نعمة العمر

محمد بن إبراهيم السبر

أعظم ما لدى الإنسان هو عمره، فليس هناك شيء يوازي ساعات العمر، فإن المال والجاه والبنين والدنيا بأسرها ليست شيئًا إذا انتهى أمد الحياة

  • التصنيفات: تزكية النفس -

أعظم ما لدى الإنسان هو عمره، فليس هناك شيء يوازي ساعات العمر، فإن المال والجاه والبنين والدنيا بأسرها ليست شيئًا إذا انتهى أمد الحياة، فكل ذلك يكون هباءً منثورًا، فكان لا بد لكل إنسان أن ينظر إلى عظيم منَّةِ الله تعالى عليه بعمره الذي تنحته الأيام والليالي نحتًا، فما مضى منه لا يعود، والمستقبل أمل قد يكون المرء فيه موجودًا، وقد يكون مفقودًا؛ لذلك حثَّنا الإسلام على اغتنام العمر، وعدم التفريط في قليله فضلًا عن كثيره؛ قال صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ»؛ (أخرجه البخاري)، والغبن هو: النقص والخسارة، فكثير من الناس خاسرون؛ لأنهم لم يستفيدوا من نعمتي الصحة والفراغ، فضيعوا أوقاتهم أيام صحتهم، وضيعوا وقت فراغهم، فلا هم استفادوا منه في أمر دينهم، وهو الأهم، ولا في أمر دنياهم.

 

والمرء تمر به أحوال لا ينفك عنها؛ من صحة ومرض، وفراغ وشغل، وشباب وهرم، وحياة ثم موت؛ {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق: 19]، وفي كل حال عليه أن يحرص على ألَّا يضيع عمره فيما لا ينفعه في دينه قبل دنياه؛ لأن الدين هو الذي يعيش به المرء عيشة مطمئنة في الدنيا، وسعيدة في الحياة الأبدية، أما هذه الحياة، فهي فانية، وكما سماها الله تعالى "متاع الغرور"؛ وقال عنها: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64]، فيلهو ويتمتع بها المغرور، أما الفطن، فإنه يجعلها زادًا للحياة الدائمة المستقرة، فإن لم يفعل ذلك، فإنه يندم ولات حين مندم؛ كما رُوي في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ليس يتحسر أهل الجنة إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله فيها»، هذا وهم في نعيم الجنة، ومع ذلك يتحسرون على ساعات لم يستغلوها فيما ينفعهم في حياتهم الأبدية، وتزيد من نعيمهم في الجنة، فكيف بمن لم يدخل الجنة ممن أخبر الله عنهم؛ بقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون: 99، 100]، فيقال له: {كَلَّا} [المؤمنون: 100]، ويزيده توبيخًا بقوله سبحانه: {إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 100].

 

إن العمر الذي أمدَّ الله تعالى به العبد هو نعمة تستوجب شكر المنعم سبحانه، ومن شكره ألَّا يضيعه في لهو وبطالة؛ فإنه سيُسأل عن هذه النعمة العظيمة؛ كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «لا تزول قدما عبدٌ يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيمَ أفناه؟ وعن علمه فيمَ فعل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيمَ أنفقه؟ وعن جسمه فيمَ أبلاه؟»؛ (خرجه الترمذي)،

فأول سؤال عن العمر الذي هو أساس التكليف من أجل التشريف بمقام العبودية لله رب العالمين، يُسأل عنه فيم أفناه؟ هل أفناه فيما خلقه الله تعالى لأجله؛ وهو الإيمان والعبادة، أو أفناه في شهواته ولذاته وبطالته، وعندئذٍ يكون الجزاء من جنس العمل، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشر؟ وقد أشار القرآن الكريم لهذه المساءلة الأولية بقوله سبحانه: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37]، وهو خطاب معاتبة لمن قالوا: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر: 37]، فإنه لا يُجاب لذلك، بل يُوبَّخ ويقرَّع بأنه فوت الفرصة على نفسه، فقد متعه الله بالعمر، وأنذره بالشيب، فلم ينتفع بذلك، فلا يلومنَّ بعدئذٍ إلا نفسه.

 

إن العمر الذي متَّعنا الله تعالى به هو أمانة عظيمة، فيجب أن تؤدى الأمانة كما أراد مؤتمنها سبحانه، وذلك بعدم تضييعه في لهو وبطالة، فإن المرء لم يخلق لذلك، فكل لهو باطل إذا شغله عن طاعة الله.

 

عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: ((أخذ رسول الله بمنكبي، فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» ، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك))؛ (أخرجه البخاري).


فلا بد للعاقل من اغتنام الأوقات، وتقديم التوبة والاستعداد للموت، وعدم الاغترار بالدنيا، فالدنيا فانية، مهما طال عمر الإنسان فيها، فهي دار ممرٍّ لا دار مقر، وكل نفس ذائقة الموت، وهذه حقيقة مشاهدة، نراها كل يوم وليلة، ونحس بها كل ساعة ولحظة، فعلى الإنسان أن يستعد للرحيل، وأن يكون عابر سبيل، فلا يركن إلى الدنيا ولا يتعلق بها، ولا يتخذها وطنًا ولا تحدثه نفسه بالبقاء فيها، فلا يتعلق منها إلا بما يتعلق به الغريب في غير وطنه الذي سيفارقه، وكالمسافر الذي يكتفي بالقليل الذي يبلغه غايته.

 

إن لله عبادًا فُطُنـــــــا  **  تركوا الدنيا وخافوا الفتنا 

نظروا فيها فلما علموا  **  أنها ليست لحيٍّ وطنــــــا 

جعلوها لجةً واتخذوا  **  صالح الأعمال فيها سُفُنــا 

 

فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن السعيد من حاسب نفسه، وتفكر في انقضاء عمره، واستفاد من وقته فيما ينفعه في دينه ودنياه، ومن غفل عن نفسه، تصرمت أوقاته، وعظم فواته، واشتدت حسراته، نعوذ بالله من التفريط والخِذلان.