الإصرار على الذنب

الإصرار هو نية عدم التوبة والتسويف بها، بأن يقول العبد غدًا أتوب رغم علمه بأنه لا يملك الغد ولا البقاء إلى الغد، والإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة.

  • التصنيفات: التوبة -

الإصرار هو نية عدم التوبة والتسويف بها، بأن يقول العبد غدًا أتوب رغم علمه بأنه لا يملك الغد ولا البقاء إلى الغد، والإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة.

 

قال العز بن عبدالسلام رحمه الله: "الإصرار على الذنوب يجعل صغيرها كبيرًا في الحكم والإثم فما الظن بالإصرار على كبيرها". وقيل : "الإصرار هو أن ينوي ألا يتوب".

 

كما أن المصرَّ على الذنب تأنس نفسه المعاصي، وتزول منها هيبة الله، فتجرؤ على فعل الكبائر، أما المتَّقون فإنهم لا يصرُّون على الذنوب، وهم يعلمون قبحها والنهي عنها، والوعيد عليها، ويعلمون أن لهم ربًا يغفر الذنوب.

 

قال سهل بن عبدالله رحمه الله: "الجاهل ميت، والناسي نائم، والعاصي سكران، والمصر هالك".

وقال الجرجاني رحمه الله: "الإصرار: الإقامة على الذنب والعزم على فعل مثله".

وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال وهو على المنبر: " «ويل للمصرِّين الذين يصرُّون على ما فعلوا وهم يعلمون» ".

 

وقال الإمام الغزالي رحمه الله: "اعلم أن الصغيرة تكبر بأسباب منها: الإصرار والمواظبة، ولذلك قيل: لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار، فقطرات من الماء تقع على الحجر على توالٍ فتؤثر فيه، فكذلك القليل من السيئات إذا دام عظم تأثيره في إظلام القلب".

 

وجاء عن بعض السلف: "ومن الإصرار: السرور بالصغيرة، والفرح والتبجح بها، فكلما غلبت حلاوة الصغيرة عند العبد كبرت الصغيرة، وعظم أثرها في تسويد قلبه، حتى إن من المذنبين من يتمدَّح بذنبه، ويتبجَّح به لشدَّة فرحه بمقارفته إياه".

 

ومن الإصرار أيضًا أن يتهاون العاصي بستر الله عليه وحلمه، ولا يدري أن الله ربما يمهله مقتًا ليزداد بالإمهال إثمًا، قال تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عِمرَان: 178].

 

وقال الأوزاعي رحمه الله: "الإصرار: أن يعمل الرجل الذنب فيحتقره".

 

فإياك والإصرار على المعاصي واستصغار الذنوب أو المجاهرة بها، ولا تنظر رعاك الله إلى صغر المعصية، بل انظر إلى عظمة من عصيت، وانج بنفسك بوركت وهديت، ودع عنك تحقير الذنوب قولاً أو فعلاً، ولا تغتر بأهل زماننا ممن استصغروا الذنوب وتساهلوا فيها، بل ربما أعلنوا وجاهروا بها.

 

فقد قال صلى الله عليه وسلم: " «كل أمتي معافى إلا المجاهرين» ".

 

ويقول العز بن عبدالسلام رحمه الله: "الذنوب أعظم العورات، وأقبح السوءات، والمجاهر بها مجاهر بأسمج العورات، وأشنع السوءات، وهو دليل القحَّة، وقلة المبالاة".

 

وتأمل حال أسلافنا رحمهم الله ممن صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه، وأرضاه يدرك جيل التابعين ذلك الجيل القرآني المهتدي بهدي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع ذلك يحذرهم من احتقار الذنوب ويصور لهم حال الصحابة، وكيف كان خوفهم من الذنوب؟ قائلاً للتابعين: "إنكم لتعملون أعمالاً هي في أعينكم أدق من الشعر، وإن كنا نعدها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات".

 

ويقول الأوزاعي رحمه الله: "كان يقال من الكبائر: أن يعمل الرجل الذنب ويحتقره؛ لأن العبد متى استصغر المعصية واستقلها هان عليه أمرها، وعظمت عند الله، وهنا يكون الهلاك والخسران".

 

قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه".

 

أما إذا عظمت الذنوب عند العبد فإنها تصغر عند الله لأن ذلك يدل على صدق إيمان العبد، وحياة قلبه، قال الفضيل بن عياض: بقدر ما يصغر الذنب عندك يعظم عند الله، وبقدر ما يعظم عندك يصغر عند الله.

 

قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرَّ على أنفه فقال به هكذا - أي بيده - فذبَّه عنه".

خلِّ الذنوب صغيرهــــــا    ***   وكبيرها ذاك التُّقـــــــى 

واصنع كماشٍ فوق أرض   ***   الشوك يحذر ما يـــــرى 

لا تحقِرَنَّ صغيــــــــــــرةً    ***   إن الجبال من الحصـى 

 

هذا هو حال المؤمن الذي تحققت له معرفة الله ومعرفة الذنب، واستقرَّ في قلبه الخوف من الله، فيدفعه ذلك إلى الانخلاع من الذنوب والمعاصي، والعودة إلى الله حبًّا لله ورجاء لرحمته ومغفرته، وطاعة واستجابة لأوامره وتقرُّبًا إليه.

 

وكثيرًا ما يفتح القرآن للمذنبين أبوابًا من الرحمة يدعوهم من خلالها إلى المبادرة والمسارعة إلى جنة عرضها السماء والأرض، فيقول المولى سبحانه وتعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عِمرَان: 133-135].

 

وفي هذه الآيات إشارات وبشارات لطيفة:
أولاً: جاء ذكر المغفرة أولاً وقبل مجيء ذكر الجنة وذلك لأن المغفرة هي الطريق إلى الجنة، والتوبة من أعظم أسباب حصول المغفرة وبلوغ التقوى.
ثانيًا: رغم أن المتقين في أعلى مراتب المؤمنين وفي كنف رب العالمين ينعمون بجنته ومغفرته، ومع ذلك فسماحة هذا الدين ورحمته بالبشر تضع في عداد المتَّقين المذنب الذي ارتكب الفواحش - التي هي أبشع الذنوب وأكبرها - ما دام أنه قد تخلَّص من ذنبه وأفاق من غفلته وظلمه لنفسه وذكر الله فاستغفر وأناب.

 

فحسبُ العبد التائب أن شعلة الإيمان ما تزال في روحه لم تنطفىء، ونداوة الإيمان في قلبه لم تجف، وصلته بالله ما تزال حية لم تذبل، وأنه يعرف ويعترف بأنه عبد يخطىء وأن له ربًّا يغفر.

 

فهو يذكر الله ولا ينساه، لم يصر على الخطيئة.. ولا يتبجح بالمعصية في غير تحرُّج ولا حياء، إنه ذلك العبد التَّقي الذي في قلبه الهدى.. وفي ضميره الندى، ولم تظلم روحه.

 

والله يعلم ضعف عبده فلا يغلق في وجهه الباب ويدعه مطرودًا من رحمته.. بل يظل ذلك المذنب في كنف الله ومحيط عفوه ورحمته وفضله. ودومًا هذا هو حال المؤمنين.. يدركون رحمة الله ويعلمون بأن الذنوب لا يسترها ويتجاوز عنها سوى الرحيم الرحمن سبحانه: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عِمرَان: 135].

 

لا أحد يغفر الذنوب ويعفو عنها إلا الله، فلا ملجأ ولا ملتجأ من الله إلا إليه. فهو الذي يلطف بعبده وينتشله من دركات الشرور، لا سيما عند عدم الإصرار على الذنب. {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عِمرَان: 135].

 

لم يصروا أبدًا.. أخطأوا فاعترفوا.. وأذنبوا فاستغفروا.. وأساؤا فندموا فغفر الله لهم. فكانت العاقبة: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عِمرَان: 136].

__________________________________________________________

الكاتب: أنور الداود النبراوي