا نرى ما يحملنا على ترك الصحيح الثابت والتحول عنه إلى الضعيف الواهي اللهم إلا العصبية الممقوتة والتقليد الأعمى هدانا الله إلى سواء السبيل.