القناعة عنوان الغنى

قال النبي ﷺ «ارضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس»

  • التصنيفات: تزكية النفس - أخلاق إسلامية -

لو رضي العبد بما قُسم له لاستغنى عن الناس وصار عزيزًا وإن كان لا يملك من الدنيا الكثير.


يقول الإمام الشافعي رحمه الله:
رأيت القناعة رأس الغنى.......  فصرتُ بأذيالها مُمتســــكْ
فلا ذا يـراني على بابــــه.......  ولا ذا يراني به منهمــــــكْ
فصرتُ غنيًّا بلا درهـــــم.......  أمرٌ على الناس شبه الملكْ

 

وقد وجه النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى التحلي بصفة القناعة حين قال: «ارضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس».


قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: القناعة مال لا نفاد له.


وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لابنه: يا بني: إذا طلبت الغنى فاطلبه بالقناعة؛ فإنها مال لا ينفد، وإياك والطمع؛ فإنه فقر حاضر، وعليك باليأس؛ فإنك لم تيأس من شيء قطُّ إلا أغناك الله عنه.


وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن الطمع فقر، وإن اليأس غنى، إنه من ييأس عمَّا في أيدي الناس استغنى عنهم.


كان محمد بن واسع رحمه الله يبل الخبز اليابس بالماء ويأكل ويقول: من قنع بهذا لم يحتج إلى أحد.


ومن عجيب ما يروى في ذلك ما جاء في الإحياء من أن الخليل بن أحمد الفراهيدي رفض أن يكون مؤدبًا لابن والي الأهواز، ثم أخرج لرسوله خبزا يابسا وقال: ما دمتُ أجدُ هذا فلا حاجة إلى سليمان - الوالي -، ثم أنشد:
 

أبْلِغْ سليمانَ أني عنه في سَـعَـــــــــةٍ   **   وفي غنىً غير أني لستُ ذا مـــــالِ
شُحًّا بنفسيَ أني لا أرى أحــــــــــــدًا   **   يمـوتُ هزلاً ولا يبقى على حــــــالِ
والفقر في النفس لا في المال نعرفه   **   ومثلُ ذاك الغنى في النفس لا المال


وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس الغنى عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى النفس».

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ربه فيقول: «اللهم قنعني بما رزقتني، وبارك لي فيه، واخلف على كل غائبة لي بخير».

القناعة سبب لمحبة الله ومحبة الناس:
إن القانع بما رزقه الله تعالى يكون هادئ النفس، قرير العين، مرتاح البال، فهو لا يتطلع إلى ما عند الآخرين، ولا يشتهي ما ليس تحت يديه، فيكون محبوبًا عند الله وعند الناس، ويصدق فيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم:
«ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس».

القانع من الشاكرين:
إن العبد لن يبلغ درجة الشاكرين إلاَّ إذا قنع بما رزق، وقد دل على هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه:
«يا أبا هريرة، كن ورعًا تكن أعبد الناس، وكن قنعًا تكن أشكر الناس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنًا..» (الحديث).

القناعة والحياة الطيبة:
إن العبد القانع عفيف النفس لا يريق ماء وجهه طلبا لحطام دنيا عمَّا قليل تفنى، وهؤلاء الذين مدحهم الله بقوله:
{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}[البقرة:273].


وإذا كانوا كذلك فازوا بالحياة الطيبة التي قال الله تعالى عنها: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].


وقد فسر محمد بن كعبٍ الحياة الطيبة هنا بالقناعة. وبهذا أيضا فسَّرها علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن الحسن البصري رحمه الله.


وقد وردت لهم البشارة على لسان خير البشر صلى الله عليه وسلم: «قد أفلح من أسلم ورُزق كفافًا، وقنعه الله بما آتاه».


قال ابن حجر: ومعنى الحديث: أن من اتصف بتلك الصفات حصل على مطلوبه، وظفر بمرغوبه في الدنيا والآخرة.

 

فضل القناعة وذم الشره:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يومًا يحدث- وعنده رجلٌ من أهل البادية-
«أنَّ رجلًا من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع، فقال له: ألست فيما شئت؟ قال: بلى، ولكني أحبُّ أن أزرع، قال: فبذر، فبادر الطرف نباته واستواؤه واستحصاده، فكان أمثال الجبال، فيقول الله عزَّ وجلَّ: دونك يا ابن آدم، فإنَّه لا يشبعك شيءٌ». فقال الأعرابي: والله لا نجده إلا قرشيًّا، أو أنصاريًّا، فإنهم أصحاب زرعٍ، وأما نحن فلسنا بأصحاب زرعٍ. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم.


قال ابن بطال: وقوله: دونك يا ابن آدم، لا يشبعك شيء. يدلُّ على فضل القناعة، والاقتصار على البلغة، وذمِّ الشَّرَهِ والرغبة.
وقال ابن حجر: وفيه إشارةٌ إلى فضل القناعة، وذمِّ الشَّرَهِ.

القانع كالملوك:
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:
«من أصبح وأمسى آمنًا في سِرْبه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه؛ كان كمن حِيزت له الدنيا بحذافيرها».


قال المناوي: «عنده قوت يومه» أي: غداؤه وعشاؤه الذي يحتاجه في يومه ذلك.
يعني: من جمع الله له بين عافية بدنه، وأمن قلبه حيث توجَّه، وكفاف عيشه بقوت يومه وسلامة أهله؛ فقد جمع الله له جميع النعم التي من ملك الدنيا لم يحصل على غيرها، فينبغي أن لا يستقبل يومه ذلك إلا بشكرها؛ بأن يصرفها في طاعة المنعم، لا في معصية، ولا يفتر عن ذكره.
وقال أكثم بن صيفي لابنه: ومن قنع بما هو فيه قرَّت عينه.



من أقوال العلماء في القناعة:
قال بكر بن عبد الله المزني: يكفيك من الدنيا ما قنعت به، ولو كفَّ تمرٍ، وشربة ماءٍ، وظلَّ خباءٍ.

وقال نعيم بن حماد: سمعت ابن المبارك يقول: مروءة القناعة أفضل من مروءة الإعطاء.


وقال أيضًا: القناعة تكون بالقلب؛ فمن غني قلبه غنيت يداه، ومن افتقر قلبه لم ينفعه غناه، ومن قنع لم يتسخط وعاش آمنا مطمئنًا، ومن لم يقنع لم يكن له في الفوائت نهاية لرغبته.

وقال أبو سليمان الداراني: إن قومًا طلبوا الغنى فحسبوا أنَّه في جمع المال، ألا وإنما الغنى في القناعة.

وعن الحسن رحمه الله قال: لا تزال كريمًا على الناس- أو لا يزال الناس يكرمونك - ما لم تعاط ما في أيديهم، فإذا فعلت ذلك استخفُّوا بك، وكرهوا حديثك وأبغضوك.

فاللهم قنعنا بما رزقتنا ورضنا بما قسمت لنا واجعل غنانا في قلوبنا، وصل اللهم وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وآله وصحبه أجمعين.