وأخيرا عرفت أنّهم يستكثرون علينا أن نكون رأسا حتى في اللعب...
محمد بوقنطار
نعم إنّها مجرد لعبة ولكنني تلصّصت منها درسا بل دروسا في أنّنا كأمة عندما نطلق ساعد الكدّ وساق الجدّ، ونمارس حريتنا المرشدة المنضبطة
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
محمد بوقنطار
لا ننكر أنّها مجرد لعبة، ويجب أن نكون حذرين في أن لا تتجاوز بها الجماهير المستبشرة الفرحة مدارج اللعب إلى مدارك الطلب الحقيقي حيث لا يدور الهوس ويُنيخ مطايا جهد الحاكم وجدّ الرعية في مقصود اللعب من أجل اللعب لا غير، إذ ثمة رهانات تنتظر منا كأمة ما تنتظر، وإنّما كان المقصود وسيظل هو ترشيد وجهة الإحساس المنطلق من قواعده الصادقة، هذه الأحاسيس التي عليها أن تستثمر من هذا اللعب وأن تستوعب الدرس وتستنبط منه الرصيد المعتبر الذي به نستطيع تعبئة الإنسان المسلم وسوقه إلى محراب الإبداع وميادين العمل والإعداد الذي يمنح الأمة ويضع أقدامها على مدرج القوة الرادعة ويثبت أفئدتها في وعلى منزلة الأعلون، وأن نفتح من خلال هزل اللعبة وما تسبّبت فيه للجماهير من ترويح وتنفيس نافذة أمل تطل من خلالها الأجيال على ماضيها المشرِّف، وتستشرف من ضوئها الوافد المنتشر الآمال الإيجابية في غدها المشرق البديل عن يومها المحرق...
إنني وأنا أتابع هذا التفوّق حتى وإن كان في دائرة اللعب قد أحسست كما غيري من خلاله بانتسابي الصادق إلى وطني، كما تذوقت منه المعاني السامية لعروبتي، والمتسامية لهويتي الإسلامية، لقد وقفت على ملحظ اتحاد طرفي مع أطراف إخوتي هنا وهناك وهنالك حد التشاكل والتجانس والتواد والتراص بل بِتُّ أتحسس حقيقة أنني عضو في جسد إذا اشتكى منه البعض تداعى له الكل بالسهر والحمى.
كم كانت فرحتي كبيرة وأنا أرى إخوتي في فلسطين السليبة يحملون الأعلام المغربية ويوزعون حلوى "البسبوسة" بالمجان في شوارع غزة العزة احتفالا منهم بفوز المنتخب المغربي على نظيره الإسباني وغريمه البرتغالي في لعبة كرة القدم، وقد كانت فرحتي أكبر وأنا أشاهد اللاعبين يحملون العلم الفلسطيني إلى جانب العلم المغربي، يتدثرون بهما في عمق انتساب وصدق احتساب.
نعم إنّها مجرد لعبة ولكنني تلصّصت منها درسا بل دروسا في أنّنا كأمة عندما نطلق ساعد الكدّ وساق الجدّ، ونمارس حريتنا المرشدة المنضبطة المتفلتة من أرساف وأغلال وقيود الأوامر الإقليمية التي تلبسنا عُنوة ثوب المسكنة والحاجة، وتُخندقنا كمستهلكين بخفض اللام، أو مستهلكين بفتح اللام، إذ علينا تحت طائلة تلك الأوامر الجائرة والوصايا القاهرة ألا نحوم حول حمى أن نكون منتجين أقوياء مستغنين ولو في الأحلام، فتلك حدود الغرب التي يجب علينا أن لا نتعداها، ومن تعداها فقد ظلم نفسه وتمرد عن معهود سكناته وحركاته المُخلدة إلى تلك الإملاءات الغاشمة.
لست مع الذين كيّفوا الأدلة ولووا أعناق بعض النصوص وأخرجوها من سياقها الشرعي لشرعنة سياق كوني يدخل نوعه في جنس اللهو واللعب، وقد فعلوا هذا بغير قصد مدخول، وتلك سطوة العاطفة الجيّاشة قادتنا جميعا وأشتاتا بالإكراه في محاولة منا وسط غمرة وسكرة الانتشاء بهذا الانتصار الذي غادر حظه ووعده دواخل قلاعنا النفسية والمادية، وغاب وتغيّب في ميادين كبيرة وثغور مهمة، نعم قادنا وقاد المستدلين من الشرع في محاولة منهم لإلباس هذا التفوّق تاج التمكين المُراد وسِوار الفتح المبين المُستعاد.
نعم لست مِن ومع هؤلاء ولكنني في ظل تلك العتمة القاتمة السواد، والتي طال ليلها تحسّست ذلك الضوء المتسلّل عبر ما قدّمه هؤلاء الفتية في عالم الكرة المستديرة، وإنه لضوء قد أخذ في الانتشار حتى أغاض بصيصه كيد الكائدين، من الذين أصبحت أعرف ولربما لأوّل مرّة أنّهم لا يستكبرون علينا أن نكون رأسا في ميادين الجد المعتبرة فقط، بل صرت أعرف أنّهم كذلك يستكثرون ويحرمون علينا الفوز في ميادين اللعب ويسعون بالاطراد أن لا نُجاوز معهود الذيل ومؤخرة الركب حيث معهود المكث والبيات والمبارحة.
نعم لقد استطاعت قطر أن تعطي في مقام التنظيم الأنموذج الفريد الصعب المحاكاة، وقد أفشلت من قبلها كما أتعبت من يأتي بعدها، فلقد بدا من أول وهلة ملحظ الإقناع وملمح الإمتاع، فمنذ الافتتاح تهافتت كل الفرضيات الغربية المتعالية في بطر وغمط، المُثبطة والمزدرية المستصغرة من شأن قطر كدولة عربية إسلامية، ومدى قدرتها على كسب الرهان وتنظيم هذا الملتقى العالمي على نحو لا يتسفّل بحجم هذا الكأس من مقصورة العالمية إلى درجة القارية أو المحليّة.
ولعله عين التهافت والبوار الذي شهدته مباريات المنتخبات العربية والإفريقية، فقد تكفل المنتخب المغربي على رحى الملاعب بإرجاع بصر الناقمين خاسئا وهو حسير، حيث قام بتكسير ذلك التغوّل النفسي المتكبر المتجبر باستشراف معهود استصغارنا، ويقينية إلزامنا صفوف الانهزامية كعرب أو أفارقة، نعم لقد سمعت نحيبَ الإسبان والبرتغال وقبلهم بلجيكا وكندا، وبكاءَهم المسترسل المتواصل واستنكارهم الهزيمة غير المتوقعة ولا في أضغاث الأحلام، وإنّه والله لنحيب وبكاء قد صنع في دواخلي ـ في غير شماتة ـ أحاسيس القوة والشموخ ولو كان هذا في دائرة اللعب، إلا أنّني لا أنكر مخطئا كنت أم مصيبا قد أحسست وكأنّني لأوّل مرة أمتلك وجدانا مليئا مملوءا بالإحساس الوطني العالي الهمة الشديد التوتر في مقام الانتماء.
إنّني لست بدعا من قومي في استحقاق الفرح والانغمار معهم في لجة الاستبشار، نعم أُقر أنني لم أتعمّد الفرح، كما أعترف أنّني لم أستطع كتمانه فلقد كنت فرحا بالفعل والصوت والحركة، لقد كنت فرحا وأنا الذي لطالما انتميت إلى جيل تغلّب عليه الحزن والكمد حتى في لحظات البهجة الطارئة، وإنّما فاض كيل الحبور هذه المرة من باب الاستثناء الذي شذ فجأة عن طول ومعهود تذوّقنا كجيل ورعيل لأضراب وصنوف وألوان من الهزائم والمآسي والخيبات المتكرّرة في ميادين الهزل والجد، زمن السلم والحرب من تاريخ أمتنا الموصولة بالله...
آه له من إحساس عميق ساهمت سكرته في سُلُوِّنا وسهونا ونسياننا لفُحش الغلاء ودرك الوباء، بل أخمد في نفوسنا ـ ولو للحظات تمنينا أن تطول وتدوم ـ مشاعر الشفقة التي يجود بها علينا الرجل الأبيض، إنّني هذه المرة كما غيري قد ازداد من جرعة الفرح عندنا ـ ولا اعتبار للناذر الاستثنائي ـ أننا ولأوّل مرة في مغربنا الحبيب صرنا نرى النتائج وقبلها المقدمات تربط ربطا اعتقاديا بالنية، وببر الوالدين وإكرام وفادتهم والاستعانة بدعواتهم وحضورهم، وبسط اللاعبين يدهم بالصدقة والإنفاق على المحتاجين رجاء الاستشفاع بهذه الصدقة في توجيه مستشرف النتائج، والمبادرة إلى سجود الشكر لرب العالمين مع كل توفيق وعقب كل فوز وانتصار، ولطالما جاء سجودا مستوعبا لكل اللاعبين ومدربهم وطاقمه المساعد، ولا شك أنه سجود يثير حفيظة الحاضرين من الأجانب غير المسلمين ويفتح في دواخلهم باب الاستفهام عن ماهية هذا الدين العظيم، ونعني به إسلام الفطرة إسلام الوحي.
وأرجع وأعود لأكرر وأقول أن هذا الفرح والاستبشار المستحق يجب أن لا يتجاوز درجة الاسترواح المؤقت، وأن لا يتعدى حدود اللعب في قالبه الرسمي، إذ ثمة رهانات وحياض مهمة لازلنا نسجل فيها الوجود الباهت أو الغياب المقلق والصغار المقرف، فَلَإِن كنا قد تسلقنا المراتب والدرجات المتقدمة في التصنيف الأخير "للفيفا" بين ترتيب الفرق العالمية، وحشرنا الرأس والقدم والقميص والعَلَمَ والاسم والرسم مع الأوائل والكبراء هاهنا، فتلك حقيقة يجب أن لا تحجب أخرى مِلؤها الحسرة والأسى، وعنوانها التردي الهالك والرهان البائر المفلس، وقد استغرقت أمتنا مصائب الأرض وشرورها، فحتى الأمس القريب ونحن على أبواب ومشارف افتتاح هذا الحدث الكروي العالمي، تناهى إلى سمعنا وبصرنا فحوى ما جاء وفق وحسب تقرير "اليونيفيل" وهي المؤسسة التابعة لمنظمة "اليونسكو" والذي أفاد تحت طائلة الأرقام الميدانية والأحكام الذوقية أن نظام التعليم بالمغرب يوجد في وضعية كارثية، إذ يعتبر ضمن الأنظمة التي تتذيّل ترتيب العالم في هذا الخصوص، وقد أتى هذا التقرير ليكرِّس عين الصورة والوضعية المأساوية التي سبق لتقارير دولية أخرى قد رسمته عن التعليم في المغرب، وقد جاء في ثناياها ما يحكي تخلّف المغرب عن بعض الدول العربية التي تُعدّ بؤرا للتوتر، وهي التي ما فتئت تعيش جبهتها الداخلية حروبا ونزاعات...
ناهيك عن ميادين صناعية واقتصادية وصحية حساسة لها وزنها كما لها ضرورتها في مقام الحاجة المُلحة الماسة إلى خدماتها، فلازلنا للأسف نستجدي الدواء، والغذاء، والطاقة، ونقاوة الهواء، والسلاح لدفع الصائل لا لطلبه، والعدّة، والعتاد، نستجدي هذا وغيره من موائد الرجل الأبيض ومن مدنيته الضاربة في عمق التطور وعظيم استغلاله للمكننة والتكنولوجيا المتحكِّمة في نواصينا وأفئدتنا وعقولنا، ينضاف إلى هذا دور الأبناك الدولية الوصية الجابية، ذات السياسة الإقراضية الربوية الناعقة والشروط المجحفة الحارقة، والمتداعية في تهارش على قصعة رصيد صناديق حكوماتنا ومن ثم جيوبنا، جيوب الشعب المحتفي حد الانتشاء بما حقّقه منتخبنا الوطني لكرة القدم في محفل كأس العالم في دورته الأخيرة بدولة قطر الشقيقة، وليس في هذا الفرح عيب، اللهم إذا صرنا نسمع من معشر الفرحين ترديدهم في اقتناع ومستكره إمتاع لمقولة، "مادامت كرة القدم في وطننا بخير فكل الأمور الأخرى دقّت أو جلّت فهي بألف خير".