الرفقة الصالحة

من يُصاحِب الأخيار تزكُو نفسُه، ويقرب من ربِّه، ومَنْ يُصاحِب الأشرار يقسو قلبُه، ويبعد عن ربِّه، فمن أيهما أنت؟

  • التصنيفات: مجتمع وإصلاح - نصائح ومواعظ -

جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأرواحُ جنودٌ مُجنَّدةٌ، فما تعارَفَ منها ائتلفَ، وما تناكَرَ منها اختلف».

 

عباد الله، الإنسان اجتماعي بطبعه، يُحِبُّ العيش وسط الناس، يتعامل ويتعارَف، ولا بُدَّ له من أصحاب وأصدقاء يأنَس بهم، ويجلس معهم، ويتحدَّث معهم، ويتحدثون معه، يساعدونه في حَلِّ مشاكله، ويقفون معه عند شدائده، وكما قيل: "الصديق وقت الضيق" ورُبَّ صديقٍ خيرٌ من ألفِ قريبٍ؛ ولكن على كل إنسان أن يعرف مَنْ يُصادِق ومَنْ يُخالِل، وعليه الحذر كل الحذر من أن يفرط عقد أسراره لكل مَنْ هبَّ ودَبَّ، فرُبَّ صديقٍ انقلب في يوم عدوًّا، فعرَف أسرارَك وفضحك بين الناس، فلا تُصاحِب إلَّا مَن عرَفت فيه الخير، ولا تثِقْ إلَّا بمَن جرَّبته وصاحبته في السفر والأزمات وعند الشدائد، ولا تُصاحِب إلَّا أهل التقوى والصلاح، مَنْ إذا سَمِع النداء للصلاة أجاب، وإذا أمَرْتَه بالمعروف ونهيته عن المنكر استجاب ولم يُعانِد، وإذا أخطأت نبَّهَك ووجَّهَك، فمن يُصاحِب الأخيار تزكُو نفسُه، ويقرب من ربِّه، ومَنْ يُصاحِب الأشرار يقسو قلبُه، ويبعد عن ربِّه، فمن أيهما أنت؟ ولا غِنى للإنسان عن مخالطة الناس، والمجتمع لا يحب الانطوائي، فالعزلة لا خير فيها إلَّا إذا دعت الضرورة لذلك؛ لذا كان الأنبياء عليهم السلام يختلطون بالناس ويغشون مجالسهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «الذي يُخالِط الناسَ ويصبِر على أذاهم خيرٌ مِن الذي لا يُخالِط الناس ولا يصبر على أذاهم»؛  (رواه الترمذي وابن ماجه بسند حسن).

 

أخرج أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة مرفوعًا  «الرجلُ على دينِ خليلِه فَلْيَنْظُر أحدُكم مَن يُخالِل».

 

عن المرء لا تسَلْ وسَلْ عن قرينه   **   فكُلُّ قرينٍ بالمقارِن يقتدي 

 

فكم من صديق كان السبب في سعادة صديقه وسببًا في هدايته للخير، وكم من صديقٍ كان السبب في ضلال صديقه وانحرافه تجاه الهاوية، ويوم القيامة يندم على صداقته البائسة، فعمُّ رسول الله لم ينفعه أصحابُه وجلساؤه حتى عند موته، كان يحاول رسول الله صلى الله عليه وسلم هدايته عند آخر لحظات حياته، ويقول: «يا عم قُلْ: لا إله إلَّا الله أحاج لك بها عند ربِّي»، ومع علم أبي طالب بصِدْق رسول الله؛ لكنه كان يخشى أصحاب السوء الذين كانوا حاضرين ويقولون: أترغَب عن مِلَّة عبد المطلب، وفي النهاية استجاب لرُّفقاء السوء، فقال هو على مِلَّة عبدالمطلب ليموت على الكُفْر، ولا حول ولا قوة إلَّا بالله، قال تعالى:  {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} [الفرقان: 27 - 29].

 

فمن أراد ألَّا يندم في الآخرة فليُحسِن الصُّحْبة في الدنيا، فلا صحبة تنفع يوم القيامة إلَّا لأهل التُّقى، هي التي لا تنقطع بعد الموت؛ بل تستمر بخيرها حتى يوم القيامة، قال الله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]، فتتفتَّتْ كُلُّ الصداقات، وتنجلي كل القرابات، ويفرُّ المرء من أخيه وأمِّه وأبيه؛ لكن تبقى الأخوَّة في الله والصُّحْبة في الله.

 

عباد الله، لقد ضرب المصطفى صلى الله عليه وسلم للجليس الصالح والجليس السوء مثلًا عظيمًا كما أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «مَثَلُ الجليس الصالح والسوء كحامِلِ المِسْكِ ونافخِ الكير، فحامِلُ المسك إمَّا أن يحذيَك، وإمَّا أن تبتاع منه، وإمَّا أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير إمَّا أن يحرق ثيابك، وإمَّا أن تجد ريحًا خبيثة»، فهذا مثل عظيم بيَّن فيه المصطفى حال صاحب السوء وصاحب الخير، فصاحب السوء لا يخرج عن أحدِ هذه الأمور؛ إمَّا أن يحرق ثيابك، وذلك بفتنتك على معصية، أو إيقاعك في المشاكل، وإن لم يحصل ذلك فلا أقل من أن تجد منه ريحًا خبيثة، وذلك بالسمعة السيئة التي تكتسبها بين الناس من جرَّاء رؤيتهم لك معه.

 

فعليك بالرفقة والأصحاب الطيِّبين الصادقين في محبَّتِهم لك، في حُبِّهم خيرٌ، وفي زيارتهم ومجالستهم ثوابٌ عظيمٌ، تنال بحبِّهم محبَّة الله، في موطَّأ مالك وأحمـد في مسنده بسند صحيح، عن معاذ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قال الله تبارك وتعالى: وجبت محبَّتي للمتحابِّين فيَّ، والمتجالسين فيَّ، والمتزاورين فيَّ، والمتباذلين فيَّ»، وحسبك بمحبَّةِ اللهِ تعالى فضلًا أن تحبَّ صاحِبَك في الله سبحانه، وفوق ذلك فإنك إذا أحببْتَ أخاك في الله فلك أجرانِ أحدهما أعظمُ من الآخر، فالأول ظل الله تعالى يوم القيامة، والثاني الجنة، ففي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سبعةٌ يُظِلُّهم اللهً في ظِلِّه يومَ لا ظِلَّ إلَّا ظله:...» وذكر منهم: «ورجلانِ تحابَّا في الله، اجتمعا عليه، وتفرَّقا عليه».

 

فعلى كل مسلم أن يختار الرفقة الصالحة لنفسه، وعلى الآباء أن يُوجِّهوا أبناءهم ويُبيِّنُوا لهم كيف يختارون أصحابهم ويُحذِّروهم من رفقاء السوء وخطرهم وطرق التخلُّص من مصاحبتهم.

 

فالصحبة الصالحة تُعين المسلم على طاعة الله، ومَنْ مِنَّا لا يحتاج إلى مُعين ومُذكِّر للطاعة؟ فالواجب على الصديق الصالح أن ينصح صديقه في الله ويقوِّمه، ولا يغلب بينهم المجاملة على حساب الدين، فالصداقة الحقيقية هي في التوجيه والتقويم، كما قال عمر رضي الله عنه: رحِمَ اللهُ امرءًا أهدى إليَّ عيوبي.

 

إن للصاحب الصالح فوائد عظيمة، منها أنه يُذكِّرك إذا نسيت، ويقوِّمك إذا اعوججت، ويحفظ عليك عورتك، ويرفأ من خَلَّتك، ويُسْدي لك النصيحة دائمًا أبدًا، ألا فليراجع كُلُّ مِنَّا نفسه، فينظُر إلى أصحابه هل فيهم من يفعل ذلك، فإن وجد فليعض عليه بالنواجِذ.