هبوب النسائم والرياح إلى عالم الأرواح

اللهُ خلَقَنا من روحٍ وجسد، والجسدُ أصله من تراب، ثم خُلِط الترابُ بالماء فصار طينًا، ثم ترك حتى جفَّ فصار صلصالًا كالفخار، هذا هو أصل البشر جميعًا.

  • التصنيفات: العقيدة الإسلامية - - ثقافة ومعرفة -

اللهُ خلَقَنا من روحٍ وجسد، والجسدُ أصله من تراب، قال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} [الروم: 20]، ثم خُلِط الترابُ بالماء فصار طينًا، {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} [ص: 71]، ثم ترك حتى جفَّ فصار صلصالًا كالفخار، {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن: 14].

 

هذا هو أصل البشر جميعًا، في هذا الصلصال كالفخار نفخ الله الرُّوح في هذا الصلصال، فكان آدم عليه السلام، كان أبو البشر، لما نفخ الله فيه الروح وبدأ الجسد يتكوَّن من لحم ودم وعصب وجلد وشعر، شيئًا فشيئًا حتى اكتمل جسمُه عليه السلام، فأول كلمة قالها: "الحمد لله"، لا تنسوا هذه الكلمة، كلمة شكر لله سبحانه وتعالى، عطس فقال: "الحمد لله"، فقال له ربُّه: "يرحمك الله"، وفي رواية: "يرحمك ربُّك".

 

فإذا عطس منا إنسان فليحمد الله، بهذه العطسة كان دخول الروح، وربما بعطسة تخرج الروح ولا ترجع إلى صاحبها، فقل: "الحمد لله"، فإذا سمعت صاحبك الذي عطس قال: "الحمد لله"، فقل له: "يرحمك الله"، وأنت أيها العاطس رُدَّ عليه، وقُلْ: "يهدينا الله وإياكم"، تدعو له بالهداية.

 

آدم عليه السلام كان هذا أول بدء الإنسان؛ من جماد إلى إنسان بشر سويٍّ؛ لكن بعد ذلك قدَّر الله أن يخلق الإنسان من ذرية آدم من ماءٍ مَهين، ماء قذر، {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة: 8]، ماء البسقة أطهر منه وأنظف منه، ماء يستوجب الاغتسال؛ فلا تنسَ نفسَك يا جبَّار في الأرض، مَن أنت؟ وأنت أيها الظالم، على أي شيء تظلم الناس؟!

 

تذكَّر أنك من ماء مهين، هذا الماء بقدرة الله بين الرجل والمرأة يتكوَّن هذا الإنسان من هذا الماء أربعين يومًا، رحلتنا اليوم مع الرُّوح والجَسَد.

 

أربعون يومًا نطفة، مثلها أربعون أخرى عَلَقة، أربعون أخرى مُضْغة مخلقة صورة الإنسان فيها، وغير مُخَلقة، بدايات تخليق الإنسان، أربعون وأربعون وأربعون مائة وعشرون، {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة: 9]، تنفخ الرُّوح في الأربعين يومًا التي بعد الثمانين يومًا من النُّطْفة، والعَلقة والمُضْغة، قبل ذلك هناك أحكام تنطبق على المرأة، إذا نزل الجنين قبل الثمانين قبل الواحد وثمانين يومًا كأن جزءًا من جسمها قد انقطع، وما خرج منها من دماء وما شابه ذلك كأي جرح آخر ليس عليه أحكام النفاس؛ لأنه لم تكن مضغة مُخَلَّقة ولا غير مُخَلَّقة أصلًا، فهي جزء من المرأة كأصبعها أو أذنها إذا قطع لا يمنعها من صلاة ولا صيام، فافهموا ذلك يا عباد الله.

 

أما بعد الواحد والثماني ن- كما قال العلماء- فهذا أنشأه الله خلقًا آخر غير المرأة، {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]، تكوَّنت ثمرة جديدة؛ جنين، ولها أحكامها من أحكام التسمية والنفاس ونحو ذلك؛ لأنه تكوَّن هذا الجسد لتنفخ فيه الرُّوح، لقد صوَّر وركَّب بهذه الصورة التي خلقها الله، ثم أنشأناه خلقًا آخر؛ لذلك للتأكيد جعل الله سبحانه وتعالى عِدَّةَ المرأة المتوفَّى عنها زوجُها أربعة أشهر وعشرًا، {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] مائة وثلاثون يومًا، مائة وعشرون زائد عشرة، حتى نتأكَّد مائة بالمائة أن الرَّحِم فارغ، ما يوجد مولود، بعد ذلك ما تنفخ الرُّوح، نفخت إذا كتب الله لها النفخ، وإلا إذا وجدنا بعد ذلك بأربعة أشهر وعشرًا هناك روحًا، فعِدَّتُها أن تنتهي بالولادة أو بالإسْقاط.

 

نفخ فيه الروح، صار خلقًا آخر؛ يتحرك ينبض يُسمَّى، فإذا سقط قبل التسعة أشهر تكون له أحكام إنسانٍ جديدٍ، واختلف العلماء: هل يُصلَّى عليه أم لا؟ هل يُغسَّل ويُكفَّن ويُدفَن في مقابر المسلمين أم لا؟

والصحيح أنه يفعل به ذلك، ويُدفَن وفي مقابر المسلمين إن شاء الله، أما الصلاة فعلى الاستحباب فقط، وليست من الواجب الصلاةُ على الجنين الذي سقط من بطن أُمِّه؛ وإنما من باب الاستحباب.

 

هذه الحياة الأولى بمجرد أنَّ الملكَ نَفَخَ فيه الرُّوح بدأت حياةٌ جديدةٌ، هذه الحياة الأولى بالنسبة لي ولك؛ لأن هناك خمسَ حيواتٍ، خمسةً من أنواع الحياة ترتبط الرُّوح فيها بالجَسَد.

 

الحياة الثانية: بعد الولادة وخروجنا على هذه الأرض، حياتُنا حالَ اليقظة، روحُنا الآن، التصاقُها بالجسد وارتباطها به، تختلف عمَّا كان ونحن أجِنَّة في بطون أمهاتنا لا نفقه شيئًا، وحياتنا هذه تنقسم إلى قسمين:

ما قبل البلوغ، وما بعد البلوغ، ما قبل البلوغ لا تكليف، لا تفرض صلاة ولا صيام ولا حج، ومن كان قادرًا من الأطفال غير البالغين على الصلاة والصيام والحج ونحو ذلك فجائز، ويكون أجرهم وثوابهم لوالديهم ومَن علَّموهم وأولياء أمورهم، أما هم فغير مُكلَّفين، متى التكليف؟ عند سِنِّ البلوغ، وسنُّ البلوغ ببلوغ الولد أو الفتاة سِنَّ خمسةَ عشرَ عامًا، أو تحيضُ البنت قبل ذلك، بلغت وإن لم تبلغ الخامسة عشرة.

 

وبلوغ الولد بخروج المَنيِّ منه، وإذا اخشوشن صوتُه، والأعضاء التناسلية حولها الشعر الكثيف العانة والإبط، يشترك في ذلك الولد والبنت، ولو بلغ أحدَ عشرَ عامًا، أو أقل أو أكثر، إذا ظهرت هذه الصفات أو إحداها فهو بالغ، فقد تزوَّج النبي صلى الله عليه وسلم عائشةَ ودخل بها وعمرُها تسعُ سنين، وكانت امرأةً، بلغتْ سِنَّ المحيض، أو سِنَّ التكليف رضي الله عنها، فإن لم يحدث شيء من ذلك، فالبلوغ من خمسةَ عشرَ عامًا.

 

الحياة الثالثة: إذا نمنا تفارقنا الرُّوح، دخلت فينا ونحن أجِنَّةٌ، وبقيت فينا في حياة اليقظة، تخرج مِنَّا كلما نمنا، قال سبحانه: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42]، هاتان الرُّوحان يتوفَّاهما الله، ما هما الرُّوحان؟ روح المتوفى التي انتهتْ حياتُه على الأرض، ورُوح الذي لم تمت في منامها، نامت وما جاء وقت الموت، أجلها بقي، {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر: 42]، يرسل الأخرى إلى أجلها.

 

وسرعةُ الرُّوح من الجسد إلى السماء في مستقرِّها أسرعُ من البرق، وأسرعُ من سرعة الضوء، الرُّوح عبارة عن ذات لا نعلم كُنْهَها، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85]، كيفيتُها ماهيتُها لا نعلم، هل تمنعها الجُدُرُ؟ هل تمنعها الحصون؟ هل تمنعها جُدُر الحديد؟ واحد وضعناه في خزنة من خزائن المال، ومات هل لا تخرج رُوحه ولا ترجع؟ عالَمُ الأرواح عالَمٌ آخر، عالَمٌ غيبيٌّ.

 

وهذه الرُّوح التي توفيت ماتَتْ، والحية نائمة تصعدان إلى الله، {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} [الزمر: 42]، التي انتهى أجلها بهذه اللحظة، ويُرسِل الأخرى التي نامت؛ لذلك الموت والنوم أخوان، فــ((النوم أخو الموت))؛ شعب الإيمان للبيهقي: (6/ 409 ط الرشد) ح (4416)؛ انظر الصحيحة (1087).

 

والموتُ نومٌ أكبرُ؛ لكن تبقى نائمًا إلى يوم القيامة.

 

والنوم موت أصغر لحظات، ساعة أو ست ساعات، أكثر أو أقل، فاعلم هذا يا عبد الله، فلا تُكثِر من الموت الأصغر؛ لأنه ينتظرنا الموتُ الأكبر، خذ من الموت الأصغر؛ النوم على قدر طاقتك وحاجتك، فإذا زادت ساعات النوم عند بعض الناس الذين لا يحتاجون إلى نوم، إن زاد في نومه؛ يصيبهم أمراض وصداع في الرأس ونحو ذلك، لا تُكثِر منه يا عبد الله، الرُّوح ستُفارق الجسد، اليوم أو غدًا، في النوم أو في غيره، فخلِّ روحك في جسدك حتى تُكثِر من ذكر الله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه ثلاث دورات أو ثلاثة تعلُّقات للرُّوح بالبدن: روح الجنين، الروح في حياة اليقظة، الروح أثناء النوم.

 

الحالة الرابعة: بعد خروج الرُّوح من الجسد يبقى لها تعلُّقٌ بالجسد، عند الموت، وما أصعبَه وأشَدَّه!

 

لم نشعر بدخول الرُّوح في الجسد ونحن أجِنَّة في بطون أمهاتنا، لم نشعر بخروج الرُّوح من أجسادنا عندما ننام لا نشعر، ولا نشعر برجوعها إذا استيقظنا؛ لكن إذا خرجت الرُّوح عند الاحتضار وجاء الأجل، قال سبحانه: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق: 19]، {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} [الجمعة: 8]، هذه من أصعب اللحظات؛ لأنها مفارقة عمَّا اعتادت عليه، مفارقة للجسد الذي اعتاد على هذه الرُّوح، مفارقة إلى يوم القيامة، هناك تعلُّق لكن بعض التعلُّق في هذه الحالة، كيف يكون هذا التعلُّق؟

 

إذا مات الإنسان نزع رُوحَه ملكُ الموت {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11]، وملك الموت سمَّاه الإسرائيليون في الروايات الإسرائيلية: عزرائيل، وهو ليس من أسماء ملك الموت، الله سمَّى مَلَك الموت في كتابه في سورة السجدة: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} [السجدة: 11]، لو له اسم آخر لسمَّاه الله، ولبَيَّنَه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت أن ملك الموت اسمه عزرائيل، يكفي أنه ملك الموت، وظيفته قَبْضُ الأرواح، وهو المُوكَّل بذلك، وهناك ملائكة معاونون يأخذونها منه، لم يدعوها في يده طرفةَ عينٍ، روح مؤمن أو روح كافر، {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال: 50].

 

ملك الموت عليه أن ينزع، وهم يستلمون، ويصعدون بها إلى بارئها، يخترقون السماوات، والرُّوح هذه تخترق السماوات مكلَّلةً بالملائكة الذين يحملون الرياحين للمؤمنين، للحديث: «الْمَيِّتُ تَحْضُرُهُ الْمَلَائِكَةُ، فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَالِحًا، قَالُوا: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ، كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ، اخْرُجِي حَمِيدَةً، وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ، وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ...»، (جه) (4262)؛ نسأل الله أن نكون منهم.

 

والروائح الخبيثة تنبعث من الأرواح الخبيثة الكافرة، وهذه تُغلَق دونها أبواب السماء، {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف: 40].

 

الروح المؤمنة تبقى مستمرة، وتُفتَح لها أبواب السماء، حتى تصل إلى ما شاء الله في مستقرِّها، فإذا وصلت- ونحن نتكلَّم وهذا الكلام يستغرق وقتًا- لكن الرُّوح وسرعة الملائكة، والبشر يقفون عاجزين عن شرحها وبيانها وتوضيحها، {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [النحل: 77].

 

ثم بعد ذلك ترجع الرُّوح إلى جسدها، روح الكافر من السماء الأولى تنزل ما تصعد، لا تُفتَح لهم أبواب السماء، وأمَّا رُوح المؤمن بعد أن وصلت إلى ما وصلت إليه في الأعالي، ترجع إلى صاحبها حتى يُسأل هذا الإنسان أنا وأنت، ومن مات قبلنا، نُسأل عمَّا عملنا في هذه الحياة الدنيا.

 

ويُعذَّب الكافرون، ويُنعَّم المؤمنون، والحديث طويل حول هذا، فالرُّوح في حياة البرزخ يعني انتقل من حياة الجنين إلى الحياة الدنيا، إلى حياة النوم، إلى حياة القبر، من أنكر عذاب القبر ونعيمه، ومن أنكر حياة البرزخ، وأن هناك حياةً في القبر، من ينكر ذلك فليتفقَّد إيمانه، أنكره المعتزلة، وأنكره الملاحِدة، وأنكره الكُفَّار، وقالوا: "ما يوجد عذاب قبر"، وقالوا: "الإنسان يبقى نائمًا أو ميتًا إلى يوم القيامة، لا!"، هناك عذاب في القبر، وهناك نعيم لكُلٍّ بحسبه وقدره، هكذا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي كل صلاة وقبل السلام، وبعد التشهُّد مأمورون من النبي صلى الله عليه وسلم أن نتعوَّذ من عذاب القبر، في الحديث الصحيح كان يتعوَّذ بالله من أربع: «اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ»؛ (م) 128- (588).

 

إذا كان هو يقول ذلك ويأمُرنا بذلك، فهل يأمُرنا بشيء ما هو بموجود؟ في كل صلاة يا عباد الله، لا تستمعوا لليوتيوب ولا ما شابَه ذلك، ممن يقولون بأنه ما يوجد عذاب قبر، ما يقول: ما يوجد نعيم، بل يقول: ما يوجد عذاب قبر، لا يوجد عذاب ولا يوجد نعيم.

 

من شاء الله عافاه من العذاب من المؤمنين المقصِّرين، ومن شاء الله عذَّبَه، ومَن شاء الله نعَّمَه، حياة تشبه هذه الحياة حياة القبر، لو شبهناها بالدنيا لشبهنا حياتك الآن كيف كنت جنينًا، اعمل مناسبة؛ كم هي سعة الحياة الدنيا بالنسبة للجنين في بطن أُمِّه؟ كم هي للمؤمن سعة حياة البرزخ بالنسبة له؟ كم هي سعة الحياة الآخرة بالنسبة للبرزخ؟ فكلما تقدَّمنا في تعلُّق الرُّوح بالجسد يكون الأمر أوسعَ وأوسعَ على المؤمنين، وأضيقَ وأضيقَ على الكافرين، فكونُوا مع المؤمنين، وكونُوا من المسلمين الذين يستمعون القول فيتَّبِعون أحْسَنَه.

 

في الأربعة أشهر الأخيرة للحمل؛ مائة وعشرون يومًا، تُنفَخ الرُّوح، يبقى إنسانًا في الحياة الدنيا التي نعيشها الآن في حال اليقظة، الرُّوح مع الجَسَد حال النوم، الرُّوح مع الجَسَد وتعلُّقها به في حياة البرزخ والقبر، هذه تختلف عن هذه، ما نعلم إلا ما نرى الآن، أما غير ذلك فمن باب العِلْم نأخذه عن غيرِنا، وأصدق العلوم ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما جاء في كتاب الله وثبَتَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلذلك أخبرنا في هذه الحيوات، والحيوات جمع حياة، وتبقى الحياة الآخرة، حياةً تامَّةً بين الجَسَد والرُّوح لا انفصال بينهما، لا نجد إن شاء الله في الجنة موتًا ولا نومًا؛ لأن النوم أخُو الموت، اتصالٌ مباشر لا انفصال عنه أبدًا هناك بين الرُّوح والجَسَد، وبين هذه الحيوات الثلاثة، أنت لا تُحاسَب على ما تعمل إلَّا في حياة واحدة، وهي حياة اليقظة التي نعيشها الآن، حياة اليقظة أنت مؤاخَذٌ عليها.

 

أما النائمُ إذا ارتكب جريمةً يرفع عنه العتب، لو أن نائمًا وهو نائم حقيقة قتل إنسانًا لا يُعاقَب عند الله بأنه قتل، ولا يقتل في الدنيا؛ بل يُحاسَب لأمور أخرى؛ كدفع الدِّية ونحو ذلك.

 

وكذلك الطفل الصغير حياته لا يُحاسَب على ما يفعل فيها، أنت حاسبه تأديبًا وتعليمًا، أما عند الله فلا يُحاسَب، وكذلك فاقد العقل المجنون.

 

إذن أنت في حياتك الوحيدة التي تُحاسَب عليها هي التي تعيشها، تُحاسَب على الصلاة والصيام وأركان الإسلام والإيمان، وتُحاسَب على فعل المنكرات والمعاصي والذنوب والخطايا ونحو ذلك.

 

أما في النوم والجنين فلا حساب؛ لأنه لا تكليف! والقبر ليس فيه تكليف، تُحاسَب على ما فعلت في هذه الحياة الدنيا، حياة واحدة فقط.

 

وعند الحساب يوم القيامة يقف جميعُ خلقِ الله عز وجل، من إنْسٍ وجِنٍّ، وحشرات وحيوانات، ويكون الخِصام والاختصام بينهم بين يدي أرحم الراحمين، بين يدي أحكم الحاكمين سبحانه، والكُلُّ يدلي بحجته، والكُلُّ يريد أن يتملَّص ممَّا ارتكب في الحياة الدنيا، حتى الدابَّة يكون بينها وبين غيرها خصام؛ القرناء، والجلحاء التي ليس لها قرون هناك اقتصاص.

 

ويأذن الله عز وجل للإنسان؛ فيحصل الخصام كما يقول ابن القيم رحمه الله بين الروح والجسد، الروح تتكلَّم والجسد يتكلَّم، فتقول الروح: أنا ما فعلت شيئًا، الفاعل هو الجسد، هو الذي بطش ومشى وارتكب، الجسد نفسه، ويقول الجسد: والله يا رب هي السبب، لولاها أنا كنت جمادًا، جثةً هامدةً ما أتحرَّك، فهي السبب، فيُقال لهما: مثلكما - يضرب مثل لهما-؛ كمثل أعمى ومُقْعَد، أعمى لا يرى، ومُقْعَد لا يمشي بجانب بستان.

 

فيقول المقعد: إني أرى أشجارًا وأرى عليها أنواعًا من الثمار، ولكني لا أستطيع أن أصِلَ إليها، ويقول الأعمى: أنا أستطيع أن أصِلَ إليها لكني لا أراها.

 

فيقول المقعد: احمِلْني حتى نأكل جميعًا، تصوَّر واحدًا أعمى وواحدًا مقعدًا راكبًا عليه، ويمشيان في بستان، هذا يقطع يطعم هذا، فجاء صاحب البستان مَن رآه؟ المقعد، فقال للأعمى فِرَّ اهرب جاء صاحب البستان، ففرَّ الأعمى؛ لأنه أعمى، نسأل السلامة، اضطرب في بعض الأشجار، وسقط المقعد فأمسك صاحب البستان بهما، فيُقال لهما- للروح والجسد-: على من التَّبِعة؟ فيقول الروح والجسد: على كليهما، لولا هذا ما كان هذا، ولولا هذا لما كان هذا، قال: إذن عليكما كليكما الحساب والعقاب؛ انظر تحفة المودود بأحكام المولود لابن القيم: (ص: 307).

 

لذلك في الحياة الدنيا لو وُخِزت بإبرةٍ، فالذي وُخِز جسمُك، تتألَّم رُوحُك؛ لأن الرُّوح تتألَّم وتتنعَّم تَبعًا للجسد في الحياة الدنيا.

 

لكن في القبر الرُّوح تتعذَّب أو تتنعَّم والجسد تَبعٌ لها، هي أولًا عكس ما كانت في الدنيا، وفي الآخرة العذاب والنعيم عليهما كليهما.

 

فصلُّوا على رسول الله الذي صلى الله عليه في كتابه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].

______________________________________________________

الكاتب: الشيخ فؤاد بن يوسف أبو سعيد