معركة أنوال وسحق جيوش الإسبان
تعتبر أكبر هزيمة يمنى بها الإسبان في تاريخهم الاستعماري في المغرب، بل ربما في تاريخهم العسكري كله، ليس من الناحية العسكرية فحسب، ولكن أيضاً من الناحية المعنوية
- التصنيفات: غزوات ومعارك -
الغزو الإسباني للمغرب:
بعد سقوط الحكم الإسلامي في الأندلس عام 1492م، باشر الإسبان حروبهم الصليبية على المسلمين في شمال إفريقيا، ولحقوا في ذلك بجيرانهم البرتغاليين الذين كانوا قد بدؤوا تلك الحرب في عام 1415م، وهو العام الذي احتلوا فيه ثغر سبتة، وهكذا اندفع الإسبان والبرتغاليون، كلٌّ من موقعه، في شن حملات ضارية على ثغور شمال إفريقيا، حيث بدأت أساطيلهم تراوح هذه الثغور وتغاديها من طرابلس شرقاً حتى مليلة غرباً، وذلك استمرار لمعركتهم ضد المسلمين في الأندلس، وفي عام 1497م نجح الإسبان في احتلال ثغر مليلة. وفي عام 1508م احتلوا جزيرة بادس على ساحل الريف الأوسط، وانتهت هذه المرحلة بانتزاعهم لثغر سبتة من البرتغاليين عام 1640م، وبذلك يكونون قد أكدوا سيطرتهم على ضفتي خليج الزقاق (مضيق جبل طارق) في شمال المغرب الأقصى.
بَيْدَ أن محاولاتهم المستمرة لتوسيع نفوذهم في الداخل باءت كلها بالفشل؛ بل ظلت سيطرتهم على ثغور شمال المغرب غير مستقرة حتى مطلع القرن العشرين؛ وذلك بسبب مقاومة القبائل المغربية لهم، وانتفاضاتها المتوالية ضدهم، وضرباتها الموجعة لقواتهم ولمصالحهم. وفي مطلع العقد الثاني من القرن العشرين قرر الإسبان وضع حدٍّ لتلك الانتفاضات الشعبية الجهادية في ريف المغرب، فأرسلت الحكومة الإسبانية مزيداً من القوات إلى شمال المغرب لقمعها، ثم لم تلبث أن استدعت جيشها الاحتياطي لتزج به في تلك الحرب للسيطرة على الريف المغـربي كله، تعويضاً عن خسارتها لمستعمراتها في أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا (الفلبين)، وهزائمها المخزية هناك على أيدي الأمريكان، وتنازلاتهـا المذلة لهم، وبحلول عام 1912م، وهو العام الذي احتلت فيه فرنسا وسط المغرب، ونتيجة لهذا الاحتلال نجح الإسبان في احتلال الجزء الشمالي من المغرب الأقصى، ومع ذلك لم تهدأ مقاومة القبائل المغربية لهم، وكانت هذه المقاومة بقيادة محمد أمزيان بطل حرب الريف الأولى (1909 - 1912م)، ثم بقيادة أحمد الريسوني (1871 - 1925م)، إلا أن هذه المقاومة لم تكن مقاومة منظمة، وكانت تنقصها الأسلحة والذخائر والخبرة القتالية في مواجهة جيش نظامي عتيد ومحترف في القتل والإجرام وسياسة الأرض المحروقة كالجيش الإسباني، كما أن المنافسات والحروب القبلية الدموية، كانت تعمـل عملها بين القبائل في الريف المغربي، بتأثير دسائس الأعداء أولاً، ونتيجة للجهل ثانياً. وبعد احتلال فرنسا لوسط المغرب وجنوبه، وتقاسم النفوذ فيه مع الإسبان، وطبقاً لمؤامرة باريس بين فرنسا وإسبانيا عام 1912م تجددت مطامع الإسبان في مدِّ نفوذهم في الجبهة الشرقية، وبخاصة بعد التقدم الذي أحرزوه في الجبهة الغربية، ولكنهم كانوا مدركين لخطورة هذه المغامرة وجسامة الخسائر التي ستترتب عليها، نظراً للمقاومة الشديدة التي كانت تواجههـم، ولذلك فقـد ترافقت إجراءاتهم العسكرية في هذه المرحلة بالتدابير السياسية لاحتلال هذه المنطقة، وظلوا لبضع سنوات يتقدمون ببطء وحذر متبعين أسلوب القضم وأسلوب شراء ولاءات الخونة وضعفاء النفوس من رؤساء القبائل، واتخـاذ بعض أتباعهم جنوداً ليقاتلوا تحت لوائهم، ولكن بينما كان الإسبان متفائلين بنجاح هذه السياسة إذا بهم يتفاجؤون باندلاع ثورة الريف المبـاركة، بقيـادة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، وهنا بدأت مرحلـة جديد من مراحل الجهاد ضد الصليبية الإسبانية في شمال شرقي المغرب، لم تعرف لها المنطقة مثيلاً من قبل، وذلك في عام 1921م.
شخصية الأمير الخطابي:
ولد الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي عام 1882م في بلدة (أجدير) في شمالي المغرب، حيث كان والده زعيماً لقبيلة (ورياغل) إحدى قبائل الريف البربرية، وبعد أن حفظ القران وألمَّ بمبادئ الدين وأساسيات اللغة العربية في مسقط رأسه. أرسله والده إلى جامعة القرويين بفاس، فقضى هناك ثلاث سنوات، كما قضى مثلها في جامعة شلمنقة الإسبانية حيث درس القانون، وبعد ذلك التحق بمهنة التدريس في مدينة مليلة، ولكنه لم يلبث أن تحول إلى القضاء تابعاً للمحتل الإسباني الذي كان يحتل منطقته أيضاً، وإلى جانب ذلك عمل مراسلاً لجريدة (تلغرام الريف) التي أصدرها بعض التقدميين الإسبان في مليلة، والتي أخذت تنشر مقالاته عن أوضاع المغرب وتحليلاته للعلاقات الدولية، وبخاصة بين دول العالم الثالث والدول العظمى. وقد عُرِفَ الخطابي منذ بداية شبابه بشجاعته، وجرأته، وحسن رأيه، إلى جانب قوة إرادته وعزيمته، وشخصيته القيادية الفذة التي لا تقبل الضيم أو الخضوع، ولا تساوم على الدين والكرامة مهما كان الثمن، كما عُرِف بسعة إطلاعه على قضايا أمته وعلى ما يجري في العالم، والانفتاح على ثقافة العصر.
وقد اعترف له بذلك الأعداء قبل الأصدقاء؛ فقد وصفه العقيد الإسباني رامون سانشيت أثناء إقامته بمليلة، فقال: «كان ذا عقل ثاقب، وذكاء حادٍّ، ومنطق صارم، وإدراك حصيف، وحدس سليم، وبعد نظر؛ فقد عُرف في هذه الرحلة بآرائه السديدة وحنكته وفطنته، فقد فرض نفسه على القواد الإسبانيين، فكان صاحب مبادىء راسخة، ذا قدرة على التحليق في سماء المثل العليا؛ إذ اتخذها دليلاً لطموحه السياسي ووسيلة ناجعة للثورة على الجهل، فتسلح بنور الفكر الإسلامي وثقافة العصر».
وقد مكنته إقامته بمليلة واحتكاكه بالموظفين الإسبان من التعرف على خبايا السياسة الإسبانية، وعلى عقلية السلطة الإسبانية، ونواياها تجاه بلاده. هذه السلطة الاستعمارية الغاشمة التي قامت باعتقاله عام 1915م كونه أظهر التعاطف تجاه العثمانيين الذين انخرطـوا في الحرب العالمية الأولى إلى جانب الألمان، ولجرأته فقد حاول الهرب، وقفز من فوق أسوار السجن شاهق الارتفاع بصورة أدت إلى تهشم رأسه وكسر رجله، ومن ثَمَّ القبض عليه وإعادته إلى السجن مرة أخرى.
وفي عام 1920م توفي والده، وكان ذلك بعد خروجه من السجن وعودته إلى قريته بزمن قليل، وكان والده حينها يُعِدُّ العدة للتصدي للإسبان بعد أن أنذرهم من مغبة التوغل في البلاد. ولذلك فقد تصدر الخطابي الواجهة في قبيلته بمساعدة أخيه وعمه، فعمل على جمع شمل القبائل وإزالة ما بينها من فرقة واختلاف، وحثِّها على توجيه بأسها نحو العدو المشترك، وهو العدو الإسباني المحتل، وتخليص البلاد منه، معتبراً الحرب ضده حرباً دينية وحضارية. وقد توَّج جهودَه في هذا المجال بتنظيم مؤتمر عامٍّ لرؤساء القبائل، نجح خلاله في تحقيق مصالَحة عامة بينهم، واعترفوا به زعيماً عليهم، بعد أن تعاهدوا على رفع راية الجهاد ضد الإسبان. ولم يكن الخطابي قائداً عسكرياً فحسب؛ وإنما كان إلى جانب ذلك مصلحاً اجتماعياً، وداعية إسلامياً، يدعو إلى الله على علم وبصيرة، وكانت دعوته تقوم على تجديد ما اندرس من تعاليم الإسلام، ومحاربة الجمود، ونشر العلم، والأخذ بأسباب التقدم والتمدن، في إطار العقيدة الإسلامية.
الجنرال سيلفستري وثورة الريف:
وفي ربيع عام 1921م، وهو العام الذي اندلعت فيه ثورة الريف بقيادة الأمير الخطابي، حشد الإسبان في مليلة جيشاً ضخماً قوامه 30 ألف مقاتل، ومثلهم تقريباً من خونة الأهالي، ولم يلبثوا أن تقدموا في المنطقة، بقيادة الجنرال مانويل فرنانديز سيلفستري، قائد القيادة العليا لجيش الاحتلال الإسباني بناحية مليلة، وكان هذا الجنرال معروفاً بصلفه وعناده، ونوزاعه الاستعمارية، وشدة ولائه للتاج الإسباني، وكان يحظى بالدعم المطلق من قبل الفونسو الثالث عشر، ملك إسبانيا (1902 - 1931م) الذي وضع كل ثقته فيه لوضع حدٍّ لثورة ابن عبد الكريم، ومن ثَمَّ إحكام السيطرة الكاملة، على بلاد الريف كلهـا، حيث كان الإسبان يعتقدون في البداية أن هذه الثورة ليست سوى حركة مؤقتة كالحركات التي سبقتها؛ وبخاصة أن هذا الجنرال بعد تعيينه قائداً عسكرياً لهذه الجبهة عام 1920م، كان قد احتل عدة مواقع متقدمة دون أن يجابَه بمقاومة تذكر، ودون أن يخسر أيَ جندي إسباني، فقد كان الضحايا في هذه المرحلة كلهم من الريفيين الخونة العاملين تحت اللواء الإسباني، كما أن كلاً من إسبانيا وفرنسا كانتا قد منعتا وصول السلاح إلى الريفيين، وجرَّمتا حمله من قبلهم، على اعتبار أنهم (متشددون) وأعداء لرسالتهما الحضارية التي يحملانها إلى الشعوب المتخلفة، بزعمهم. ولذلك فقد استمر الجنرال سيلفستري في اندفاعه حتى منطقة أنوال على مشارف قبيلة (ورياغل) التي ينتمي إليها ابن عبد الكريم، قائد الثورة، حيث كان يتخندق فيها إلى جانب مقاتليه وقتذاك، وكان الجنرال الإسباني المغرور قد أقسم أنه سيشرب الخمر في بيت ابن عبد الكريم. ولكن شاء الله تعالى أن يجعل كيدَه في نحره، وتدميرَه في تدبيره؛ فعند وصوله إلى هذه المنطقة بدأت الأمـور تتخـذ منحىً آخر، لم يحسب له حساباً؛ فبينما كان ذلك الجنرال، يواصل احتلال مناطق الريف فوجىء بانقضاض المجاهدين الريفيين على مركز (أبران) أحد المراكز الإسبانية المهمة في المنطقة وإبادة من وجدوا فيه من جنود إلا قلة قليلة ممن استطاعوا الهرب، والاستيلاء على جميع الأسلحة والذخائر التي كانت فيه، وكانت هذه أول لطمة مؤلمة لهذا الجنرال المتعجرف في المغرب، وكانت بالمقابل أول انتصار للخطابي، وهو الانتصار الذي ذاع صيته في نواحي المنطقة كلها. وعلى إثر ذلك الانتصار الذي جاء بعد عقود من الهزائم والنكسات، وفي وقت كان فيه العالم الإسلامي كله يرزح تحت نير الاستعمار، سرى الحماس في عروق أبناء قبائل الريف، ودبَّت الحميــة في نفوسهم، وتذكروا أمجاد وبطولات أسلافهم فاتحي الأندلس، وبخاصة أن هذا الانتصار قد وقع في العشر الأواخر من رمضان 1339هـ، ومن هنا فقد تداعوا للثورة على الغزاة الإسبان، ولم تلبث أن دوت صيحة الجهاد ضدهم في المنطقة كلها، وانخرط المئات من أبنائها في صفوف كتائب الخطابي، وأخذت الضربات الموجعة تسدَّد للإسبان من كل الاتجاهات، وتم القضاء على العديد من الفرق الإسبانية الموجودة بالمنطقة والاستيلاء على أسلحتها، كما باتت الفرق الإسبانية الأخرى شبه محاصرة، وبات المجاهدون على مشارف أنوال، مركز تجمع القوات الإسبانية، وعلى أهبة الاستعداد لخوض المعركة الفاصلة ضدها، وهي المعركة التي سيتردد صداها في الشرق والغرب، وسيخلدها التاريخ باسم (معركة أنوال).
أهمية معركة أنوال:
لقد كانت معركة أنوال معركة فريدة من نوعها في التاريخ العسكري العالمي، وهي تعد من أهم المعارك في العصر الحديث في القرن العشرين بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، كما تعتبر أكبر هزيمة يمنى بها الإسبان في تاريخهم الاستعماري في المغرب، بل ربما في تاريخهم العسكري كله، ليس من الناحية العسكرية فحسب، ولكن أيضاً من الناحية المعنوية؛ فقد كانت هزيمتهم في هذه المعركة هزيمة ساحقة ماحقة، حيث فقدوا فيها جميع الجيوش التي كانت في منطقة أنوال وغيرها من مناطق الريف، سواء بالقتل أو الأسر، وبسلاحهم نفسه بعد أن انتزعه المجاهدون الريفيون من أيديهم. ولم يسبق لمستعمر أن مني بهزيمة نكراء مزلزلة مثلها في أي مكان من العالم، اللهم إلا إذا استثنينا من ذلك هزيمة البرتغاليين القاصمة في معركة وادي المخازن، المعروفة أيضا بمعركة الملوك الثلاثة، وذلك عام 1571م على أيدي المغاربة أيضاً. ولذلك فقد أطلق المؤرخون والقادة العسكريون الإسبان على معركة أنوال اسم (كارثة أنوال)؛ فقد لقنهم محمد بن عبد الكريم الخطابي ورجاله البواسل فيها درساً لم ينسوه أبداً، وتركت الهزيمة في الوجدان الشعبي الإسباني جرحاً غائراً لن يندمل على مرِّ الزمن، وما زال اسم الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي يشكل شبحاً مرعباً للإسبان حتى اليوم. وبالمقابل فإنه لم تسجل حركة جهادية مسلحة في أي بلد من العالم انتصاراً باهراً يماثل الانتصار الذي حققته الحركة الجهادية في ريف المغرب ضد الإسبان في معركة أنوال الخالدة بقيادة البطل الفذ محمد بن عبد الكريم الخطابي، وبتلك الصورة التي أدهشت العالم مثلما أدهشه أيضاً قائدها وخبرته العسكرية الفذة التي ارتكزت على أسلوب حرب العصابات والتنظيم العسكري والإداري، وذلك رغم أنه لم يتخرج من أي مدرسة أو أكاديمية عسكرية؛ ذلك أن الانتصار الباهر الذي تحقق في هذه الملحمة العظيمة بقيادة هذا الرجل الكفء المحنك، تحقق أساساً على أيدي جماعة من المغاربة الريفيين، لا يتجاوز عددهم ثلاثة آلاف مقاتل، ولا يملكون سوى أسلحة خفيفة وبدائية، في مواجهة جيش نظامي مجهز بترسانة ضخمة من الأسلحة الحديثة الثقيلة شديدة الفتك والتدمير، إضافة إلى الأسلحة المتوسطة والخفيفة، ويتجاوز عدد أفراده ثلاثين ألف مقاتل، إلى جانب مثل هذا العدد تقريباً من خونة الأهالي المارقين. وما كان لهذا الانتصار الباهر أن يتحقق لولا تأييد الله سبحانه وتعالى للخطابي ورجاله البواسل، الذين حملوا رؤوسهم على أكفهم دفاعاً عن دينهم وأمتهم وبلادهم، وأيضاً لولا براعة الخطابي في التخطيط والتنظيم عسكرياً وإدارياً، إلى جانب إيمانه ومن معه بعدالة القضية التي كانوا يجاهدون لأجلها.
كان انتصاراً اهتز له العالم كله، وزلزل أركان الاستعمار في العالم الإسلامي، ولذلك فقد حظيت المعركة بأهمية كبيرة لدى المؤرخين الأجانب، وقد صدر حولها حتى الآن حوالي مئة كتاب باللغات الأجنبية الحية، فضلاً عن الكتب التي صدرت عنها باللغة العربية. ومعركة أنوال في حقيقتها معركتان: الأولى معركة (أبران) وجرت في 1/6/1921م، والثانية معركة (أنوال) وجرت في 21/7/1921م، ولكن المعركة الأخيرة اشتهرت لأنها كانت هي المعـركة الحاسمة التي كان فيهـا النصر الكبير للخطابي وجنوده، وكانت فيها الهزيمة الساحقة الماحقة للجيش الإسباني المحتل.
معركة أنوال وأبرز نتائجها:
وهكذا أدت حملة الجنرال سيلفستري على بلاد الريف إلى اشتداد ثورة الريف بدلاً من وَأْدها، وفي غضون ذلك زج هذا الجنرال بالمزيد من القوات لمجابهة تلك التطورات الخطيرة، بَيْد أن ذلك قد زاد الطين بِلَّة، لأن المجاهـدين الريفيين كانوا يترصدون لتلك القوات إينما ذهبت، وباتت أكثر المناطق التي يحتلها الإسبان في الريف محاصرة، كما باتت محـرومة من التزود بالماء الذي بات تحت سيطرة جيش الخطابي، بما فيها المنطقة التي كان يتمركز فيها الجنرال سيلفستري. هذا الأخير الذي لم يلبث أن فقد السيطرة على زمام الموقف؛ إذ صار ذلك الزمام بيد الخطابي، ونتيجة لذلك فقـد اشتد عطش الجنود الإسبان إلى درجة أوصلتهم إلى شرب أبوالهم، وإلى تعريض أرواحهم للقتل نتيجة لمغامرة بعضهم للوصول إلى مصدر الماء الوحيد في المنطقة، الأمر الذي كان يجعلهم هدفاً سهلاً للمجاهدين الريفيين، لدرجة أن كل قطرة ماء كان يحصل عليها الإسبان كانوا يدفعـون ثمنها قطرة دم. وقد باءت كل محاولات الجنرال سيلفستري في فك طوق الحصار المضروب حول قواته، أو بالأحرى الخروج من المصيدة التي وقع فيها بتدبير من الخطابي، بالفشل. وفي 21/7/1921م أصدر أوامره لقواته بالاشتباك مع جيش الخطابي، فنشبت بين الجيشين معركة هائلة لم تعرف لها المنطقة مثيلاً من قبل؛ إذ كان حوالي 3500 مقاتل مغربي في مواجهة حوالي 30 ألف جندي إسباني ومثلهم من خونة الأهالي، فقد هاجم الريفيون بخيلهم ورَجِلهم جميع المواقع الإسبانية في بلاد الريف في وقـت واحد، وقطعوا خطوط الاتصال وأسلاك الهاتف بينها، وعزلوا تلك المواقع عن بعضها، واستمرت المعركة خمسة أيام، دارت خلالها الدائرة على الجيش الإسباني؛ إذ أوقع به جيش الخطابي هزائم قاسية، ومزقه شر ممزق، وأجبر من تبقى منه على الفرار من أنوال، وتعقبت جيوش الخطابي فلول المقاتلين الإسبان الهاربة حتى مشارف مليلة، مُوقِعة بها مزيداً من القتلى، بحيث بلغت أعداد القتلى الإسبان في هذه المعركة حوالي 15 ألف مقاتل بينهم قادة كبار، على رأسهم الجنرال سيلفتسري الذي وجدت جثته فيما بعد بين ركام القتلى، والذي قيل إنه انتحر خوفاً من الشماتة والعار، وهذا بجانب آلاف الجرحى، ومئات من الأسرى، إضافة إلى الخسائر المالية الضخمة التي تكبدتها الخزينة الإسبانية. كما نجم عن هزيمة الجيش الإسباني على ذلك النحو المخزي والشنيع حدوث أزمات سياسية عميقة في الداخل الإسباني، ووقوع فجوة كبرى بين قادة الجيش ورجال السياسة الإسبان؛ إذ نشبت بين الطرفين خلافات مستعصية حول الأسلوب الناجع لغزو قبيلة ورياغل، القلب النابض للحركة الجهادية في ريف المغرب، لإلحاق الهزيمة الحاسمة بها، وكانت المعركـة بين الطرفين حامية الوطيس في الصحافة الإسبانية. وأدت المعركة على الجانب المغربي إلى تحرير جميع مناطق الريف من الاحتلال الإسباني عدا مليلة، وإلى غُنْم مئات المدافع الثقيلة والرشاشات، والآلاف المؤلفة من البنادق، وأطنانٍ من القذائف، وعشرات الشاحنات العسكرية، وغير ذلك من الأثاث والمؤن. وقد سارع الخطابي بعد انتصاره الباهر إلى تنظيم المناطق المحررة إدارياً ومالياً، وإلى تأسيس مجلس سياسي لإدارة شؤون البلاد، كما قام بتأسيس جيش نظامي لحماية انتصاراته، واستمر ذلك الجيش يحقق الانتصارات حتى نهاية عام 1924م.
التدخل الفرنسي والحرب الكيميائية:
شعرت القوى الاستعمارية الأوروبية الكبرى بالخطر من الانتصار الذي حققه الخطابي في أنوال وما تلاه من انتصارات وإنجازات في كافة المجالات، وبخاصة فرنسا التي كانت حينـذاك تسيطر على القسم الأعظم من شمال إفريقيا، فقررت التحالف مع الإسبان ودخول المعركة إلى جانبهم ضد الخطابي، وذلك في نيسان 1925م بعد أن حصلت على الدعم من إيطاليا التي كانت تحتل ليبيا آنذاك، وفي الوقت نفسه شدد الإنجليز، الذين كانوا يحتلون الجزيرة الخضراء، الحصار البحري على شمال المغرب للحيلولة دون وصول السلاح إلى أيدي المجاهدين الريفيين، بَيْدَ أن المجاهدين الريفيين ردوا الجيوش الفرنسية على أعقابها، وألحقوا بها هزائم ساحقة كالتي ألحقوها بالإسبان من قبل، واستردوا كثيراً من المواقع التي كانت تحتلها فرنسا في بلاد الريف الجنوبية، وذلك في الأشهر الأولى من الحرب، وكادوا في إحدى غزواتهم أن يحرروا مدينة فاس، العاصمة العلمية للمغرب، رغم أن هؤلاء المجاهدين كانوا يقاتلون في جبهتين، ورغم أن كلاً من الفرنسيين والإسبان كانوا قد حشدوا طاقتيهما لوأد ثورة الريف، وتصفيـة الخطابي.
وعلى إثر تلك الانتصارات الجديدة وما تكبده الفرنسيون من خسائر فادحة، وأيضاً نتيجة لحالة الغليان التي عمت المغرب كله واحتمال نشوب الثورة الشاملة ضدهم في البلاد استجابةً لدعوات الخطابي.جن جنون السلطتين الاستعماريتين في باريس ومدريد، فلجأت كلٌّ منهما إلى سلاح غير تقليدي يستخدم لأول مرة في تاريخ الحروب، ألا وهو أسلحة التدمير الشامل؛ فقد استخدمت الجيوش الفرنسية والإسبانية مختلف أنواع الغازات السامة، والأسلحة الكيمائية في عدوانها المشترك على جيش الخطابي، وذلك عن طريق قصفه بها من الجو بواسطة الطيران، وكان ذلك في صيف عام 1925م، وقد شمل ذلك القصف القرى الآهلة بالسكان، والحقول الزراعية، ومصادر المياه، إلى جانب الطرق والمخابئ، ونتيجة لذلك فقد كانت أعـداد الضحايا المدنيين الريفيين بالجملة، وفقد الخطابي في غضون أشهر قليلة الآلاف من خيرة جنوده، فكان طبيعياً - والحال هذا - أن يقبل بمبدأ التفاوض مع السلطتين الاستعماريتين الفرنسية والإسبانية، غير أنه فوجىء في مؤتمر (وجدة) في نيسان 1926م بشروطهما التعجيزية والمجحفة والمذلة التي تشترطانها عليه، وهي: تنحيته وأسرته عن الريف، والسماح لهما بإقامة نقاط إسترتيجية في بلاد الريف، ونزع سلاح رجال الريف... إلخ، ولم تكن هذه المفاوضات حقيقة إلا لكسب الوقت، ولمعرفة نقاط ضعف الخطابي؛ إذ إنه قبل أن يجف الحبر الذي كتبت به تلك الشروط، كان هناك حوالي نصف مليون جندي فرنسي وإسباني، مزودين بمختلف أنواع الأسلحة الحديثة، يحتشدون في شمال وجنوب بلاد الريف على أهبة الاستعداد لاجتياح البلاد، كما نجح الفرنسيون أيضاً في استثارة الطرق الصوفية ضد الخطابي.
وفي مطلع مايو 1926م بدأ الطرفان الفرنسي والإسباني عدوانهما المشترك الشامل على بلاد الريف، فنجحا في إلحاق الهزيمة بالمجاهـدين الريفيين، واجتياح المنطقة بعد ثلاث حملات ضخمة، ومن ثَمَّ القضاء على ثورة الريف التي أتعبتهم وأنهكتهم، وقد انتهت تلك الثورة رسمياً باستسلام قائدها محمد بن عبد الكريم الخطابي للفرنسيين لتجنيب شعبه الإبادة الجماعية، التي كان يخطط لها الفرنسيون والإسبان، وكان ذلك في 27/5/1926م، وكان هذا اليوم من أشد الأيام سواداً وحزناً في تاريخ الأمة الإسلامية الحديث.
_____________________________________________________
الكاتب: . أحمد الظرافي