الأمانة دستور حياة

والأمانة أصلٌ في جميع العبادات والمعاملات، فالصلاة أمانة، والصيامُ أمانةٌ، والزكاةُ أمانة، والأيمانُ والمواثيق والالتزامات والمواعيد أمانة كذلك، والصحة أمانة، وسمعك وبصرك ولسانك وفؤادك أمانةٌ عندك، وسوف تسأل عنها.

  • التصنيفات: محاسن الأخلاق - أخلاق إسلامية -

إن طمأنينة النفس وراحة الضمير وسعادة الفرد والمجتمع لا تنبع إلا من خلال قيم وأخلاق حميدة، ينبغي أن تُمَارس سلوكًا في الحياة؛ في السراء والضراء، وعند اشتداد الفتن وكثرة المشاكل واحتدام الصراعات، فالأخلاق ثابتة لا تتغيَّر ولا تتبدَّل؛ لأنها فطرة الله التي فطر الناس عليها ودين أمر الله بإقامته، وربطها بالأجر والثواب والخيريَّة والفلاح في الدنيا والآخرة.

 

معاشر المسلمين؛ وإننا على موعد مع خُلُق مِن أخلاق الأنبياءِ والمرسَلين؛ خُلُق عظيم، وفضيلة من فضائل المؤمنين، عظَّم الله أمرَها، ورفع شأنها، وأعلى قَدْرَها، بها تُحفَظ الحقوق، وتُؤدَّى الواجبات، وتُصان الدماء والأموال والأعراض، وبها تُعمر الديار والأوطان، ويُقام الدين، ويُعبَد الله في أرضه، وبها ينال العبد رِضا ربِّه، وثناء الناس له من حوله، لا يستغني عنها الأفراد ولا الدول ولا الشعوب والمجتمعات، يقول الله سبحانه في وَصفِ عبادِه المفلحين المؤمِنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8].

 

أيها المسلمون؛ وقد جاءت الأمانة في القرآن الكريم على ثلاثة أوجه:

أحدها: الفرائض؛ قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال: 27].

الثاني: الوديعة؛ قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58].

الثالث: العِفَّة والصيانة؛ قال تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26].

 

والأمانة أصلٌ في جميع العبادات والمعاملات، فالصلاة أمانة في عنقك، تؤديها في أوقاتها كاملة الشروط والواجبات، والصيامُ أمانةٌ بينك وبين الله، والزكاةُ أمانة والله مُطَّلِعٌ عليك في أدائها كاملةً أو ناقصةً، والأيمانُ والعهود والمواثيق والالتزامات والمواعيد أمانة كذلك، والصحة أمانة، وسمعك وبصرك ولسانك وفؤادك أمانةٌ عندك، وسوف تسأل عنها، قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].

 

وهناك أمانة تتعلَّق بحق الوالدين، وأمانةٌ تتعلَّق بحق الأبناء، وأمانة تتعلَّق بحق الجيران، وأمانة تتعلق بحق التجار، والموظفون مؤتمنون، والمعلمون مؤتمنون، وكُلٌّ في مجاله مؤتمن، والله تبارك وتعالى سائلٌ كلًّا عمَّا ائتمنه عليه، وفي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: «كُلُّكم راعٍ وكُلُّكم مسئولٌ عن رعيَّتِه».

 

وجاء عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من عبدٍ يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاشٌّ لرعيته إلَّا حرَّم اللهُ عليه الجنة»، وفي رواية: (( «فلم يحطها بنصحه، لم يرح رائحة الجنة»؛ (متفق عليه) .

 

أيها المسلمون؛ إن القول العام في الأمانة أنها تشمل الدين، والأعراض، والأموال، والأجسام، والأرواح، والمعارف، والعلوم، والولاية، والوصاية، والشهادة، والقضاء، والكتابة، ونقل الحديث، وكتم الأسرار، والرسالات، والسمع، والبصر، وسائر الحواسِّ.

 

عباد الله؛ إنها الأمانة؛ يقول الله سبحانه وتعالى:  {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72]، ويقول جل وعلا: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283].

 

إنها الأمانة التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم من علامات إيمان العبد بالله، وجعل الخيانة من علامات النفاق، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلمُ مَنْ سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم»؛ (سنن الترمذي، وقال: حسن صحيح)، ويقول صلى الله عليه وسلم: «آيةُ المنافقِ ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعَدَ أخلَفَ، وإذا ائْتُمِنَ خان»؛ (البخاري) .

 

ويقول صلى الله عليه وسلم: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له»؛ (رواه أحمد في مسنده) .

 

إنها الأمانة التي بيَّن المصطفى صلى الله عليه وسلم أن حفظها وأداءها سببٌ من أسباب دخول الجنة؛ فعن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اضمنوا لي سِتًّا من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدُّوا إذا اؤتمنتم، واحفظوا وغضوا أبصاركم وكفوا أيديكم»؛ (حسَّنَه الألباني في صحيح الجامع).

 

وبَيَّن صلى الله عليه وسلم أنها سبب من أسباب نيل محبة الله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَرَّه أن يحبَّه الله ورسوله فليصدُق حديثه إذا حدَّث، وليُؤدِّ أمانته إذا ائتمن»؛ (رواه البيهقي وحسَّنَه الألباني) .

 

إنها الأمانة التي جعلها النبي سِرَّ السعادة في الدنيا والآخرة؛ فقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربعٌ إذا كُنَّ فيك، فلا عليك ما فاتك من الدنيا: صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وحسن الخُلُق، وعِفَّة مطعم»؛ (صحيح الترغيب) .

 

وتأمَّل دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: «اللهُمَّ إني أعوذ بك من الجوع؛ فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة؛ فإنها بئست البطانة».

 

إنها الأمانة التي عُرِف بها النبي صلى الله عليه وسلم، ولُقِّبَ بها قبل البعثة، وقصة وضع الحجر الأسود مشهورة؛ حيث فرح القوم بمقدِمِه صلى الله عليه وسلم وقالوا: هذا الأمين،

 

وفي قصَّة هرقل مع أبي سفيان رضي الله عنه، قال هِرَقل: سألتُك عن ماذا يأمركم- أي: النبي- فزعمتَ أنه يأمُر بالصلاة، والصِّدق، والعفاف، والوفاءِ بالعهد، وأداء الأمانة، وهذه صِفَة نبيٍّ؛ مُتَّفَق عليه.

 

وأمانته صلى الله عليه وسلم كانت سببًا في زواجه من أُمِّ المؤمنين خديجة رضي الله عنها؛ بل إن الله جل وعلا وصف بها جبريل عليه السلام: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء: 193]، وقال سبحانه: {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 21].

 

أمَّا أمانته بعد البعثة: فقد أدَّى الرَّسول صلى الله عليه وسلم الأمَانَة الكبرى - التي تكفَّل بها وهي الرِّسالة- أعظم ما يكون الأداء، وتحمَّل في سبيلها أعظم أنواع المشقَّة.

 

إنها الأمانة، فبها يعلو شأن الإنسان، فقد رفع بها النبي صلى الله عليه وسلم شأنَ أبي عبيدة رضي الله عنه، فلَمَّا أتى صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالا: ((ابْعَثْ مَعَنَا رَجُلًا أَمِينًا، ولا تَبْعَثْ مَعَنَا إلا أَمِينًا، فقالَ: «لأَبْعَثَنَّ مَعَكُمْ رَجُلًا أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ»، فَاسْتَشْرَفَ لَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقالَ: «قُمْ يا أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الجَرَّاحِ»، فَلَمَّا قَامَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((‌ «هَذا ‌أَمِينُ ‌هذهِ ‌الأُمَّةِ»؛ (رواه البخاري) ، وقال: «إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا، وَإِنَّ أَمِينَنَا أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ»؛ (رواه البخاري) .

 

ومن وصايا النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع أنه قال: «ألا ومن كانت عنده أمانة فليُؤدِّها إلى من ائتمنه عليها» وبسط يده، فقال: «ألا هل بلغت؟ ألا هل بلغت؟ ألا هل بلغت» ؟))، ثم قال: «ليبلغ الشاهد الغائب؛ فإنه رُبَّ مبلغ أسعد من سامع»؛ (رواه أحمد وأبو داود).

 

ومن عظمها أنها تؤدَّى للبرِّ والفاجر: قال ميمون بن مهران: ((ثلاثة يؤدين إلى البرِّ والفاجر: الأمانة، والعهد، وصِلة الرحم))؛ ولذلك ترك النبي صلى الله عليه وسلم عليًّا في فراشه ليلة الهجرة المباركة لأداء الأمانات، ورد الودائع إلى أهلها، برغم ما فعلوه معه ومع أصحابه الكِرام من اضطهاد وإيذاء؛ ولكن أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يُعلِّمنا أنَّ قِيَم الإسلام ثابتة لا تتجزَّأ ولا تتغيَّر.

 

إنها الأمانة التي جعلت الملك يقول ليوسف عليه السلام: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54]، وجعلت إحدى المرأتين تقول عن موسى عليه السلام: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26].

وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: "أصدق الصدق الأمانة، وأكذب الكذب الخيانة"، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لا تغرُّني صلاة امرئ ولا صومه، مَن شاء صام، ومَن شاء صلَّى، لا دين لمن لا أمانة له"؛ (مكارم الأخلاق للخرائطي).

 

وقال الإمام الصادق رضي الله عنه: "لا تَنظُروا إلى طُولِ رُكُوعِ الرَّجُلِ وَسُجُودِهِ؛ فَإنَّ ذَلِكَ شَيءٌ اعتَادَهُ فَلَو تَرَكَهُ استَوحَشَ لِذلِكَ؛ وَلَكِنْ انظُرُوا إلى صِدْقِ حَدِيثِهِ وَأَداءِ أَمانَتِهِ".

 

والهدف من هذا التعبير ليس تقليلًا من شأن الصلاة والركوع والسجود والخشوع؛ بل الهدف هو أنَّ هذه الأمور ليست هي العلامة الوحيدة لإيمان الفرد؛ بل هناك ركنان أساسيَّان لدين الشخص: الصدق والأمانة اللذان هما ثمرة العبادات والطاعات.

 

أُمَّة الإسلام، ومِن الأمانةِ العظيمةِ على كلِّ مسلم في هذه الأرض حملُ هذا الدينِ، وإبراز محاسنِه العِظام وفضائِله الجسام، وإفهامُ العالم كلِّه بالعِلم والعمَل بالسلوك والمظهر أنَّ هذا الدينَ خيرٌ ورحمةٌ عامَّة للبشرية، وصلاحٌ للعالَم يحمِل السعادة والسَّلام والفوزَ والنجاة؛ فمن أراد الفلاح والفوز والنجاح، فعليه أن يتسلَّح بهذا السلاح، إنه سلاح الأمانة.

 

ومن اشتاق لمرافقة الرسل والأنبياء في الدرجات العُلا، فليتخلَّق بخلقهم، إنه خُلُق الأمانة.

 

ومن أراد أن يكون من أولياء الله الصالحين، فليتَّصِف بصفاتهم، ومن صفاتهم الأمانة.

 

أيُّها الأحِبَّة الكِرام، وقد كانت الأمانة سلوكَ أُمَّةٍ، وشعارَ مجتمعٍ، ودستورَ حياةٍ، وتأمَّل كيف كانت الأمانة دستورًا في حياة السابقين، فعندما فُتِحت فارس، وسقط مُلْك الأكاسِرة أرسل القائد الفاتح نفائس الإيوان إلى المدينة المنوَّرة، كانت أكوامًا من الذهب والجواهر في حقائب بعضها فوق بعض، حملت من المدائن إلى دار الخلافة، لم تنقص ذرَّة خلال آلاف الأميال.

 

قال ابن جرير: لما قدم بسيف كسرى مع بقية الكنوز، قال عمر: "إن أقوامًا أدَّوا هذا لذوو أمانة" فقال له علي بن أبي طالب: "إنك عففت يا أمير المؤمنين فعفَّت الرعية" أرأيتم أحبتي، قوم ممزقة ثيابهم، مكسرة رماحهم، بهم من الظمأ والمجاعة ما الله به عليم، فدفعوا الأموال لـعمر، فلما رآها بكى، وقال: والله الذي لا إله إلا هو إن قومًا دفعوها إليَّ لأمناء.

 

ويذكُر التاريخ أنَّ القائدَ المسلم صلاح الدِّين الأيوبيَّ رحمه الله كان من أكثر ملوك عصرِه توفيقًا في الفتوح والنَّصر، وكان نصيبُه من الغنائم كبيرًا جدًّا، وَقَفَه كلَّه مدارسَ ومستشفياتٍ ومساجد، ممَّا لا يزال بعض آثاره باقيًا حتَّى اليوم، ولم يتركْ لنفسه ولأولادِه شيئًا من ذلك، حتَّى قالوا: إنَّه حين مات، مات وهو من أفقرِ النَّاس رحمه الله، وهذه هي أمانةُ القائد الذي يأبَى أن يتاجر بجهاده، ويرضى بالله وجنَّتِه وثوابه بديلًا.

 

إنها الأمانة، فبينما كان الرجل يسير بجانب البستان وجد تفاحةً ملقاةً على الأرض، فتناول التفاحة وأكلها، ثم حدَّثَتْه نفسُه بأنه أتى على شيء ليس من حقِّه؛ فأخذ يلوم نفسه وقرَّر أن يرى صاحب هذا البستان فإمَّا أن يُسامحه أو أن يدفع له ثمنها، وذهب الرجل لصاحب البستان وحدَّثَه بالأمر فاندهش صاحب البستان لأمانة الرجل، وقال له: ما اسمك؟ قال له: ثابت، قال له: لن أسامحك في هذه التفاحة إلا بشرط؛ أن تتزوَّج ابنتي، واعلم أنها خرساء عمياء صماء مشلولة؛ إما أن تتزوَّجَها، وإمَّا لن أسامحك في هذه التفاحة، فوجد ثابت نفسه مضطرًّا؛ يوازي بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فوجد نفسه يوافق على هذه الصفقة، وحين حانت اللحظة التقى ثابت بتلك العروس، وإذ بها آية في الجمال والعلم والتقى؛ فاستغرب كثيرًا لماذا وصفها أبوها بأنها صماء مشلولة خرساء عمياء؟! فلما سألها قالت: أنا عمياء عن رؤية الحرام، خرساء صماء عن قول وسماع ما يغضب الله، ومشلولة عن السير في طريق الحرام، وتزوَّج ثابت هذا تلك المرأة، وكان ثمرةُ هذا الزواج الإمامَ أبا حنيفة النعمان بن ثابت، فنشأ أبو حنيفة رضي الله عنه وتربَّى على الأمانة، فيوم أن جاءت امرأة إلى أبي حنيفة تبيع له قطعة من قماش فقال لها: كم ثمنها؟ قالت: مائة درهم، فقال: كلا إنها تساوي أكثر من ذلك، فقالت المرأة: أتهزأ بي، قال: لا، فأحضَرَ رجلًا آخر يُسعِّرها فقال: إنها تساوي خمسمائة درهم، عجبًا المشتري هو من يزيد في ثمن السلعة؟! لماذا؟! إنها الأمانة.

 

وكان لأبي حنيفة -يرحمه الله- شريك في التجارة، يقال له بِشْر، فخرج بِشر في تجارته بمصر، فبعث إليه أبو حنيفة سبعين ثوبًا من ثياب خَزٍّ، فكتب إليه: إن في الثياب ثوبَ خَزٍّ معيبًا بعلامة كذا، فإذا بِعْتَه فبيِّن للمشتري العيب، قال: فباع بِشْر الثياب كلها، ورجع إلى الكوفة، فقال أبو حنيفة: هل بيَّنت ذلك العيب الذي في الثوب الخزِّ؟ فقال بِشْر: نسيت ذلك العيب، فقال: فتصدَّق أبو حنيفة بجميع ما أصابه من تلك التجارة، الأصل والفرع جميعًا، قال: وكان نصيبه من ذلك ألف درهم، وقال: مالٌ قد دخلَتْ فيه الشُّبْهة، فلا حاجة لي به.

 

إنها الأمانة التي جعلت العالم ابن عقيل كذلك- وهو طالب علم- يُفضِّل الجوع ويصبر رغم أنه وجد كنزًا ثمينًا ضاع من صاحبه، يقول عن نفسه: حججت عامًا فالتقطت عقد لؤلؤ في خيط أحمر، فإذا شيخ ينشده، ويبذل لمن وجده مائة دينار، فرددته عليه، فقال: خذ الدنانير، فامتنعت وخرجت إلى الشام، وزرت القدس، وقصدت بغداد، ثم وصلت إلى حلب وبِتُّ في مسجد وأنا بردان جائع، فقدَّموني، صليت بهم، فأطعموني، وكان أول رمضان، فقالوا: إمامنا تُوفِّي فصلِّ بنا هذا الشهر، ففعلت، فقالوا: لإمامنا بنت فزوَّجوني بها، فأقمت معها سنة، وولدت ولدًا بكرًا، فمرضت في نفاسها، فتأملتُها يومًا فإذا في عنقها العقد بعينه بخيطه الأحمر، فقلت لها: من أين لك هذا العقد؟ فقالت: إنَّ أباها كان له مال وفير وقد اشترى هذا العقد عندما ذهب إلى الحج وضاع هناك فوجده شاب وأبى أن يأخذ مكافأته من أبي؛ قال: فحكيت لها، فبكت وقالت: أنت هو والله، لقد كان أبي يبكي، ويقول: اللهم ارزق ابنتي مثل الذي رد العقد عليَّ وقد استجاب الله منه.

 

إنها الأمانة التي جعلت ابن المبارك العالم الجليل يعود من مَرْو في خراسان إلى الشام ليرد قلمًا استعاره من صاحبه، ومكث في هذه الرحلة شهرًا كاملًا؛ ذلك أنه بأداء الأمانة يأمن الناس بعضهم بعضًا، وتتيسَّر أمورُهم في قضاء حوائجهم وإنجاز معاملاتهم، وتحفظ حقوقهم، وتُصان الأموال والأعراض، وينتشر الخير ويدوم المعروف، قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} [البقرة: 283] أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.

 

أيُّها الكرماء الأجِلَّاء عباد الله، فإن الأمانة هي القيام بالواجبات، وأداء الحقوق، وإتقان الأعمال، وحفظ الودائع، وهي شاملة لجميع مجالات حياة الفرد تجاه نفسه ودينه، وأسرته ووظيفته، ومجتمعه ووطنه، فهي الرابطة بين الناس في أداء الحقوق والواجبات، ولا فرق بين حاكم وموظف وصانع وتاجر وزارع، ولا بين غني وفقير وكبير وصغير، فهي شرف الغني، وفخر الفقير، وواجب الموظف، ورأس مال التاجر، وسبب شهرة الصانع، وسِرُّ نجاح العامل والزارع، ومفتاح كل تَقَدُّم بإذن الله، ومصدر كل سعادة ونجاح بفضل الله، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ خائن الأمانة سوف يُعذَّب بسببها في النار، وتكون عليه خزيًا وندامة يوم القيامة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة»؛ (رواه البخاري).

 

فالمؤمن الحق من اؤتمن على مال فحفِظَه، أو على سرٍّ فكتَمَه، أو على عِرْضٍ فصانه، أو على حقٍّ فوفَّاه، المؤمن الحقُّ من يَرعى أمانةَ ربِّه، فلا يُهمل أمرَه، ولا يرتكب نهيه، ولا يُغيِّر قولَه، ولا يُبدِّل شرعَه، ولا شَكَّ أن مَن هذه صفته فهو عن نفسه راضٍ، والناس عنه راضون، والله تعالى يشمله برحمته وإحسانه؛ فإنه لا يضيع أجرَ المحسنين.

 

ولقد أصبحنا اليوم ومع الأسف الشديد نبحث عن التاجر الأمين، والعامل الأمين، والطبيب صاحب الأمانة، والبائع الذي يتعامل بالأمانة، والموظف والمعلم والمقاول، والضابط والصيدلي والمهندس، وغير ذلك فلا نجد إلا القليل؛ فالأمانة أصبحت عُمْلةً نادرةً بسبب الغفلة عن الآخرة، وحب الدنيا والبُعْد عن الدين وتعاليمه، وعدم إدراك خطورة ضياع الأمانة في حياة الناس، وإن مجتمعًا يفقد هذه الصفة الشريفة لهو من أفسد المجتمعات، ويكون ذلك في آخر الزمان؛ إذ إن الأمانة موجودة في الناس عن طريق الفطرة والوحي، ثم تقبض منهم لسوء أفعالهم، فتزول الأمانة من القلوب شيئًا فشيئًا، فإذا زال أول جزء منها زال نورُه وخلَفَه ظُلْمةٌ، ثم إذا زال الجزء الثاني خَلَفَه ظُلْمةٌ أشد من الظلمة التي قبلها، ويصبح الأمين بعد ذلك غريبًا في الناس، حتى يمدح من لا خير فيه ولا إيمان، وقد حذَّر النبي من زمن تُقلَب فيه الحقائق وتُزوَّر الوقائع، وتُغيَّر العناوين، فقال: «سيأتي على الناس سنوات خدَّاعات يُصدَّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويُخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة»، قيل: وما الرويبضة؟ قال: «الرجل التافه يتكلَّم في أمر العامة»؛ (أخرجه ابن ماجه في سننه، وصحَّحه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه).

 

وكلَّما انتُقصت الأمانة نقصت شعبُ الإيمان؛ لما روى مسلم من حديث حذيفة رضي الله عنه، قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأمانةَ نزلت في جذر قلوبِ الرجال أي: في وسطها، ثم نزلَ القرآن، فعلموا من القرآن، وعلموا من السنَّة، ثم حدثنا عن رفع الأمانة فقال: «ينام الرجل النومةَ، فتُقبَض الأمانة من قلبه، فيظلَّ أثرُها مثل الوَكْتِ، ثم ينام الرجل، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرُها مثل أثر المجْل، كجمر دحرجته على رجلك، فَنفَط فتراه مُنْتَبرًا وليس فيه شيءٌ»، ثم أخذَ حصاةً فدحرجها على رجله، «فيصبح الناس يتبايَعون، لا يكاد أحدٌ يؤدِّي الأمانة، حتى يقال: إنَّ في بني فلان رجلًا أمينًا، وحتى يقال للرَّجل: ما أظرفَه! ما أعقله! وما في قلبه مثقالُ حَبَّةٍ من خَرْدَلٍ من إيمانٍ».

 

وإنَّ من بين السلبيات التي تجعل حضارة المجتمع في تراجُع "الخيانة في العمل وعدم الوفاء بأمانة العمل" إمَّا عن طريق أن يُوسَّد العمل إلى غير أهله، وإمَّا بإهدار المال العام، وكلاهما أبشع أنواع الخطر على تقدُّم المجتمع وحضارته.

 

أما توسيد العمل إلى غير أهله فيترتب عليه خلخلة المؤسسة أو الإدارة، وعدم استقرارها وثباتها، وفي التأكيد على المحافظة على الاستقرار كان توجيه الإسلام واضحًا في بيان أن الأمر إذا وُسِّد إلى غير أهله فلننتظر الساعة؛ كناية عن انتهاء الحياة والاستقرار.

 

وعندما سُئِل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الساعة، وقال له رجل: متى الساعة؟ قال: «إذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة»، فقال: وكيف إضاعتها؟ قال: «إذا وسِّدَ الأمر لغير أهله، فانتظر الساعة»؛ (البخاري).

 

وأمَّا إهدار المال العام فإنه يتمثَّل في صور كثيرة من سوء استخدام صلاحيات البعض، ومن عدم مراقبة الله تعالى فيما يعمل وفيما يأخذ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من استعملناه على عمل فرزقناه رزقًا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول»؛ (رواه أبو داود).

 

ولقد سمَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم الوظائف أمانات، ونصح الضعفاء عن طلبها والتعرُّض لها، فقد سأله أبو ذَرٍّ رضي الله عنه أن يستعمِلَه فضرب بيده على منكبه، وقال: «يا أبا ذَرٍّ! إنك ضعيف وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزيٌ وندامة، إلَّا من أخذها بحقِّها وأدَّى الذي عليه فيها»؛ (رواه مسلم).

 

فاتقوا الله تعالى وأدُّوا الأمانة التي حملتموها وتحملتم مسؤوليتها، أدُّوا الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبيْنَ أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولًا، أدُّوا الأمانة فإنكم عنها مسؤولون، وعلى حسب القيام بها والتفريط بها محاسبون، فإمَّا مغتبطون بأدائها مسرورون، وإمَّا نادمون في إضاعتها خاسرون، أدُّوا الأمانة فيما بينكم وبين الله، وأدُّوها فيما بينكم وبين عباد الله.

 

عباد الله؛ لنبحث عن الأمانة التي فقدناها، ونزُكِّي بها أنفسنا، ونُؤدِّيها كما أمرنا دينُنا ونحييها في قلوبنا وسلوكياتنا، ونُربِّي عليها أبناءنا، وننصح بها بعضنا، ولنحذر من الخيانة يقول الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27]، وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد: 11]، فاللهُمَّ اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، وأقم الصلاة.

____________________________________________

الكاتب: الشيخ محمد عبدالتواب سويدان