والشعراء يتبعهم الغاوون.. الإعلام الهابط
في الأزمان السابقة، والقرون الخالية، كان الشعر والشعراء، والخطابة والخطباء من وسائل الإعلام الجماهيري وسيلة الإعلام المنتشرة في ربوع العالم من أقصاه إلى أقصاه.
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
في الأزمان السابقة، والقرون الخالية، كان الشعر والشعراء، والخطابة والخطباء من وسائل الإعلام الجماهيري وسيلة الإعلام المنتشرة في ربوع العالم من أقصاه إلى أقصاه، فكان الشعراء والخطباء يجوبون الصحاري والقفار والديار لينقلوا خبرًا أو قصيدة أو موضوعًا معينًا أو رسالة، ويتنقلون على الدواب من بغال وجمال وحمير وخيول وما إليها، وتطورت التقنية الحضارية عبر العصور الفائتة، وتطورت معها وسائل التعبير عن الرأي الحر والكلمة الشجاعة التي لا تخاف في الحق لومة لائم. إلى أن رأينا تبدل الأيام وتغير الأشهر والسنين، وتبدلت الأجيال من قرن إلى آخر، وهجا الشعراء بعضهم بعضًا ومدحوا الملوك والولاة ورثوا الموتى، وتغزلوا بالحبيب والحبيبة وتفرقوا وتجمعوا على قلب رجل واحد أو امرأة واحدة لا فرق، ووصل الأمر ببعضهم أن يتنقل بين الحين والآخر ليلتقط رزقه من هنا وهناك؛ تارة يهجو، وتارة يمدح، وتارة يرثي حال الموتى وطورًا يتغزل بالحب وما أدراك ما الحب؟ سواء الحب العذري أو الحب المحمود الممدود.
ووصل الأمر إلى أن بعضهم كان فارسًا وخطيبًا وشاعرًا وعاشقًا في آن واحد. وغني عن القول أن مقومات ذلك الاتصال كانت مثلما هي اليوم تقوم على عدة أركان خماسية البناء والبنيان لكنها بدائية كبدائية الإنسان الحجري؛ إذ اشتملت على المرسل والمستقبل والرسالة والوسيلة ورجع الصدى. ومع صعوبة الاتصال ورداءة الحياة السابقة موازنة بالحياة العصرية التي نحيا، فالوضع كان بائسًا جدًّا يتخلله بعض القنوط واليأس والإحباط.
وفي أيامنا هذه ظهرت صولات وجولات من التقنية العصرية، من الأقمار الصناعية والصحون اللاقطة، والفضائيات والإلكترونيات والمطبوعات والإنترنت التي تخترق العالم في لحظات من أقصاه إلى أقصاه، فجعلت هذه الاختراعات العصرية الإلكترونية الحياة نعمة ونقمة في آن واحد حسبما يوجهها الإنسان، فقد يوجهها بعض الناس فيأتي بخير، وقد يوجهها آخرون ولا يأتون إلا بشرّ ظلمًا وزورًا وبهتانًا. إذًا تلك هي الحياة الدنيا: نعمة ونقمة في آن واحد. وكل منا يوجهها من حاسوبه البيتي أو في مكان العمل والإنتاج حسب (أيديولوجيته) وثقافته وميوله وهوايته، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، وبينهما أمور مشتبهات. والإنسان الصالح هو الذي يمسك بزمام المبادرة ويوجه (بوصلة) الحياة باتجاه الخير ليكون من المصطفين الأخيار، ومن جند الله وعباده المتقين الأصفياء. والإنسان الطالح هو من يوجه (بوصلة) الحياة باتجاه الشر والحقد والضغينة والنميمة والحسد والكراهية فيكون من الأشرار؛ من جماعةِ وحزب الشيطان الرجيم الذي يبث الرذائل في المجتمعات.
يقول الله تبارك وتعالى:{لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 1-10].
فنحن والحالة هذه أمام تحدٍّ كبير جدًّا من الآهات والاغترابات والمضحكات المبكيات، وتطورت التقنيات التي تجعل العالم كله قرية واحدة، وكأنها صغيرة المساحة وقليلة عدد السكان، والواقع لا يوحي بذلك، فالعالم واسع ورحب، والكرة الأرضية فيها البحار والمحيطات والأنهار والبحيرات والسبخات وفيها اليابسة، من السهول والجبال والهضاب والوديان والمرتفعات والمنخفضات، وما طار طير وارتفع إلا وكما طار وقع، هذا هو حال الدنيا.
في هذه الأيام، وما سبقها من الأعوام، انتشرت وسائل الاتصال الإلكترونية والمطبوعة والمسموعة والمرئية المنقولة مباشرة والمحمولة على الإنترنت، الشبكة العنكبوتية الدولية التي تخترق العالم من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه، في متوالية تتضخم وتتضاعف ملايين الأضعاف، فانتشرت الإلكترونيات ومن بينها الفضائيات والمواقع الإلكترونية الرسمية الحكومية والحزبية والجماعية والفردية، الربحية وغير الربحية، وكل في فلك يسبحون.
ما نريد أن نطرحه فعلا وقولا هو الانتشار الفاضح الكاسح للفضائيات والإلكترونيات الإباحية التي غزت البيوت إلا من رحم ربي سبحانه وتعالى، فأصبح العالم متمردًا على نفسه، يصول ويجول بالاتجاهات الأربعة دون حسيب أو رقيب، ومعظم الصولان والجولان باتجاه أهل المشأمة، نعوذ بالله العظيم من أتباع هذه الزمرة، ونسأل الله أن يجعلنا من أصحاب الميمنة المقربين لخالق الخلق أجمعين. يقول الله العزيز الحكيم الحي القيوم: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 1-7].
فالإلكترونيات أصبحت لا تخضع لسيطرة، ولا يمكن أن تخضع إلا عبر أناس أو عصابات مافيات معينة، فانتشرت المافيات الجنسية والكباريهات والملاهي الليلية النهارية على مدار الساعة، وغزت الموبقات والكبائر جميع وسائل الإعلام إلا القليل القليل منها، وأضحى العالم يتخبط في بعضه فجاء بسفك الدماء من الإرهاب والإرهابيين العالميين الذين يسيطرون على وسائل الإعلام الجماهيرية، فانتشر الفساد والمفسدون في كل مكان، يحرفون الكلم عن مواضعه، فهؤلاء هم الشعراء الجدد الذي يقولون ما لا يفعلون ويشوهون الحقائق، ويمارسون الكذب اليسير والمتوسط والثقيل ليصل إلى أسفل الدرجات الهابطة في عالم الحياة، وتطور الأمر بهم ليكونوا من الدجالين الكبار، يكذبون ويكذبون ويكذبون حتى أصبحوا يصدقون أنفسهم من كثرة الكذب، فهم من المنافقين، الذين سيقبعون في الدرك الأسفل من النار، قبل الكافرين والظالمين والمشركين وما شاكلهم. فانتشر الفساد في البر والبحر والجو؛ فساد في فساد في فساد، والراحم هو الله الرحمن الرحيم. يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الإنسان: 24-25]. ويقول الله العدل الحق: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [الروم: 41-45].
لقد تغير العالم، وتغير الموجهون من زمرة الفرد الرويبضة الهالك المتهالك الذي يتحدث في شؤون العامة، وتبعه الأشقياء والأشرار والسفهاء فأخذوا يقاومون ويعربدون ويقلبون الحقائق رأسا على عقب، والتوجيه الإلكتروني اشتد سعيرًا فوق سعير جهنمي، وماذا بقي للأصفياء الأخيار من أصحاب الفضائل والأخلاق الحميدة والقيم والمثل العليا والأعمال الصالحة، لقد تغير كل شيء، ولم يعد هناك رابط صغير يربط الأشرار مع الأخيار، فهما صنفان لا يلتقيان أبدًا مهما دارت دواليب الحياة اليومية، وبألوان الطيف السبعة وكأن الشر صار بألوان قوس قزح، فانتشرت الكبائر والموبقات وبدأت تظهر علامات الساعة الصغرى والكبرى في تسابق زمني رهيب، فالسباق الآن لا يمكن وقفه ووصفه بكلمات؛ فهو كسرعة البرق إن لم يكن أشد. وابتعد السواد الأعظم من الناس عن التقوى والتحق بصفوف الفوضى، وتركوا الفضائل وتمسكوا بالملذات والشهوات المهلكات للعقل والضمير والقلب، فاستعرت حالات الحروب وسفك الدماء، وارتفعت الأسعار، ولا من مغيث سوى رب العالمين الذي خلق الإنسان فسواه فعدله في أي صورة ما شاء ركبه.
أيها الإخوة والأخوات.. أيها الآباء الكرام.. أيتها الأمهات.. الماجدات الفاضلات!
انتبهوا لأبنائكم وبناتكم من الإلكترونيات الشريرات غير الفاضلات التي تغزو البيوت في عقر دارها؛ في المطابخ وحجرات النوم والصالونات الكبيرات والصغيرات، فراقبوا الإنترنت، والفضائيات والتدوين والمدونات، والطباعة والمطبوعات، والإذاعات السمعيات والمرئيات، ولا تستهينوا بالأمر؛ فتلك تبث سموم الكبائر والموبقات كسموم الأفاعي التي يبرمجها أصحاب المباني الناطحات، أفيقوا من سباتكم، ولا تجعلوا الأبناء والبنات ذكورًا وإناثا يلهثون خلف السرابات التي تتبعها سرابات، سرابات الحب وسرابات الدجل والنفاق والكذب وسوء الأخلاق، فراقبوا الإلكترونيات الموبقات الهادرات للقيم والمثل العليا. لا تتوقفوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالأيدي والألسنة والقلوب في مثلث متكامل الأضلاع في الجهات الثلاث، فهذا هو سر الأخلاقيات المنبهات والمحذرات من تدمير الأمة، فحينها لا تنفع الندامات والآهات.
لا تسمحوا بانتشار الصور المغريات من الكاسيات العاريات والإباحيات، فهذه هي الساقطات الهابطات غير الغازيات التي تسقط المراهقين والمراهقات في أحابيل الشياطين والشيطانات من جميع الأمم التائهات. لا تهزلوا كثيرا في الإلكترونيات ولا تهجروا الإسلام الباني للمجتمع الصالح والحضارات، فليس بقلة الحياء يحيا الإنسان، ولا ضرورة للكاسيات العاريات من بنات حواء الغبيات اللواتي قبلن أن يكنَّ من المائلات المميلات فسقطن في حبائل الشياطين، شياطين الإنس والجن، فلا تثقوا في وسائل الإعلام وراقبوها في ساعات وساعات، وما أكثر القبائح والقبيحات من الأفعال والزلات، فكونوا من أصحاب الهمة والكرامات والشجاعات. فلا تلقوا بالا للناس التائهين والتائهات الذين يمخرون الفضاء والفضائيات بكؤوس خمر ولحم خنزير وساقطين في الهوى وساقطات.. خذوا حذركم، من الأعداء والأساليب المتلويات، فالأمن الإسلامي الفاضل الصالح أولا وآخرًا، يا بني قومنا فيوم الندم لا ينفع الإنسان ماله بل ينجيه الباقيات الصالحات، فأصلحوا ذات بينكم، ولا تغتروا بصفاء المياه في البحار والأنهار والمحيطات، فالهدوء قد يسبق العاصفة الكبيرة من العاصفات، والحرب الإلكترونية والنفسية تدخل من الأبواب وليس من النوافذ كما كانت بالأمس، يا أهل الفضل لا تنسوا من فضلكم أهل الصلاح والإصلاحات.
وكما يقول الله تبارك وتعالى العزيز الحكيم، في كتابه المجيد: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].
وأخيرًا لا نملك إلا أن ندعو بهذا الدعاء:
اللهم أهلك الظلمة والظالمين، من الكفرة الفجرة والفاجرين، ولا تجعل قولا ولا فعلا للسفهاء والفسقة والفاسقين وأهل الشرك والمشركين، وأهلك المغضوب عليهم والضالين الذي يعيثون في الأرض فسادًا يا رب العالمين. وانصر عبادك المجاهدين في كل مكان وزمان الباطنين والظاهرين، وأهلك أعداءك أعداء الدين، يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث وأنت غياث المستغيثين. وتذكروا أنكم ستكونون من المحاسبين يوم القيامة فلا تكونوا في فئة الناس المقبوحين. وكونوا من أهل القرآن المبين والسنة النبوية يا غانمين ولا تتسولوا فضاء وفضائيات المتسولين من الراقصات على حبائل الهوى والراقصين.
فلا ترقصوا على جراح الأمة العربية الإسلامية فتكونوا من التائهين والمتشائمين. وتفاءلوا بقرب النصر المبين والدخول في دين الله أفواجًا يا مؤمنين وعضوا على الجهاد في سبيل الله بالنواجذ وكونوا من المجاهدين، فلا تغرنكم الحياة الدنيا يا أهل الفضل، كونوا من المفضلين لدى رب الكون أجمعين، ولا تطيعوا السفهاء والعابثات والعابثين، ولا تسمعوا للشعراء المقبوحين من حزب الشيطان إبليس الرجيم، الذين يحرفون الكلم عن مواضعه يا رجال ونساء الأمة الفطنين، فهذه الحياة لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ولا تكونوا من المغامرين المقامرين بحياة الإسلام والمسلمين.
طبتم بما أسلفتم في الأيام الخالية.
سلام قولا من رب رحيم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
______________________________________________________
الكاتب: د. كمال علاونة