بين الحسنة والسيئة

قال الله عز وجل: «إذا همَّ عبدي بحسنة ولم يعملها، كتبتها له حسنةً، فإن عملها كتبتها عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، وإذا همَّ بسيئة ولم يعملها، لم أكتبها عليه، فإن عملها كتبتها سيئةً واحدةً»؛ (رواه مسلم).

  • التصنيفات: نصائح ومواعظ -

خبر عجيب، جد عجيب اسمعه، تأمله، تفكَّر فيه، حرك به قلبك سيُحدث فيه تغيرًا عجيبًا، ستقول بقلبك قبل لسانك: سبحان الله! ما أرحم الله! ما ألطف الله بنا! ما أعظم إحسانه إلينا! عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله عز وجل: «إذا همَّ عبدي بحسنة ولم يعملها، كتبتها له حسنةً، فإن عملها كتبتها عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، وإذا همَّ بسيئة ولم يعملها، لم أكتبها عليه، فإن عملها كتبتها سيئةً واحدةً»؛ (رواه مسلم).

 

وفي هذا الحديث - عباد الله - دروس وهدايات؛ منها:

أولًا: تحبُّب الله عز وجل إلى عبده؛ تأمل قوله جل وعلا: «إذا همَّ عبدي بحسنة»، وفي رواية أخرى عند مسلم: «إذا همَّ عبدي بسيئة»، فأضافه إلى نفسه في حال همه بالطاعة، وحال همه بالمعصية، وكم في ذلك من التلطف به والتحبب إليه، والتشريف له، يضيفه إلى نفسه في حال همه بالحسنة ليقبل عليها فرحًا مسرورًا، ويسارع إلى عملها، ويضيفه إلى نفسه في حال همه بالسيئة؛ ليستحيي منه، ويقلع عنها، ويفر منها، بل إنه سبحانه يضيف إلى نفسه من إسرافه في العصيان؛ ليبادر بالتوبة والأوبة إليه؛ قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، وكم في إضافة الرب عز وجل عبدًا إليه؛ بقوله: (عبدي)، و(عبادي)؛ من التحبب إليهم، والتلطف بهم، والتشريف والتبشير لهم؛ قال الشوكاني رحمه الله: "أضاف العباد إلى نفسه؛ لقصد تشريفهم، ومزيد تبشيرهم"[1]، فحُقَّ لعبد أكرمه الله بذلك أن يبادر ويسارع إلى طاعته، ويُحجم ويُقلع عن معصيته، ويبادر بالتوبة والإنابة إليه.

 

ثانيًا: عظيم رحمة الله ولطفه بعباده؛ فهو سبحانه يريد لهم النجاة والسلامة؛ تأمل الحديث: «إذا همَّ عبدي بحسنة ولم يعملها، كتبتها له حسنةً، فإن عملها كتبتها عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، وإذا همَّ بسيئة ولم يعملها، لم أكتبها عليه، فإن عملها كتبتها سيئةً واحدةً»، فالسيئة إنما تُكتب على العبد في حالة واحدة إذا عملها العبد، والعجيب أن العبد إذا همَّ بسيئة ثم تركها لأجل الله، فإن الله يكتبها حسنة، فما أعظم رأفته ورحمته بنا! ومن عظيم لطفه سبحانه أن يكتب الحسنة عشر حسنات، ويكتب السيئة سيئة واحدة، فما أعظم رأفته ورحمته بنا! وصدق الله: {وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحديد: 9]، إن هذا - يا عباد الله - يدعونا إلى محبة ربنا سبحانه، والإقبال عليه جل وعلا، وتعلق القلوب به محبة ورغبة.

 

ثالثًا: أنَّ الله يأمر عباده بالحسنات، ويحب من عباده أن يعملوها، وينهى عن السيئات، ويكره ويبغض من عباده أن يعملوها، وعلامة صدق محبة العبد لربه أن يطيع أمره، ويحب ما يحب، ويجتنب نهيه، ويكره ما يكره.

 

رابعًا: وُكِّل بالعبد ملائكة يكتبون حسناته وسيئاته: {كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار: 11]؛ قال السعدي رحمه الله: "وقد أقام الله عليكم ملائكة كرامًا، يكتبون أقوالكم وأفعالكم، ويعلمون أفعالكم، ودخل في هذا أفعال القلوب، وأفعال الجوارح، فاللائق بكم أن تكرموهم وتجلوهم وتحترموهم"، فمن يهُمُّ بالحسنة، يتذكر ذلك المَلَك فيبادر إلى عملها ويفرح بها، ومن يهُمُّ بالسيئة يتذكر ذلك الملك، فوقَّره ويحجم عن عملها.

 

ومن رحمة الله أن الملك الذي يكتب السيئات يتوقف عن كتابتها؛ طمعًا في استغفار العبد وتوبته منها؛ عن أبي أمامة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن صاحب الشمال ليرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطئ أو المسيء، فإن ندِم واستغفر الله منها، وألقاها، وإلا كُتبت واحدة»؛ (صححه الألباني)، فما أرحم الله وألطفه بنا!

 

خامسًا: أن الحسنات والسيئات تُودَع في كتب العبد وصحائفه؛ صغيرها، وكبيرها، ثم تبرُزُ له يوم القيامة؛ قال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، فلنحرص - عباد الله - على الاستكثار من الحسنات، ولنقلع ونتوب عن عمل السيئات؛ وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اهدِني لأحسن الأخلاق، وأحسن الأعمال، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وقِني سيئ الأخلاق والأعمال، لا يقي سيئها إلا أنت».

 

سادسًا: من عظيم رحمة الله ولطفه بنا أن الحسنات بعد السيئات تذهب بها، إلا الذنوب التي تتعلق الآخرين؛ كالغِيبة، وأخذ أموال الناس وحقوقهم، وأعظمها الصلاة: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114]، فلنستكثر - عباد الله - من الحسنات.

 

سابعًا: ومن عظيم رحمة الله ورأفته ولطفه بنا أن العبد إذا تاب من السيئات يبدلها الله إلى حسنات: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 70]، فما أرحم الله بنا عباد الله! وما أحوجنا إلى التوبة الصادقة له سبحانه وتعالى!

 

ثامنًاقال بعض السلف: "إن من عقوبة السيئةِ السيئةَ بعدها، وإن من ثواب الحسنة الحسنةَ بعدها، فالعبد إذا عمل حسنةً، قالت أخرى إلى جنبها: اعملني أيضًا، فإذا عملها، قالت الثالثة كذلك وهلم جرًّا، فتضاعف الربح، وتزايدت الحسنات".

 

وكذلك كانت السيئات أيضًا، حتى تصير الطاعات والمعاصي هيئات راسخةً، وصفات لازمةً، وملكات ثابتةً، ولا يزال العبد يعاني الطاعة ويألفها ويحبها ويؤثِرها، حتى يرسل الله سبحانه وتعالى برحمته عليه الملائكة تؤزه إليها أزًّا، وتحرضه عليها، وتزعجه عن فراشه ومجلسه إليها.

ولا يزال يألف المعاصي ويحبها ويؤثرها، حتى يرسل الله إليه الشياطين، فتؤزه إليها أزًّا، فالأول قوَّى جند الطاعة بالمدد، فكانوا من أكبر أعوانه، وهذا قوَّى جند المعصية بالمدد فكانوا أعوانًا عليه.

 

تاسعًامَن المستفيد مِن فعل الحسنات، ومَن الخاسر بفعل السيئات؟

قال تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7]، وقال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 89، 90]، وقال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 30]، فاحرص - يا عبدالله - على الاستكثار من الحسنات، والمسارعة إليها، واحذر من السيئات، وفِرَّ منها.

 

عاشرًا: للحسنة والسيئة ثمرات عظيمة؛ قال عبدالله بن عباس رضي الله عنه: "إن للحسنة نورًا في القلب، وزَينًا في الوجه، وقوة في البدن، وسعة في الرزق، ومحبة فيقلوب الخلق، وإن للسيئة ظلمة في القلب، وشَينًا في الوجه، ووهنًا في البدن، ونقصًا فيالرزق، وبغضة في قلوب الخلق".

 

الحادي عشر: علينا أن نحرص على الحسنات الجارية، ولنحذر من السيئات الجارية قبل فوات الأوان؛ يقول الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12]، والناس على ثلاثة أصناف:

الأول: من يموت وتجري عليه حسناته وسيئاته، فمثل هذا يتوقف مصيره على رجحان أيٍّ من كفَّتِيِ الحسنات والسيئات.

 

الثاني: من يموت وتنقطع سيئاته، وتبقى حسناته، فهذا تجري عليه وهو في قبره، فينال منها بقدر إخلاصه لله تعالى، واجتهاده في الأعمال الصالحة في حياته الدنيا، فيا طيب عيشه ويا سعادته.

 

الثالث: من يموت وتنقطع حسناته، وتبقى سيئاته، تجري عليه دهرًا من الزمان، إن لم يكن الدهر كله، فهو نائم في قبره، ورصيده من السيئات يزداد يومًا بعد يوم، حتى يأتي يوم القيامة بجبال من السيئات لم تكن في حسبانه، فيا ندامته ويا خسارته؛ قال الغزالي رحمه الله: "طوبى لمن إذا مات، ماتت معه ذنوبه، والويل الطويل لمن يموت، وتبقى ذنوبه مائة سنة ومائتي سنة، أو أكثر، يُعذب بها في قبره، ويُسأل عنها إلى آخر انقراضها"؛ قال تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25]، اللهم اجعل لنا لسانَ صدقٍ في الآخر، واجعلنا ممن تموت ذنوبهم معهم، وتبقى حسناتهم تجري عليهم، يا حي يا قيوم.

 


[1] فتح القدير للشوكاني (4/ 538).

____________________________________________

الكاتب: أ. شائع محمد الغبيشي