فضائل ومنزلة الصحابة الكرام وما لهم علينا من حقوق والتزام
فهم الذين اختارهم الله تعالى؛ ليكونوا من الجيل الأول لهذه الأمة؛ فنالوا شرف صحبة رسول الله ﷺ أثناء نزول الوحي عليه؛ فإن الله تعالى يختار لرسالاته المحل اللائق بها من قلوب عباده؛ كما قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}.
- التصنيفات: التاريخ الإسلامي -
أيها المسلمون، عباد الله، لمَّا بعث الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بشيرًا ونذيرًا وهاديًا بإذنه وسراجًا منيرًا، فقد بعثه الله تعالى بهذه المهمة الشاقة، وهي دعوة الناس إلى عبادة الله وحده، وترك عبادة ما سواه من الآلهة الباطلة.
• فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم دعوته إلى قومٍ قد تعلقت قلوبهم بما ترك لهم الآباء والأجداد من عبادة الأصنام والأوثان، فتصدى له قومه وعادَوه عداءً شديدًا، وآذَوه أشد الأذى؛ لكي يصدوه عن هذا الدين الجديد، وهذا الإله الجديد.
• فكان يدعو إلى الله تعالى ولا ييأس، فبدأ يدعو دعوته الفردية، ثم فترة الدعوة السرية، ثم الدعوة الجهرية ليستمر ويشتد العداء والأذى.
• وفي ظل هذا الاضطهاد والعداء من صناديد قريش، فقد آمن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوام باعوا الدنيا بالآخرة، وجاهدوا في سبيل الله تعالى بأموالهم وأنفسهم، وتحمَّلوا معه الأذى، وصبروا، وثبتوا على دين الله تعالى؛ فهذا يُعذَّب في حرِّ الرمضاء، وهذا يُصلَب ويُعذَّب بالنار، وما صدهم ذلك عن دين الله تعالى.
• حتى جاء الأمر بالهجرة من مكة إلى المدينة، فهاجروا معه، وتركوا الأهل والديار وتركوا الأموال؛ فيترك صهيب الرومي رضي الله عنه الجاه والغِنى، ويترك ذلك كله للمشركين؛ فرارًا بدينه، ويترك مصعب بن عمير رضي الله عنه أموال أمه وثراءها، ويهاجر ويموت رضي الله عنه يوم بدر، فلا يجد كفنًا، ويترك عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه تجارته وأمواله ويهاجر؛ فرارًا بدينه، فأثنى عليهم ربهم في كتابه العزيز: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8].
• ولما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، آواه أهلها من الأنصار، ونصروه، وعزروه، وآوَوا أصحابه الذين هاجروا معه بالمال والمسكن، بل وآثَرَ بعضهم حتى الزوجات؛ فقال الله تعالى في شأنهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
• ويستمر النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة والجهاد، وبناء الدولة الإسلامية، ويستمر معه الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، فما تخلفوا عن مشهد، ولا تقاعسوا عن واجب، ولا تأخروا عن أمر؛ فجاء الثناء عليهم من السماء قرآنًا يُتلى، بتزكية الله تعالى لهم: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100].
• فكل من تبِعهم، وسار على دربهم، فله حظٌّ من هذه التزكية، بل ووصف حالهم حتى في الكتب السابقة: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ} [الفتح: 29].
• وبعد ثلاث وعشرين سنة من الدعوة والجهاد، توفَّاه الله تعالى، ويشتد الأمر على الصحابة، لكنهم حملوا الراية من بعده، واستمرت مرفوعة خفَّاقة؛ فتحمَّلوا هذه الأمانة؛ لأنهم تخرجوا من هذه الجامعة النبوية، ولأنهم تربَّوا تربية إيمانية على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
• فيتولى الخلافة أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وتُفتح البلاد والأقطار غربًا وشرقًا، وشمالًا وجنوبًا، حتى ما ترك الله تعالى بيتَ مدرٍ ولا وبرٍ، إلا وأدخله الإسلام.
• إنهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما هي مؤهلات الاقتداء بهم، ومحبتهم، ومتابعتهم؟
1- فهم الذين اختارهم الله تعالى؛ ليكونوا من الجيل الأول لهذه الأمة؛ فنالوا شرف صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء نزول الوحي عليه؛ فإن الله تعالى يختار لرسالاته المحل اللائق بها من قلوب عباده؛ كما قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]؛ قال ابن القيم رحمه الله: "فهو أعلم بمن يصلح لتحمُّل رسالته، فيؤديها إلى عباده بالأمانة والنصيحة".
• قال ابن مسعود رضي الله عنه: ((إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه؛ فما رآه المسلمون حسنًا، فهو عند الله حسن، وما رأوه سيئًا، فهو عند الله سيئ)).
2- ومن فضائلهم أنهم هم الذين صحِبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليهم نزل القرآن، وفيهم نزل، فتلقَّوه من فمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم غضًّا طريًّا.
• فهم أعلم الأمة بالقرآن وأسباب نزوله ومُحكَمِه ومتشابهه؛ كما يقول ابن مسعود رضي الله عنه: "والله الذي لا إله غيره، ما أُنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين نزلت، ولا أُنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيم أُنزلت، ولو أعلم أحدًا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لأتيته، ويقول أيضًا: لقد سمعت من فمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعًا وسبعين سورة ليس بيني وبينه ثالث".
3- صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذوا منه صحيح السنة مباشرة دون واسطة؛ فهم أعلم الأمة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشدهم تمسكًا بها.
• وتأمل حينما تسمع أحدهم يقول: "قال رسول الله، أو سمعت رسول الله، أو حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم".
• بل ووصفوا أحواله ونقلوا لنا أدق التفاصيل؛ فدائمًا نسمع قولهم: وكان متكئًا، ثم شبَّك بين أصابعه، وأشار بيده، وضحك حتى بدت نواجذه، وغيرها.
4- صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعاشوا الإسلام أيامه الأولى، التي كان فيها صافيًا، ولم يكدر بثقافات أخرى؛ فإن أنقى إنسان على الإسلام هو من كان على طريق الصحابة.
• عقيدته مثل عقيدتهم.
• وعبادته مثل عبادتهم.
• ومنهجه مثل منهجهم؛ كما قال تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} [البقرة: 137].
ما حقوقهم علينا؟ وكيف نكون على طريقهم ومنهاجهم؟
1- فمن حقوقهم علينا محبتهم وتوقيرهم؛ فإن محبتهم دينٌ نتعبد به إلى الله تعالى؛ فعن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «آية الإيمان حبُّ الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار».
• أي: من علامات الإيمان حب الأنصار، ومن علامات النفاق بغض الأنصار.
• ومن عجيب ما ذكر هو قول الإمام مالك رحمه الله: "كان السلف يُعلِّمون أولادهم حبَّ أبي بكر وعمر، كما يعلمون السورة من القرآن".
• وقال الطحاوي رحمه الله في عقيدته الطحاوية: "ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نفرط في حبِّ أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان".
2- ومن حقوقهم علينا أن ندعوَ لهم، ونترضى عليهم؛ لأن الله تعالى هو الذي رضي عنهم؛ فقد قال الله تعالى في مواضع كثيرة من القرآن: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119]، وقال الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18]، وتحقيقًا لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].
3- ومن حقوقهم علينا إظهار علوِّ منزلتهم ومكانتهم؛ وذلك بذكر محاسنهم وفضائلهم وعدالتهم؛ فهم خير القرون؛ كما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء من بعدهم قوم تسبق شهادتهم أيمانهم، وأيمانهم شهادتهم»، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسبُّوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي؛ فوالذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أُحُدٍ ذهبًا ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه».
4- ومن حقوقهم علينا اتباعهم والاهتداء بهديهم؛ فإن أفضل الإيمان هو ما كانوا عليه، وأفضل العمل هو ما كانوا عليه؛ كما قال الله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} [البقرة: 137]؛ أي: بمثل ما كانوا عليه من الإيمان والعقيدة.
• فإن هذه الآية الكريمة جعلت إيمان الصحابة هو الميزان؛ وبمفهوم المخالفة فإن أي تغيير لمنهجهم وترك ما كانوا عليه، فإنه ضلال وانحراف وشقاق؛ كما قال تعالى: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} [البقرة: 137].
• وقد أثنى الله تعالى على المتبِعين للصحابة والمتمسكين بسنتهم في قوله: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]، وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]؛ قال الضحاك رحمه الله: "مع أبي بكر وعمر وأصحابهما".
• وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم في موعظته البليغة باتباعهم والتمسك بسنتهم، وحذَّر من مخالفتهم؛ كما في حديث العرباض رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة».
• وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن اتباعهم والتمسك بسنتهم هو سبيل النجاة؛ ولذلك لما سُئل عن وصف الناجين من الهلكة ودخول النار؛ قال: «من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي».
نسأل الله العظيم أن يرضى عن الصحابة والتابعين، وعنا معهم أجمعين، وأن يحشرنا معهم في زمرة سيد المرسلين.
ملحوظة:
1- الحديث عن هذا الجيل العظيم من الصحابة لا يمكن استغراقه في هذه السطور أو الـ20 دقيقة، ولكنها إشارات، فلا تسترسل الحديث في الخطبة.
________________________________________________
الكاتب: رمضان صالح العجرمي