المعنى القرآني وغرضه الإقناع والتأثير

نزل القرآن الكريم من عند الله تعالى بلسان عربي مُبين، وفي الوقت نفسه هو خطاب للبشرية جمعاء على اختلاف لغاتهم، فكان مُعْجِزًا في معناه معَ ما تحمل كل لفظة وجملة منه دلالات ومقاصد متعددة،..

  • التصنيفات: القرآن وعلومه -

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

نزل القرآن الكريم من عند الله تعالى بلسان عربي مُبين، قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [طه: 113]، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 192 - 195]، وفي الوقت نفسه هو خطاب للبشرية جمعاء على اختلاف لغاتهم، فكان مُعْجِزًا في معناه معَ ما تحمل كل لفظة وجملة منه دلالات ومقاصد متعددة، وهذا "المعنى" هو محور ارتكاز الخطاب القرآني، وهو غرض في غاية القوة من أغراض الإقناع والتأثير، يستدعي الوقوف عنده، واستيعاب المعنى القرآني، وكيف كان له الباع الطُّولى في التغيير واستجابة الكثير لدين الله العظيم.

 

فالمعنى القرآني: هو المفهوم من حصيلة استعمال الكلمة من القرآن الكريم داخل نظام الجملة، متجاورة مع كلمة أخرى، مركبة بعضها ببعض كجملة تضم جميع تلك الكلمات؛ فيُعرف ما بينها من دلائل ومضامين، ولا يقصد بالمعنى القرآني معنى الكلمات بالشكل الفردي (الكلمة ومعناها)؛ فإن هذا من أوضاع اللغة، وليست المقصودة في نفسها؛ (ينظر: دلائل الإعجاز للجرجاني).

 

والمعنى القرآني ضربان:

الضرب الأول: المعنى القصدي، هو مراد الله تعالى من كلامه، وهو معنى توقيفي، ليس علينا إلا الاجتهاد في فهمه كما بلغنا بسند صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، والقراءات، واللغات، وقصص الأُمم الماضية، وأخبار ما هو كائن من الحوادث، وأُمور الحشر والمعاد.

 

الضرب الثاني: المعنى الإدراكي: وهو كل ما توصَّل إليه أهلُ العلم من الفهم والتدبُّر من النصِّ القرآني وفقًا لأصول الإدراك والتدبُّر وضوابطها، واستنباط الأحكام الأصلية والفرعية، والمواعظ والحِكَم والإشارات، وما شاكل ذلك مما لا يمتنع استنباطه من القرآن واستخراجه منه لمن كان أهلًا لذلك؛ (يُنظَر: الحجاج في القرآن الكريم، بن يحيى ناعوس).

 

وبهذا المعنى يقول الله سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "مَن أراد العلم فلْيُثوِّر القرآن، فإن فيه علمَ الأولين والآخِرين"، والتثوير هو التقليب والتدبُّر والنظر في الوجوه، ومنه قوله تعالى: {وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} [الروم: 9]، وأثاروا الأرض؛ أي: قلبوها بالحَرث والزراعة، وقال ابن عطية في تفسيره: وتثوير القرآن: مناقشته ومدارسته والبحث فيه، وهو ما يعرف به.

 

ومما تهدف إليه الدراسات القرآنية هو الوقوف على معاني كلام الله تعالى وسر تفوُّقه على غيره من البشر، بجميع تراكيبه ونَظْمه، وما يحمله من المعاني البديعة والمقاصد العظيمة الداعيةِ إلى الإيمان بالله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الكهف: 54]، حيث ساق لنا القرآن الكريم من كل مثل في هذه الحياة وحقيقتها وأسرارها وجسدتها تلك التراكيب القرآنية المحبوكة والمسبوكة سَبْكًا يفوق القُوى والقدر، كل تلك المعاني التي لا منتهى لها، التي تفيض غزارةً وقوةً وحكمةً، ويظهر المعنى القرآني في أتمِّ الكَمال، كما وصف القرآن نفسه بذلك {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا} [الإسراء: 41].

 

ونزل القرآن الكريم يحمل في ثناياه تلك المعاني والمقاصد التي كانت من أسباب نزوله، ومنها قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 27، 28].

 

فهذه الآيات المضمومة وبتراكيب كلماتها وجمع بعضها ببعض جاءت بلسانٍ عربيٍّ مبين، وتبين لنا مراد الله تعالى الذي فهمناه أنها لبيان كمالِ منفعةِ ما أراده الله تعالى وكمال مضرة ما يريد الفجرة من الميلان عن الحق بموافقتهم على اتباع الشهواتِ واستحلالِ المحرماتِ وأن تكونوا زناةً مثلَهم، وأن الله سبحانه يريد التخفيف عن الإنسان لضعفه وعدم تحمُّل مشاقِّ التكاليفِ التي ذكرها قبل هذه الآيات، فهو عاجز عن مخالفة هواه، غيرُ قادرٍ على مقابلة دواعيه وقواه؛ حيث لا يصبِرُ عن اتباع الشهواتِ، ولا يستخدم قواه في مشاقِّ الطاعاتِ؛ (يُنظَر: تفسير أبي السعود، ص: 169).

 

فجاء القرآن الكريم يُوجِّه البشرية إلى طريقة الهداية والفلاح، فقال سبحانه: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 1 - 5].

 

فهذه الآيات القرآنية التي تفيض بالمعاني البديعة والمقاصد العظيمة، وتُمثِّل مراد الله تعالى في خطابه، كلها متوجِّه للإنسان، وتُخاطِب وجدانه وعقله وأحاسيسه لغرض إقناعه والتأثير عليه في الابتعاد عن طريق الشَّرِّ والضلال، والإنابة والتوبة، وشق طريق المؤمنين المفلحين.

 

ومراد الله تبارك وتعالى في خطابه يهدف إلى:

الإقناع ورصد كل الوسائل المسعفة والمعينة على جعل الملتقي يقبل بالخطاب والرسالة كمرحلة أولى.

 

وأيضًا يهدف إلى التأثير وجعل الملتقي ينساق وراء مضامين الخطاب والرسالة ثانيًا.

 

وبهذا يركز الخطاب القرآني لا سيما في معانيه على المتلقي والمخاطب الذي هو محل الإقناع والتأثير والتغيير، إلى جانب الحوار والحجاج كوسيلة من وسائل الإقناع والتأثير بما يملكه من ترسانة من الأساليب والفنون والقوة التأثيرية المنطقية في تمرير الأفكار والمفاهيم وإثارة النفوس وكسب العقول عبر عرض الحجج والبراهين والأدلة؛ (يُنظَر: الحجاج في القرآن الكريم، بن يحيى ناعوس).

 

وعند التأمُّل في عرض القرآن الكريم قصة نوح عليه السلام في عشر سور، وكانت طريقة العرض تارةً فيها نوع من الإسهاب والتطويل، والإيجاز والاختصار والإشارة الخاطفة تارةً أخرى، حسب ما يقتضيه السياق العام للسورة، ومن هذه الآيات التي تعرض للحوار ومسالك الإقناع آيات سور: الأعراف، ويونس، وهود، والمؤمنون، وغيرها، وكل الآيات في جميع السور التي ذكرت خطاب وحوار نوح مع قومه تُبيِّن المعنى القرآني الكُلِّي لخطابه، وهو أن دعوة نوح عليه السلام هي التوحيد ونَبْذ الشرك {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [نوح: 1، 2] وتُعَدُّ قصة نوح عليه السلام مجالًا لفهم معاني القرآن الكريم ومضامين خطاب الإقناع والتأثير من خلال العرض والاعتراض وتقديم الأدلة على وحدانية الله تعالى وإثبات ذلك في كل مراحل الخطاب والحوار وعبر كل الأحداث والأزمان والأماكن؛ فكانت السمة البارزة في هذا الخطاب هي آليات التنفيذ من الوسائل والأساليب، تصبُّ جميعُها في معنى الإثبات في أحقيَّة الربِّ سبحانه للعبادة والتوجُّه له، بهدف إقناع قومه بدعوته بشتى الأساليب الإقناعية؛ لغرض التأثير فيهم والدفع بهم نحو النجاة من عذاب الله تعالى.

 

والصحيح أن الإتيان بمثل القرآن لم يكن قَطُّ في قدرة أحد من المخلوقين، ويظهر لك قصور البشر في أن الفصيح منهم يصنع خطبة أو قصيدة يستفرغ فيها جهده، ثم لا يزال يُنقِّحُها حولًا كاملًا، ثم تُعْطَى لآخر نظيره، فيأخذها بقريحة خاصة، فيُبَدِّل فيها ويُنقِّح، ثم لا تزال كذلك فيها مواضع للنظر والبدل، و"كتاب الله لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب في أن يوجد أحسن منها لم يوجد. ونحن تَبِينُ لنا البراعة في أكثره ويخفى علينا وجهها في مواضع لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذٍ في سلامة الذوق وجودة القريحة وميز الكلام"؛ تفسير ابن عطية (ص:52).

 

وأمَّا من كان من غير أهل الفصاحة والبلاغة من العرب، أو كان من الأعاجم، فإنه يُذكر لهؤلاء معاني القرآن، وأحكامه، ووجوه إعجازه الأخرى التي يمكنهم فَهْمُها وإدراكها، فيحصل لهم من القناعة بحسب علمهم وفهمهم أن هذا ليس كلام البشر؛ ولذا أسلم كثيرٌ من الأعاجم بسبب وقوفه على معنى آية كريمة، ولا يمكن لهذا الأعجمي أن يفهم بلاغتها؛ لكنَّ معناها كان سبب إسلامه، والقصص في ذلك متواترة، وفي عصرنا منها الكثير؛ وإنما أسلم أولئك بعد أن علموا أن ما في الآيات لا يمكن لبشر أن يأتي به، وأنه لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم من الأجهزة والاكتشافات ما يمكنه من إخبار الناس بتلك العلوم بواسطتها، فسلَّموا أن الأمر من وحْيِ السماء، فأسلموا.

___________________________________________________

الكاتب: فضل محمد البرح