تغريب التعليم.. خط الهجوم الأول ضد الإسلام (2/3)

اللغة العربية لغة الوحي والتشريع الإسلامي، ويعد استهدافها استهدافًا للإسلام، ولقد عمد الاستعمار ـ إلى عدة محاولات تستهدف اللغة العربية؛ لقتلها والقضاء عليها، ومن ثم يسهل القضاء على الهوية الإسلامية والعربية في نفوس المسلمين.

  • التصنيفات: قضايا إسلامية -

اللغة العربية.. والهجمة على القرآن:
اللغة العربية لغة الوحي والتشريع الإسلامي، ويعد استهدافها استهدافًا للإسلام في حد ذاته، ولقد عمد الاستعمار ـ أثناء محاولاته لتقويض دور الأزهر وهدم أركانه ـ إلى عدة محاولات تستهدف اللغة العربية؛ لقتلها والقضاء عليها، ومن ثم يسهل القضاء على الهوية الإسلامية والعربية في نفوس المسلمين.

ففي عهد دنلوب كان الراتب الذي يتقاضاه مدرسو جميع المواد من أرباب المؤهلات العليا: اثني عشر جنيهاً، في حين أن مدرس اللغة العربية كانت لا يتحصل سوى على أربعة جنيهات شهرياً، فكانت حياته بين العوز والفاقة والتردد على الأبواب.

وهكذا كانت تتشكل نظرة مدرس اللغة العربية إلى نفسه في المجتمع، فهو أقل الناس شأناً فيه، إلى الحد الذي يصل إلى أن فرّاش المدرسة التي يعمل بها المدرس قد يكون أعلى راتباً منه إذا كان ذا أقدميه في العمل بعض الشيء.

ونظراً لذلك لم تعد لمدرس اللغة العربية كلمة مسموعة في مدرسته، فلا يستشار في شؤونها، ولا يشارك في أي قرار من القرارات التي تصدرها الإدارة، بالإضافة إلى ما كان يفرضه ذلك الراتب عليه من سوء المنظر وكآبة الهيئةّ! وما كان يلبسه من الثياب الرثة البالية التي لم تكن تكفل له أي احترام بين الطلاب، في الوقت الذي يتمتع فيه مدرس اللغة الإنجليزية ـ والذي يكون في الغالب إنجليزياً ـ برائحة عطرة و زي منمق، وربطة عنق أنيقة تفرض عليه احترام الناس، فضلاً عن حياته المعيشية المرفهة التي لا يتكفف فيها الناس، بل يفيض من راتبه شهرياً؛ ليكون فيما بعد من أرباب الأملاك.

وهكذا ينحدر وضع مدرس اللغة العربية في المجتمع، بقدر ما ينحدر راتبه، ويصبح مادة دائمة للسخرية والتندر، يتحدث الناس عن جهله، وتخلفه، وضيق أفقه، وفقره، وانحطاط مستواه الاجتماعي والفكري. وأشد ما يعاب عليه، ويُزدرى من أجله، أنه لا يعرف لغة أجنبية.


وقد ساعدت الأفلام السينمائية التي أنتجت في هذه الفترة في ترسيخ هذه الصورة في أذهان الناس إلى حد بعيد، حتى صارت السخرية من هيئته وشكله وطريقة نطقه لحروف اللغة العربية أو الأجنبية نمطًا من أنماط شخصيته، لم تكتف أفلام تلك الفترة بالسخرية من المدرس فقط؛ بل ومن مفردات اللغة نفسها، حتى صار التحدث باللغة الفصحى: من أساليب الضحك والفكاهة داخل المجتمع، تزامن ذلك مع موجة الدعوة إلى العامية التي دعا إليها بعض المتغربين الذين تم تلميعهم من أمثال \"سلامة موسى\" و\"لويس عوض\".


وحين يصبح مدرس اللغة العربية في هذا الوضع المهين الذي لا يبعث على الاحترام، فإن وضعه يؤثر حتماً على المادة التي يدرسها.. وقد كان هذا هو الهدف المقصود من وراء ذلك التدبير الخبيث؛ حيث صارت اللغة العربية موضع الازدراء والتحقير والنفور؛ فالطلاب يشكون من صعوبتها وقد ظلوا يعايشونها ثلاثة عشر قرناً قبل ذلك بلا شكوى.

وبدأت اللغة الإنجليزية في الانتشار في المجتمع نطقًا وكتابة، فكُتبت واجهات المحال التجارية الكبرى والمؤسسات الاقتصادية باللغة الإنجليزية، واستُخدمت الإنجليزية في تعلم الآداب والفنون، فصارت أسماءٌ كـ\"امرئ القيس والبحتري وأبي تمام\" أسماءً ممجوجة ينفر منها القارئ والمثقف، ويعدها مثالاً على الرجعية والتخلف، بينما أمثال شكسبير ودانتى و ودزورث وبايرون وأندريه جيد وفيكتور هوجو من الأدباء الإنجليز والغربيين: هي التي تتردد على ألسنة المثقفين؛ للتدليل على أنهم مثقفون حتى وإن لم يكن لهم بها علم إلا من خلال ترديد أسمائهم.


هذا بالإضافة إلى ما أسند إلى درس اللغة العربية من قضايا لا تكاد تلامس الواقع الذي يعيشه أبناؤها، حيث كان درس النصوص مثلاً ـ ولا يزال ـ من أصعب الدروس التي يحتويها كتاب اللغة العربية، فلا الطلاب استفادوا منه بالقدر الكافي لغةً وذوقًا ورفعًا لمستواهم اللغوي، ولا هم أحبوه فارتبطوا باللغة العربية التي يدرسونها من أجله.

التربية الإسلامية:
ما قيل عن اللغة العربية يكاد ينطبق انطباقًا كليًّا على درس التربية الدينية الإسلامية، بل إن حاله أسوأ من ذلك بكثير، فبالإضافة إلى كل ما قيل عن مدرس اللغة العربية فإن مدرس التربية الإسلامية يزيد على ذلك بأن تدريس المادة يوكل إلى أكبر المعلمين سنًّا، والذي قد يكون مريضًا في الغالب، حيث هو مصاب بالهزال، منحني الظهر، يكثر سعالُه بين الحين والآخر، بالإضافة إلى هيئته الرثة وثيابه القديمة البالية التي فرضها عليه مستواه الاقتصادي.


وتسند إليه مهمة تدريس التربية الإسلامية بحجة إراحته من هم التصحيح وحمل دفاتر التلاميذ إلى البيت بسبب كبر سنه. بالإضافة إلى العمد بحصة التربية الإسلامية إلى أن تكون في نهاية اليوم الدراسي؛ بسبب قلة الاهتمام بها، حيث تكون في الغالب السابعة يوم السبت أو الخامسة يوم الخميس أو السادسة في بقية الأيام، فبعد أن تنتهي طاقة التلاميذ طوال اليوم في تعلم بقية العلوم ـ والتي منها الفسحة والألعاب والموسيقى ـ يأتي درس الدين وهم منهكون متعبون وقد خارت قواهم، فيأتي درس التربية الإسلامية تحصيل حاصل، مجرد أداء من المعلم صاحب الهيئة المنفّرة التي لا يطيق التلاميذ النظر إليه، فيستمعون الدرس وأجفانهم نصف مغلقة وعقولهم شبه نائمة.


وقد وصل حال هذه المادة في الوقت الحاضر إلى أن صارت مجرد نصائح وتعاليم يسقطها المعلم ـ أي معلم ـ في عقول التلاميذ، ولا يشترط في تدريس هذه المادة أن يكون المعلم متخصصاً، بل يقوم معلم اللغة العربية ـ أو غيره ـ بهذا الدور مكتفياً بما درسه في كلية الآداب أو التربية من جرعات قليلة عن هذا المادة، بعيدًا عن سلوكه الشخصي الذي قد يكون مغايراً تماماً لما يقوم بتدريسه.


ويذكر أحد أولياء الأمور في هذا الشأن أن فصل ولده في الثانوية العامة ظل بلا مدرس لمادة التربية الإسلامية طيلة الفصل الأول إلى أن قربت امتحانات نصف العام، فما كان من إدارة المدرسة إلا أن أوكلت المهمة إلى أحد مدرسي التاريخ ممن لهم ميول صوفية إلى تدريس هذه المادة، وعند شرحه لأحد الدروس التي كانت تتناول قضية التدخين وأثرها السلبي على المجتمع لم تكن السيجارة تفارق يده!!


هذا فضلاً عن أن هذه المادة لا تعد مادة التربية الإسلامية مادة للرسوب والنجاح في أي مرحلة من مراحل التعليم الثلاثة، بل لا تضاف درجاتها إلى المجموع، في الوقت الذي تعد مادة كالرسم مثلاً مادة معتبرة في الرسوب والنجاح، وتضاف درجاتها إلى مجموع الدرجات الكلي للطالب! من أجل ذلك انتشر في الأيام الأخيرة تلقي الدروس الخصوصية في مادتي الرسم والموسيقى في الوقت الذي لم يُسمع أبدًا بدرس خصوصي في مادة التربية الإسلامية لأنها مادة مهمَلة.

وفي المرحلة الجامعية فإن الأمر أسوأ من ذلك؛ حيث لا وجود للتربية الإسلامية أو أي من مواضيعها أو أطروحاتها في أي كلية إلا الكليات الدينية المتخصصة، مثل كليات جامعة الأزهر، وجرعات مخفضة في بعض الأقسام من كليات الآداب والتربية، أما بقية الكليات فتنتهي صلة طلابها بدرس الدين في المرحلة الثانوية!
وهذا لا شك له وقع كبير في انتشار العلاقات المحرمة بين الطلبة والطالبات في الجامعات والتي تشكو منها مصر؛ حيث بلغت مثلاً حالات الزواج العرفي داخل الجامعات مبلغًا خطيراً؛ حيث كشفت إحصائية نشرت في العام 2007 م عن وزارة التضامن الاجتماعي أن عدد حالات الزواج العرفي التي أمكن حصرها بين الطلاب والطالبات في مختلف الجامعات المصرية بلغت نحو 130 ألف حالة.


وأفادت الإحصائية أن أكثر من 255 ألف طالب وطالبة في مصر متزوجون عرفيًا يشكلون نسبة تصل إلى 17% من إجمالي طلبة الجامعات والبالغ عددهم 5.1 ملايين طالب.


وقد نتج عن هذه الزيجات ـ وفقًا للإحصائية ـ نحو 14 ألف طفل من \"مجهولي النسب\" يشكلون قنبلة موقوتة قد تنفجر في أي لحظة، مسببة مشكلات لا حل لها في غياب الوازع الديني.

كانت هذه هي صورة درس التربية الإسلامية في مدارس دنلوب والمدارس الحديثة، وعلى العكس من ذلك كان درس الدين في المدارس المسيحية التنصيرية؛ حيث كان مختلفًا تمام الاختلاف عن تلك الصورة المزرية المنفّرة؛ حيث يقام في الصباح الباكر، والتلاميذ قادمون بنشاطهم كله، ويقوم بتدريسه أكثر المدرسين والمدرسات شبابًا وأحبهم إلى قلوب التلاميذ!

ولا يقام في فصل الدراسة حتى لا تكون له رتابة الدروس اليومية العادية، إنما يقام في كنيسة المدرسة! ويقام في وسط الأناشيد التي تتجاوب بها حناجر التلاميذ وقلوبهم، فيقترن درس الدين في نفوسهم بالفرحة والبهجة والنشاط والحركة والاستبشار بالحياة! والعجيب في الأمر أن هذه المدارس كانت تحظى بانتظام بعض الطلاب المسلمين بها على الرغم من إعلانها أنها مدارس مسيحية تنصيرية!!



تغريب المعلم.. خطوة لتغريب التعليم:
كانت مدرسة المعلمين العليا التي يتخرج فيها المعلمون بمدارس دنلوب، تكمل الضلع الناقص في منظومة التغريب التي انتهجها الاحتلال في مصر؛ لتكون أسوة بعد ذلك لبقية العالم الإسلامي، كيف لا وهي بلد الأزهر الشريف؟! وقبلة المتعلمين والدارسين من جميع أنحاء العالم؟! من أجل ذلك كانت هذه المدرسة هي معمل التفريخ الذي أنجب المعلمين الذين يغذون المخطط بأكمله.


كان طلاب المدرسة يختارون بادئ ذي بدء من بين خريجي المدارس الثانوية الذين حقنوا بالسم الخبيث على جرعتين متواليتين طويلتين، إحداهما في أثناء التعليم الابتدائي، والثانية في أثناء التعليم الثانوي أي خلال تسع سنوات متواليات.


والثانية: وكانوا يختارون على أسس معينة وضعها وينفذها مدير المدرسة ومعلموها وكلهم من الإنجليز! ولنا أن تتوقع نوع \"العينة\" المطلوبة! ونوع \"المؤهلات\" المطلوبة! وبطبيعة الحال لن تكون الاستقامة على الإسلام، ولا التقوى والصلاح من بين تلك المؤهلات! وأياً كانت نوعية الداخل ووقت دخوله، فالخارج \"مضمون\"! والنتيجة مضمونة.



كان الأساتذة الإنجليز لا يدخلون على طلابهم في الحقيقة بوصفهم أساتذة فحسب، بل بوصفهم قوة الاحتلال القاهرة التي جاءت لتقهر نفوس هؤلاء الطلاب وتشعرهم بالضآلة والدونية إزار \"الرجل الأبيض\" العظيم الذي وضعته العناية الإلهية على رأس هذه البلاد، وهذا هو المعنى الظاهر الذي كان يتعمد أولئك \"الأساتذة\" إظهاره. أما المعنى الخفي ـ وهو القهر الصليبي للمسلمين ـ فهذا لم يكونوا يصرحون به، ولكنه ينبث واضحاً في كل مناسبة وفي كل توجيه.



كانت الرسالة الكبرى التي كلف المدرسون الإنجليز ببثها في نفوس الطلبة ـ معلمي المستقبل ـ أن ما بكم من تخلف سببه الإسلام! الدين كله يسبب التخلف، ولكن الإسلام بصفة خاصة يعمل على التخلف أكثر من أي دين!! ستظلون متأخرين ما بقيتم متمسكين بالإسلام! لن تتقدموا إلا إذا تخلصتم من عقلية القرون الوسطى التي كانت تعتبر الدين أساس الحياة!

لقد عمق هؤلاء المدرسون الإنجليز في عقول الطلبة فكرة أن أوروبا كانت في العصور الوسطى المظلمة خاضعة لسلطان الدين، فكانت جاهلة متأخرة جامدة، وحين نبذت الدين تقدمت وتحضرت وتعلمت وأوتيت كل وسائل القوة والتمكن، كان الدين حاجزاً عن العلم لأنه مجموعة من الخرافات، وحاجزاً عن العمل والنشاط والإنتاج لأنه ينظر إلى الآخرة، ويهمل الدنيا، لذلك كان لابد من تحطيمه للقضاء على الخرافة.

لقد كانت هذه المحاولات هي أقسى محاولات العلمنة والغزو الفكري في المجتمع المصري آنذاك، فما كان الطلاب يومئذ يملكون الرد على تحدي المعلم الأبيض، وما كانوا يملكون في هزيمتهم الداخلية المبهورة بما عند الغرب، ورهبتهم من الاحتلال العسكري الجاثم على أرضهم، ما كانوا ي يملكون المعرفة التي يردون بها على التحدي، فهم بعدُ لا يزالون تلاميذ قليلي الخبرة، قليلي العلم مخترقين داخلياً وخارجياً، يقفون إزاء هذا العملاق الذي عملقته صورته المبهرة ولسانه الحاد وفكره المتيقظ.

فإذا انتهت سنوات الدراسة الأربع في مثل هذا الجو وهذا التوجيه، فقد ضمن الخواجات أن \"فراخهم\" التي أنتجوها في \"معمل التفريخ\"، والتي ستخرج لتتولى تربية جيل جديد من النشء، ستقوم بالدور المطلوب تلقائيًا بغير حاجة إلى توجيه جديد، فقد انطبعت نفوسها بما يراد طبعها به، وصارت \"تتقيأ\" تلقائياً ما سكب في كيانها من السم، لتطعمه فراخاً جديدة صغيرة السن، لا تدرك شيئاً مما حولها، بل تلتقط كل ما يوضع أمامها بلا تمييز ولا قدرة على التمييز!

وإن كان الأمر قد استصعب على الجيل الأول في مثل هذه المدارس، فقد كان أيسر بكثير على المعلمين الإنجليز في مدرسة المعلمين فيما بعد، حيث يصعد لهم الشاب بعد أن تشرب هذه الجرعات المسمومة في مراحله الأولى الابتدائية والإعدادية فيأتي إليهم وقد استعد للتلقي والقيام بدوره في المنظومة المحكمة... وهكذا دواليك، حلقة محكمة الغلق، وتخطيط خبيث، لا يستهدف جيلاً واحداً بالإفساد فحسب، بل يرنو إلى الأجيال المتعاقبة؛ ليضمن سريان السم في جسدها، لكيلا يخرج جيل يفكر في العودة إلى الإسلام.


ولا تزال حتى وقتنا الحالي تعاني الكليات التي تُعنى بإعداد المعلمين في مصر من المناهج الغربية في التربية، والتي يتلقنها المعلم دون النظر إلى طبيعة المجتمع الذي تطبق فيه مثل هذه المناهج، مع إهمال تراثنا التربوي القرآني والنبوي الغزير في التربية والتعليم، في الوقت الذي يُستبعد فيه الطلاب والمعلمون ذوو التوجهات الإسلامية من التدريس، حيث يحالون إلى الأعمال الإدارية بالإدارات التعليمية، على الرغم من حصول الكثيرين منهم على تقديرات عالية عند التخرج، ولكنهم يقصون عن التعامل المباشر بالتلاميذ بحجة تجفيف منابع \"التطرف\"داخل المجتمع.

------------------------------
المراجع:
خريطة الحركات الإسلامية في مصر. الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان.
واقعنا المعاصر. محمد قطب.
دور رفاعة الطهطاوي في تخريب الهوية الإسلامية. هاني السباعي.
القس دانلوب وتغريب التعليم في مصر. سيد العفاني.
جريدة المؤيد.
معركة الحجاب والسفور. الدكتور محمد إسماعيل المقدم.
الموسوعة الحرة ويكيبيديا.

_________________________________________________________________
الكاتب: محمد الغباشي