مخدر الإحساس

"كثرة المساس تخدر الإحساس". فكثرة رؤية الشيء واعتياده، يجعلك تأْلَفُ وجوده؛ فتفقد الإحساس بقيمته، وربما غفلت عن وجوده.

  • التصنيفات: تزكية النفس -

عند زيارتي لمريض، أتألم كثيرًا لحاله، وكأن ما به من ألمٍ يؤلمني، وكأن آهاتِه تخرج من جوفي، وعندما أرى ميتًا، تنتابني قشعريرة في جسمي وترتجف أوصالي، ويخر قلبي ساجدًا لربه في محراب الذل والانكسار.

 

وكنت أقول في نفسي: لعلَّ الأطباء من أشد الناس تأثرًا برؤية المرضى والموتى.

 

لعلهم دائمو الحزن، ولا يهنؤون بطعام ولا شراب، ولا يعرفون للحياة لذة ولا طعمًا؛ لرؤيتهم المستمرة للموتى والمرضى.

 

ولما ترددت على الأطباء، وجدتهم يرَون المرضى ولا يتألمون، ويرون الموتى ولا يتأثرون، ويمر الأمر عليهم مرور الكرام، وربما ترك أحدهم المريض يتألم وجلس يأكل طعامًا شهيًّا.

 

فتملكني هذا السؤال: لماذا خاب ظني؟

 

ولماذا يرى الطبيب المريض يتألم وكأنه لا يراه؟

 

وبين الفَينة والفَينة كنت أذهب إلى المقابر في اتباع الجنائز، فإذا وصلت إلى المقابر ينتابني الخوف والخشوع، والذل والانكسار، ويصير قلبي أرق من ثوب شفاف، فإذا رأيت التربي (عامل المقابر)، قلت له في نفسي: هنيئًا لك وجودك بين المقابر، فأنت أكثر الناس ذلًّا وانكسارًا وخشوعًا، فأنت دائمًا بين الموتى، لكن...

 

أرى التربي يلهو ويمرح، ويأكل ويشرب، وربما عصى الله بين المقابر، فتنتابني الدهشة، وأتساءل في نفسي: لماذا خاب ظني؟

 

لماذا لم يكن التربي كما ظننت؟

 

وكنت أرى الولائم والأفراح، وأراهم يعدون من الطعام أصنافًا وألوانًا، فلا بد أن تمتلئ المائدة بكل ما لذ وطاب، فكنت أنظر إلى الطباخ وأقول له في نفسي: لا أحد اليوم أسعد منك؛ فالطعام كله بين يديك تأكل منه ما لذ وطاب، ولكن...

 

كانت تصيبني الدهشة عندما أرى الناس يُقبِلون على الطعام وهو لا يقربه، وتزداد دهشتي وحيرتي، حينما أراه يطلب كسرة خبز وقطعة جبن لتكون طعامه.

 

فتصرخ نفسي قائلة: لماذا خاب ظني؟

 

لماذا لم يفرح الطباخ بهذا الطعام ويُقبِل عليه بشهية مثل الآخرين؟

 

وكنت عندما أرى المسجد الحرام على شاشات الفضائيات، ويهفو قلبي إليه، أقول في نفسي: هنيئًا لأهل السعودية بالحرمين الشريفين، ولو كنت من أهلها، ما تركت حجًّا ولا عمرة، ولعل أهل المملكة يفعلون ذلك، ولكن...

 

كدت أن يصيبني الدوار أو يغشى عليَّ، حينما علِمت أن من أهل المملكة من لم يحج في حياته، فكدت أنفجر غيظًا، وقلت في نفسي: لماذا خاب ظني؟

 

لماذا غفل بعض أهل المملكة عن تعظيم هذا البيت؟

 

وهنا كان السيل قد بلغ الزبى، فلا بد من جواب...

والجواب يا عزيزي...

"كثرة المساس تخدر الإحساس".

 

فكثرة رؤية الشيء واعتياده، يجعلك تأْلَفُ وجوده؛ فتفقد الإحساس بقيمته، وربما غفلت عن وجوده.

 

وهذه مصيبتنا جميعًا؛ أننا مخدَّرو الإحساس.

 

أراك وكأنك تتمتم بسؤالك: كيف نحن مخدرو الإحساس؟

 

أنت تستيقظ كل صباح، فتجد الشمس ساطعة في أفق السماء، فتمر عليها مرور الكرام، وكأنك لا تراها، هل سألت نفسك: كيف تكون الحياة بدون الشمس؟

 

هل عرفت قدرها؟

 

لماذا تتعامل معها على أنها أمر عادي، مع أن الحياة لا تستقيم بدونها؟

 

لماذا تظن أنه يجب على الشمس أن تشرق كل صباح، وتغرب كل مساء؟

 

أليس الله قادرًا على أن يحجبها؟

 

فلو حجبها الله عنك، ماذا أنت صانع؟

 

فلماذا لم تشعر بهذه النعمة؟

 

ولماذا لم تقدر قيمتها؟

 

ولماذا لم تشكر الله عليها؟

 

أجيبك يا عزيزي: لقد ألِفنا هذه النعمة واعتدْناها؛ لأنها مستمرة ودائمة؛ ففقدنا الإحساس بقيمتها، مع أن الحياة بدونها تستحيل.

 

هل انتبهت يومًا إلى الهواء، مع أنك تستنشق الأكسجين في كل لحظة؟

 

لماذا لم تنتبه إليه مع أنك في أشد الحاجة إليه؟

 

لماذا تعاملت معه على أنه أمر طبيعي؟

 

لماذا تظن أنه لا بد أن يتواجد؟

 

هل تخيلت الحياة بدونه؟

 

فلماذا لم تُقدِّر قيمته؟

 

ولماذا لم تشكر الله عليه؟

 

والجواب: لأننا ألفنا النعمة واعتدناها؛ فتخدر الإحساس لدينا بقيمتها؛ فأصبحنا نرى الغالي رخيصًا، والنفيس زهيدًا، والضروري أمرًا عاديًّا.

 

أخي الكريم: هل تفكرت في نفسك؟

هل تفكرت كيف يتغذى جسمك؟

هل تفكرت كيف يفكر عقلك؟

هل تفكرت كيف تنام؟ وكيف تستيقظ؟

هل شكرت الله على هذه النعم، أم أنك تعاملت معها على أنها شيء عادي؟

هل استشعرت أنها فضل من الله ومِنَّة، أم أنها تجب على الله لك؟

 

عزيزي: أما آن الأوان أن نعرف فضل الله علينا؟

 

أما آنَ أن نعرف قيمة نِعَمِ الله ونشكرها، أم أنه لا بد أن نفقد النعمة لنعرف قيمتها؟

 

قالوا: إذا أردت أن تعرف نعمة الله عليك، فأغمِض عينيك.

 

هل جربت ذلك يومًا؟

 

هل جربت أن تضع عصابة على عينيك وتسير، ولو خطوات قليلة؟

 

ماذا يحدث لو جربت ذلك؟

بالطبع سترى الدنيا ظلامًا حالكًا، وكلما أردت أن تسير، سقطتَ أرضًا.

تقول في نفسك حينها:

ما أغفل قلبي! لقد عشت سنينًا لا أشعر بتلك النعمة، وأظنها ملكًا لي، لا تُسلَب مني أبدًا.

 

ألم تَرَ يومًا مجنونًا قد فَقَدَ عقلَه؟

 

هل انتبهت وقتها لعقلك؟

 

أنت تحمل عقلك معك منذ ولادتك، لم تفكر يومًا أنه نعمة من ربك، بل ظننته حقًّا مكتسبًا لك، لا يستطيع أحد أن يسلبه منك.

 

أدعوك الآن: أن تسد أذنك وتكتم فمك... ساعتها فقط سوف تدرك قيمة نعمتي الأذن والفم اللتين وهبهما الله لك؛ لتسمع وتتحدث، وتتذوق وتأكل.

 

عزيزي: لن أطيل عليك في سرد النعم؛ فإن نعم الله لا تُعَدُّ ولا تُحصى؛ {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34].

 

يكفيني أن أقول لك: لقد قابلنا نِعَمَ الله بالجحود والإنكار، والغفلة والنسيان.

أتدري لماذا جحد الإنسان النعمة ولم يشكرها؟

 

لأنه ألِف هذه النعمة واعتادها، وظنها حقه الطبيعي، ولا فضلَ لأحد فيها، وكأنها تجِب على الله له.

 

ظن أن الشمس يجب عليها أن تشرق كل صباح، وأن القمر يجب أن ينير الظلام، وأن الليل لا بد أن يأتي ويعقبه النهار.

 

وظن أن الزرع لا بد عليه أن ينبت وينمو، كما ظن أن الغذاء لا بد أن يتوافر.

 

ظن أنه يجب على أعضاء جسمه أن تعمل بلا توقف؛ فالعين لا بد أن تبصر، والأذن لا بد أن تسمع، وكل عضو لا بد أن يعمل كما ينبغي.

 

لذلك؛ فَقَدَ الإحساس بالنعمة، وجحدها ولم يؤدِّ شكرها.

 

فما بالنا وقعنا في فخ من فخاخ إبليس؟

 

غفلنا عن نعمة الله وجحدناها؛ {وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17]، فمتى نشكر نعمة الله علينا ولا نجحدها؟

 

فاحذروا كفر النعمة؛ فيصيبنا قول الله تعالى: {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7]، {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].

 

فإن سنن الله لا تحابي أحدًا؛ فربما تُسلَب منك النعمة في لمح البصر، فكم رأينا من سُلبت منه النعمة، وندِم بعد فوات الأوان!

___________________________________________________

الكاتب: محمد ونيس