لا ملحدين في الخنادق
دلالة هذه العبارة واضحة، فكثير من الملحدين يؤمنون بالله في قرارة أنفسهم، وأعماق قلوبهم، ويظهر هذا الإيمان جليًّا في المحن والأزمات والحروب والمواقف الحرجة.
- التصنيفات: الإلحاد -
هذه عبارة اشتُهرت إبَّان الحرب العالمية الثانية، ينسبها البعض لكولونيل وآخرون لصحفي، وهناك مؤلف ينسبها إلى راهب.
ودلالة هذه العبارة واضحة، فكثير من الملحدين يؤمنون بالله في قرارة أنفسهم، وأعماق قلوبهم، ويظهر هذا الإيمان جليًّا في المحن والأزمات والحروب والمواقف الحرجة.
ذكر الدكتور عبدالوهاب المسيري في كتابه " رحلتي الفكرية " أن من أطرف القصص التي رواها له أحد الشيوعيين الفلسطينيين أنهم كانوا في تدريب عسكري، فانهال عليهم الرصاص من كل جانب، فاختبؤوا، وأخذ كل واحد منهم يتلو أدعية دينية، ويطلب العون من الإله[1].
أوقات الشدة تُعلِم الإنسان بحقيقة ضعفه، فينطرح بين يدي مولاه، يشكو له همه، ويبثه ما يعتلج في حنايا صدره؛ قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65].
قيل لجعفر بن محمد: ما الدليل على وجود الله، ولا تذكر لي العالم والعَرَض والجوهر؟ فقال: هل ركبت البحر؟ قال: نعم، قال: وهل عصفت بكم الريح حتى خفتم الغرق؟ قال: نعم، قال: هل انقطع رجاؤك من المركب والملاحين؟ قال: نعم، قال: هل تيقنت في نفسك أن ثَمَّ من ينجيك؟ قال: نعم، قال: فذاك هو الله؛ قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67].
يقول المؤرخ الإغريقي بلوتارك: "من الممكن أن نجد مدنًا بلا أسوار، وبلا ملوك، وبلا ثروة، وبلا آداب، وبلا مسارح، ولكن لم نجد قط مدينة بلا معبد، يمارس فيه الإنسان العبادة".
لذلك فطرة الإنسان السوية التي لم تتدنس بشيء من المؤثرات تدله على وجود الله عز وجل، وإذا تُركت فِطَرُ الناس على حالها، لآمن من في الأرض كلهم؛ {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30].
كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاءَ، فاجتالَتْهم الشياطين عن دينهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا» [2].
ويقول ابن قيم الجوزية رحمه الله: "ففي القلب شعثٌ لا يلُمُّه إلا الإقبال على الله، وعليه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه، ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه طلب شديد لا يقف دون أن يكون هو وحده المطلوب، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته ودوام ذكره والإخلاص له، ولو أُعطِيَ الدنيا وما فيها لم تُسَدَّ تلك الفاقة أبدًا"[3].
ومن أغرب القصص التي مرت عليَّ في عودة الإنسان لفطرته التي خلقه الله عليها، قصة عودة الطبيب لورانس بروان إلى الفطرة؛ يقول بروان: "رُزقت بطفلة تعاني من مشكلة كبيرة في القلب، وهي تضيق برزخ الأبهر (Coarctation of Aorta)، والطفل المصاب بهذا المرض يحتاج إلى عملية جراحية في القلب، ثم بعد عدة سنوات يفتح القلب من جديد، وتُجرى له عملية أخرى وهكذا.
يقول بروان: حين عرفت حالتها شعرت - وللمرة الأولى في حياتي - أنني عاجز عن فعل أي شيء، أخذت الطفلة مباشرة للعناية المركزة، ولون جسمها من الصدر فما دون أزرق؛ لأن جسمها لا يصله الأكسجين، وهذا يعني أنها ربما تموت، عندما رأيت هذا المنظر شعرت أنني - وللمرة الأولى في حياتي - بحاجة إلى القوة العظمى، فقد كنت ملحدًا قبل ذلك، كان عليَّ أن أغادر غرفة العناية المركزة ... وتركت ابنتي مع فريق من الأطباء المتخصصين في مستشفى جامعة جورج واشنطن، توجهت ولأول مرة في حياتي لغرفة العبادة المجاورة، ثم صليت صلاة أهل الإلحاد وقلت فيها: يا رب، إذا كنت موجودًا فأنا أريد مساعدتك، وأعطيت عهدًا لخالقي في ذلك اليوم، وكان ذلك العهد إذا أنقذ حياة ابنتي وهداني للديانة التي يرتضيها، فسأتبع هذا الدين، كل هذا استغرق مني 15 أو 20 دقيقة، وعندما عدت إلى غرفة العناية المركزة رفع الأطباء وجوههم إليَّ، رأيت في وجوههم أن شيئًا ما قد تغير، كانوا لا يدركون ما الذي حدث، كأنهم مصدومون.
وحين أقبلت عليهم قالوا لي: سوف يكون وضعها جيدًا، ولن تموت، وسوف تصبح طفلة طبيعية جدًّا، ولن تحتاج إلى عملية ولا إلى دواء! قال أحدهم: في البداية أظهر إيكو القلب عندها المشكلة العظيمة التي أخبرناك عنها، أما الآن فهي طبيعية جدًّا.
حاول الأطباء أن يشرحوا لي كيف حدث هذا؟! فقلت لهم: هذه الشروحات قد تنفعكم أنتم، ولكنها لا تنفعني أنا، لأنني صليت صلاتي، وأعتقد أن يد خالقي قد تدخلت، تيقنت أن خالقي حقق وعده، وعليَّ أن أُحقق وعدي، وهذا ما جعلني أبحث في الديانات، بدأت باليهودية والنصرانية، وبذلت كل جهدي لسنوات، ولكنني لم أجد الحق في تلك الديانات لوجود التناقضات فيها، واستمررت في بحثي حتى وصلت إلى الإسلام، فوجدت أجوبة لكل أسئلتي، ودخلت الطمأنينة من يومها قلبي، كان ذلك في عام 1994[4].
فكن مع الله يكُنْ الله معك، واعلم أن الخير في قربه، وكل من تظاهر بالسعادة وهو بعيد عن خالقه، فهو تظاهُرٌ مزعوم ولا حقيقة له؛ لأن النفوس لا ترتاح إلا باتباع منهج خالقها ومدبر أمرها ومالكها.
[1] عبدالوهاب المسيري، رحلتي الفكرية، ص140.
[2] رواه مسلم، رقم (2865).
[3] ابن القيم، مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، (3/ 156).
[4] https://www.youtube.com/watch?v=90tozR1Duho&ab