المتاجرة بالدين
لقد شاعت ظاهرة المتاجرة بالدين في الآونة الأخيرة، خاصة مع كثرة وسائل التواصل الاجتماعي والنشر والإعلان...
- التصنيفات: الواقع المعاصر -
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}
[التوبة: 34].
لقد شاعت ظاهرة المتاجرة بالدين في الآونة الأخيرة، خاصة مع كثرة وسائل التواصل الاجتماعي والنشر والإعلان، وأصبح هناك قنوات خاصة بهذه الظاهرة، وقد اختلط الحابل بالنابل، والحق بالباطل، ولم يعد على عامة الناس التمييز بين كل ذلك، مما يشكل خطرًا شديدًا على الدين، وعلى الناس كافة، وعلى العالم بأسره، فلم يعد هناك من يقود الناس إلى الحق بشكل واضح المعالم وبصحيح الدين.
وقد حذر الله عز وجل المؤمنين من هذه الظاهرة؛ فناداهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34].
لقد توقفتُ كثيرًا عند هذه الآية متدبرًا لها، فوجدتها تبدأ بهذا النداء للمؤمنين؛ أي إنها تخصهم بالذات؛ لينتبهوا لهذه الظاهرة الهدَّامة للدين وللبشرية، فهم المعنيون بها، والمكلفون بالعمل على فضح هذه الظاهرة للناس كافة، ونحن نعلم أن سورة التوبة تسمى أيضًا بالفاضحة والكاشفة لظاهرة النفاق بصورها المختلفة، وهذه إحدى صور النفاق في الأمة الإسلامية، بل أخطرها وأشدها فتكًا بالمسلمين.
فلا يظن البعض أن هذه الآية خاصة باليهود والنصارى فقط، بل هي عامة، فالقرآن يأتي بالخاص ليوضح به العام، ثم يضع القاعدة العامة له، كما جاء في الآية وما بعدها؛ {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34، 35].
فهل هناك ما يسمى بالتجارة بالدين؟ نعم، بلا شكٍّ هناك تجارة بالدين، هذا ليس أمرًا حديثًا، وليس قاصرًا على دين بعينه، ولقد ذكره ربنا في كتابه، ولا ينكر وجود تلك المتاجرة إلا جاهل أو جاحد؛ يقول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77]، إنها حالة تجارة واضحة، واستفادة من الدين وعهده وأيمانه، مقابل ثمن قليل، رصدها كتاب الله، وجعل عليها وعيدًا في الآخرة: {أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77].
لم يعد الكثيرون يخجلون من استخدام الدين ستارًا للتربُّح من خلفه لتحقيق الثروات الطائلة.
هل يحق لمن يعظ الناس، أو كما يقول يدعو إلى الله أن يحصل على هذه الثروات؟ ليس هذا فقط، بل يحيط نفسه بهالة مقدسة تحميه من النقد وتبارك أقواله؟
ولقد تعدَّت ظاهرة المتاجرة بالدين إلى الجهلة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيأتي على الناس سنوات خدَّاعات؛ يُصدَّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويُؤتَمَن فيها الخائن، ويُخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة»، قيل: وما الرويبضة؟ قال: «الرجل التافه يتكلم في أمر العامة»؛ (صحيح الجامع).
حيث ينتشر الآن الكذب والخيانة، وينحصر الصدق والأمانة فيعتبران ترفًا، ويُكذَّب من قال الصدق، ويُخوَّن من أدى الأمانة.
إن هذا الاختلال في الموازين أدى إلى أن يتصدر المشهد أناسٌ أراذل، لا قيمة لهم، ولا وزن لهم.
لقد أصبح لهؤلاء قنوات للتجارة بالدين، أو برامج بالفضائيات، ترى منهم من يستشهد بآيات القرآن في غير محلها، ومنهم من يدِّعي أنه متخصص في علم النفس والتنمية البشرية، وحاصل على شهادات من الجامعات، ويخلط قول ما يسمى علم النفس من أقوال النفسيين الغربيين، وهو لا يعلم ما قاله خالق النفس وما سوَّاها في القرآن الكريم؛ فيخلط هذا بذاك، ويتلاعب بالألفاظ، وهم أنفسهم مرضى، وبيوتهم مدمَّرة من الداخل بجهلهم للأسف الكبير.
ونسأل الله أن يحفظ بلاد المسلمين من كل شر وسوء.
إن مسؤولية كل المؤسسات الدينية التي تخلص عملها لله أن تكشف وتفضح هذه الظاهرة، وتبين للناس الحق من الباطل، وتأخذ على أيدي من يتاجرون بالدين، وتوقفهم عن ذلك بطرقها المشروعة، ولا تترك الساحة أمام الذين يتاجرون بالدين على هذا الشكل الفجِّ الذي يضل الناس والأمة والعالم.
وعلى كل مسلم أن يسعى في علمه؛ ليكون لديه القدرة على أن يكون من أصحاب النظر والفكر، ولا يعتمد على غيره في معرفة أمور دينه، فقد يسَّر الله للمسلم فهم أمور دينه؛ فهو القائل جل في علاه: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 52].
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17].
فلقد يسَّر الله وسهَّل هذا القرآن الكريم، ألفاظه للحفظ والأداء، ومعانيه للفهم والعلم، فكل من أقبل عليه يسَّر الله عليه مطلوبه غاية التيسير، وسهَّله عليه، والذكر شامل لكل ما يتذكر به العاملون من الحلال والحرام، وأحكام الأمر والنهي، وأحكام الجزاء والمواعظ والعِبر، والعقائد النافعة، والأخبار الصادقة، ولهذا كان علم القرآن حفظًا وتفسيرًا، أسهل العلوم، وأجلُّها على الإطلاق.
____________________________________________________________
الكاتب: أ. د. فؤاد محمد موسى