أيها الناس! إن لم تحذروا من الربا وذيوله فائذنوا بحرب من الله

لقد كثرت المعاملات في عصرنا الحاضر، وازدادت عما قبلها، وشابها ما شابها من الجواز والتحليل، أو من الحظر والتحريم، وكل المعاملات الدنيوية جائزة إلا ما حرم الله عز وجل

  • التصنيفات: الربا والفوائد -

لقد كثرت المعاملات في عصرنا الحاضر، وازدادت عما قبلها، وشابها ما شابها من الجواز والتحليل، أو من الحظر والتحريم، وكل المعاملات الدنيوية جائزة إلا ما حرم الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأصل في الأموال التحريم؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا»؛ (م) 147 - (1218).

 

فالدماء والأموال والأعراض حرام كحرمة يومكم هذا؛ وكان يوم أضحى، في شهركم هذا؛ شهر حرام شهر ذي الحجة، هذا العام الذي كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم حج حجة الوداع، في بلدكم هذا؛ البلد الحرام، حرَّم الأموال والأعراض والدماء.

 

ونتكلم  عن الأموال واكتسابها، والناس يجرون فيها كل مجرى، تجد أحدهم يتعامل ثم بعد ذلك يسأل، بعد أن وقع يسأل عن تلك المعاملة، هل حرام أم حلال؟ وبعضهم يريد المال؛ سواء أفتى الشيخ بالحِلِّ أو بالتحريم، يريد أن يفعل لأمور عنده لكن إن وجد فتوى من الشيخ، فليس من مانع، بل يكون ذلك أحسن وأفضل، وهذه المعاملة التي نتكلم عنها في خطبتنا هذه -فالمعاملات كثيرة - معاملة الربا، والعياذ بالله.

 

الربا أن تستدين درهمًا بدرهمين، أو تستدين دينارًا بدينارين؛ يعني تزيد على الدين، هذا الربا يطلق عليه (ربا الفضل)؛ يعني الزيادة، والربا أيضًا قبل أن ندخل في الكلام عن عقوبته، والتحذير منه (ربا النسيئة)؛ وهو التأجيل، مسألة التأجيل في بيع النقدين، أو بيع التمر والملح، وبيع القمح والشعير، تبيع السلعة إحداهما بالأخرى، ثم تؤجل الثمن، لكن إذا اختلفت الأجناس؛ المطعومات مع النقدي، فليس هناك مانع من التأجيل ومن الزيادة، وإنما إذا كان في الجنس الواحد، هذا هو الممنوع.

 

فاحذروا يا عباد الله، واسألوا عن دينكم وعن المعاملات المحرمة، فهي محصورة ومحدودة وقليلة.

 

أما المعاملات المباحة فكثيرة، فاتقوا ما حذَّر الله منه؛ لذلك قال سبحانه وتعالى في التحذير من الذين لا يَرْعَوُون فيأكلون الربا، قال عن الذين يأكلون، ولم يقل عن الذين هم يعطون، فإذا كان الذين يأكلون الربا مثلي ومثلكم مواطنين إذا أكلنا ما هو ربًا؛ قال عنهم الله عز وجل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ} [البقرة: 275]؛ أي: يوم القيامة لا يقومون، {إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275]، كإنسان مصروع أو ممسوس، كلما أراد القيام سقط، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275]، يسامحه الله ويعفو عنه فيما سلف، {وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 275]، فيحاسبه عما سيأتي، {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 275، 276]؛ أثيم بالإثم والكفر ومحق الربا للأموال، والمرابون وآكلو الربا من أصحاب النار خالدين فيها؛ كلها صفات هؤلاء المرابين وأكلة الربا.

 

وقال سبحانه وتعالى خطابًا لكم أيها المؤمنون، لنا جميعًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ} [البقرة: 278، 279]، ليس من إسرائيل ولا من أمريكا، بل بحرب {مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279].

 

الربا أوله فرح وسرور، ذهب إلى مؤسسة، إلى بنك، أو نحو ذلك، ويأخذ القرض، ويضعه في جيبه فرِحًا مسرورًا، وانبساطًا بالمال الذي حصَّله، وآخره حزن وحسرة وندامة؛ عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الربا وإن كثُر، فإن عاقبته تصير إلى قُلٍّ»؛ (حم) (3754)، قال أحمد شاكر: إسناده صحيح).

 

عاقبته تصير إلى زوال، إلى قُلٍّ، فقد أخذه كثيرًا وصار قليلًا، ثم بعد ذلك لا يبقى منه إلا ذكراه السيئة؛ وفي رواية:

«ما أحد أكثر من الربا، إلا كان عاقبة أمره إلى قلة»؛ (جه) (2279)، انظر صحيح الجامع: (3542).

 

فمصير الربا إلى زوال، وخراب الديار، والحجر على المنازل والبيوت، وبيعها بالمزاد العلني، أمام عينيك، بيتك وعقارك، ويؤول الأمر إلى المحاكم والسجون.

 

فهل رأيتم أن رجلًا تعامل بالربا فأفلح؟ ما أفلح أبدًا من تعامل بالربا.

 

وهناك للربا ذيول وأبواب، فيا أيها الناس، إن لم تحذروا من الربا وذيوله، فائذنوا بحرب من الله ورسوله.

 

فالربا ذيوله كثيرة؛ كالشرك بالله سبحانه، والشرك ليس نوعًا واحدًا، بل هو أنواع كثيرة؛ فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الربا سبعون بابًا، والشرك مثل ذلك»؛ (كنز) (9752)، قال في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (4/ 117): "رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح"، صحيح الجامع: (3540)، وأكل الربا من كبائر الذنوب السبعة، يُقارَن بالشرك ويُقارَن بالقتل، ويُقارَن الربا بالزنا، والعياذ بالله.

 

فآكل الربا يُقارَن بالزناة، وتضاعف عقوبة من تعامل بشيء يسير جدًّا من الربا بعشرات المرات من عقوبة الزنا؛ فعن عبدالله بن حنظلة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«درهم ربًا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ستة وثلاثين زنيةً»؛ (حم) (21957)، قال في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (4/ 117): "رواه أحمد، والطبراني في الكبير، والأوسط، ورجال أحمد رجال الصحيح"، الصحيحة: (1033).

 

عقوبة الزنا مرةً واحدة جريمة، والعقوبة كبيرة، فكيف لو زنى ستة وثلاثين مرة، هذا مقابل درهم ربا، والدرهمان اضرب في اثنين، والعشرة والعشرين، والألف والأكثر، يا عبدالله، اتقِ الله.

 

بل فرع من فروع الربا، أو باب من أبوابه في القبح والشناعة والجريمة، مثل أن يزني الرجل بمحرم من محارمه، فالعقوبة شديدة، والنكاية عظيمة؛ فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«الربا ثلاثة وسبعون بابًا، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم»؛ (قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، (ك) (2259)، (طس) (7151).

 

نوع من أنواع الربا وذيوله، غِيبة المسلم والوقوع في عرضه، والكلام في ظهره، هذا نوع من أنواع الربا والعياذ بالله، الربا يجلب عقاب الله العام، يعني إذا جاءت عقوبة لا تأتي للرجل المرابي في نفسه في الدنيا، في الآخرة نعم.

 

لكن في الدنيا فالعقاب عام، نسأل الله السلامة.

 

وانظروا إلى حالنا في هذا الزمان؛ أكلة الربا والذين يتعاملون به، والمرابون بشتى الصور والأنواع، وانظر إلى حالنا والنتائج التي نحن فيها، لا تسُرُّ لا عدوًّا ولا صديقًا، الضيق علينا من مكان، نسأل الله السلامة، الربا يجلب عقاب الله العام الذي يعم الجميع؛ فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«ما ظهر الربا والزنا في قوم إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله عز وجل»؛ (حم) (3809)، قال شاكر: "إسناده صحيح"، و(حب) (4410)، (يع) (4981)، صحيح الترغيب: (1860).

 

إذا ظهر الربا وفشا في الناس، وصار مقننًا بقوانين، وصارت له أنظمة، ووُجد من يدافع عنه، ويوقعك في السجون إن قصرت أو ما شابه ذلك، جاء العذاب العام، نسأل الله السلامة.

 

فالمتعامل بالربا والآكل والمعطي، والكاتب والشاهد أو الشاهدان، كلهم في الإثم سواء، الآثام التي تكلمنا عنها إذا كانوا يعلمون، بشرط أن يعلموا أن هذا ربًا، وهذا حرام، أما من لم يعلم، فالله لا يحاسبه ولا يعاقبه؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«الآخذ والمعطي سواء في الربا»؛ (ك) (2307)، صححه الألباني في الإرواء تحت حديث: (1339)، صحيح الجامع: (2751).

 

وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، قال:

«لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا، ومؤكله»؛ الوكيل أو الذي أعطى، «وكاتبه، وشاهديه»، وقال: «هم سواء»؛ (م) 106- (1598).

 

لماذا يتعامل الناس بالربا؟ يتعاملون لجلب الأموال، لتكثيرها، أو لسد ديونهم، أو لأفعال هم يجعلونها أسبابًا دفعتهم لذلك؛ قال سبحانه: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39].

 

الربا معناه في اللغة الزيادة، يربو يعني يزيد، فالذي يزيد أمواله بذلك لن تزيد أمواله، تزيد أموال أهل الصدقات، وأهل الزكوات الذين يتعاملون مع الله، لا يتعاملون مع عباد الله، يتعاملون مع الله؛ فيدفعون أموالهم في سبيل الله زكاة وصدقاتٍ، هذه التي تضاعف، وهذه التي تكشف عنك بها الكربات، فكثرة تقديم اللقم - كما يقولون - تزيل النقم.

 

إن أردت من الله خيرًا فقدِّم لله شيئًا، لله خالصًا دون مقابل من البشر، وأما الربا فلا يمكن إلا أن يكون هناك مقابل وزيادة؛ لذلك قال صلى الله عليه وسلم محذرًا من الربا وأمثاله؛ كما ثبت عن عوف بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«إياك والذنوب التي لا تُغفَر: الغُلُول»؛ وهي السرقة من الغنيمة قبل قسمتها، «فمن غَلَّ شيئًا أتى به يوم القيامة، وأكل الربا، فمن أكل الربا بُعث يوم القيامة مجنونًا يتخبط»؛ المرابي يُبعث مجنونًا يوم القيامة، أكلة الربا ترونهم أمامكم يوم القيامة يتخبطون، يقوم فيسقط يقوم فيسقط، بطونهم كأمثال البيوت الكبيرة، كلما قام أسقطه بطنه، وتطؤهم السابلة؛ أي الذين يجرون في يوم الحشر العظيم متوجهين إلى الأمن من النيران التي هي محيطة بهم، فهؤلاء لا يستطيعون أن يجروا مع الجارين، بل يطؤهم ويمشي من فوقهم الناس، أهل الموقف، «وأكل الربا، فمن أكل الربا بُعث يوم القيامة مجنونًا يتخبط»، ((ثم قرأ عليه الصلاة والسلام: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275]))؛ (طب) (ج 18ص60 ح110)، الصحيحة: (3313).

 

إن آكل الربا يُعذَّب في قبره عذابًا عجيبًا وغريبًا؛ كما ثبت في صحيح البخاري وغيره في حديث الملكين اللذين أتيا النبي صلى الله عليه وسلم في منامه - ورؤيا الأنبياء حق - فقالا له: انطلق، قال عليه الصلاة والسلام:

 «فانطلقنا، فأتينا على نهر» - حسبت أنه كان يقول: أحمر))، ليس ماء صافيًا، بل إنه نهر أحمر، «مثل الدم»، نسأل الله السلامة، «وإذا في النهر رجل سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجل»؛ إذًا هناك رجلان؛ رجل يسبح في نهر الدم والعياذ بالله، والآخر على شط النهر، رجل «قد جُمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح، ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة»، كأنه يريد أن يخرج من هذا المكان، لا يريد أن يبقى في الدم، الله أعلم بحرارته كم؟ الله أعلم بمذاقه كيف؟ الله أعلم، ذلك النهر كيف تكون رائحته؟ يريد أن يتخلص من هذا كله، فيذهب عند الذي عنده الحجارة «فيفغر له فاه»، يفتح السابح فمه، يفتح فمه بقدر الله سبحانه وتعالى، بدون أن يكون منه إرادة رغمًا عنه، «فيُلْقِمْهُ حجرًا»، الحجر لو وقع على رأس إنسان ألا يؤلمه؟ أو على يده أو على رجله، فكيف إذا وقع في فمه؟ فكيف إذا كان الحجر من حجارة جهنم، والعياذ بالله، حجارة من كبريت، قد اشتعل نارًا والله أعلم، «فينطلق يسبح»، عندما يلقم الحجر يرجع يسبح، «ثم يرجع إليه، كلما رجع إليه فغر له فاه فألقمه حجرًا، قال: قلت لهما: ما هذان» ؟))، أجاباه فيما بعد فقالا: «وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر ويلقم الحجر، فإنه آكل الربا»؛ (خ) (7047).

 

حديث طويل عند البخاري، وهذا الكلام فيه عن الربا، فنعوذ بالله من هذه المعاملة، وأمثالها مما يُغضِب الله عز وجل، ويُوجِب علينا غضبه وعقابه، وعلينا أن نحذر - يا عباد الله - من الربا وذيوله، وقد انتشر وعمَّ وطمَّ، وسهلت السبل إليه، عبر شبكات التباعد الاجتماعي، وعبر المؤسسات الـمقرَّة من العالم، التي لا تهتم لدين ولا لشرع، ولا تحريم أو تحليل، همها جمع المال من أي طريق كان.

 

فصلوا وسلموا على من لم يترك سبيلًا من سبل الخير إلا ودلنا عليه، ولم يدع طريقًا من طرق الشر إلا وحذرنا منه، كيف لا نصلي ولا نسلم عليه؟! وقد صلى وسلم عليه الله، وصلت وسلمت عليه الملائكة؛ فقال الله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].

__________________________________________________________

الكاتب: الشيخ فؤاد بن يوسف أبو سعيد