عولمة الديون في العالم الثالث

الاقتراض من الخارج سياسة لجأت إليها عدد من الدول منذ زمن بعيد، وقد سجلت بعض الدول نجاحات بارزة في الاستفادة من القروض، لكن الدول ذات الدخل الضعيف تعرضت لتفاقم مشكلة الديون...

  • التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -

الاقتراض من الخارج سياسة لجأت إليها عدد من الدول منذ زمن بعيد، وقد سجلت بعض الدول نجاحات بارزة في الاستفادة من القروض، لكن الدول ذات الدخل الضعيف تعرضت لتفاقم مشكلة الديون؛ حتى بلغ الأمر لدى بعضها إلى وقف مسار النمو، وإلى تدهور مستوى المعيشة فيها.

وتعرضت ديون العالم الثالث لأزمة حادة في الثمانينيات، لكنها لم تكن الأولى في تاريخ الديون، فإن أزمات الاقتراض الدولي كانت تظهر منذ وجدت الديون الدولية، ومن أبرز الأزمات الحادة كانت أزمة الثلاثينيات من القرن الحالي.

لقد شكلت أزمة الاقتراض في البلدان النامية خلال الثمانينيات المصدر الأهم للصعوبات الاقتصادية في هذه البلدان، وخطرًا على قدرة النظام المالي على الاستمرار.

في الواقع إن ظهور أزمة الديون في العالم الثالث في السنوات الأخيرة، لم تكن حقًّا ظاهرة جديدة كُليًّا، وفي هذا الصدد تشكل دراسة تاريخ أزمات الاقتراض الدولي، منذ القرن التاسع عشر مدخلاً مفيدًا لأزمة الديون؛ لأن عوارض أزمة الاقتراض ظهرت منذ وجدت الديون الدولية، حتى إن الطابع العام للأزمة ليس جديدًا حقًّا؛ حيث شهد النظام المالي الدولي، في الثلاثينيات من هذا القرن، أزمة عامة للديون الدولية، تميزت بالعديد من عيوب الدفع.

يقول جان برتيليمي في كتابه "ديون العالم الثالث": إن موقف المصارف حيال البلدان المدينة من العالم الثالث لا يمكن اعتباره سببًا لأزمة الديون؛ فهو بكل حال سبب ونتيجة في آن معًا.
لذلك فإنه من الصعب إثبات أن الأزمة قد نجمت من سياسة اقتراض مفرطة من جانب بلدان العالم الثالث.

وللأسف، فإنه لا يتوافر إلا القليل من الإحصاءات الموثوقة حول ديون بلدان العالم الثالث، وكان هذا النقص ذاته أحد أسباب أزمة الديون.

والحقيقة، فإن هناك عدة أسباب كانت وما تزال تدفع دول العالم الثالث إلى الاستدانة، ومنها السياسة الإنمائية المتبعة في العالم الثالث، وسوء توزيع الدخول، واتباع أنماط استهلاكية تحاكي أنماط الاستهلاك في الدول الصناعية، والتمدين العشوائي، وتدني الإنتاج الزراعي، وتضخُّم الإنتاج الصناعي.

يقول د. علي وهيب في كتابه "خصائص الفقر والأزمات الاقتصادية في العالم الثالث": إن الواقع الملموس في اقتصاديات بعض الدول المدينة هو أن أسباب تضخم الديون إنما تعود إلى عدة عوامل:
1- الارتفاع الجنوني في أسعار الفائدة في الأسواق الدولية.
2- حمّى المضاربات والفوضى التي تسود نظام النقد الدولي.
3- الارتفاع الهائل في أسعار صادرات الدول الصناعية التي تستوردها الدول المدينة.
4- الكساد الاقتصادي العالمي وآثاره السلبية على قيمة صادرات الدول المدينة.
5- الحماية التجارية التي تفرضها الدول الصناعية على السلع المصدرة إليها.

إن معدلات الفوائد المرتفعة على الديون الخارجية وازدياد مبالغ الديون لدى معظم دول العالم الثالث أدت إلى إبطاء في نموها الاقتصادي، وتدنت عائدات صادراتها بالعملة الأجنبية.

ومن المعروف في السياسة الاقتصادية الدولية أن أزمة الديون المكسيكية في منتصف عام 1982م كانت علامة مهمة في سياسات الاقتراض للدول المدينة، فانخفضت نسبة تقديم القروض الجديدة بصورة فجائية.

ولم يعد صندوق النقد الدولي قادرًا على تقديم أي قروض جديدة، بسبب اضطراره للاحتفاظ بسيولة للإقراض.

إن أي مقترحات لحل أزمة الديون التي تعاني منها بعض الدول المدينة في العالم الثالث؛ من جرَّاء عدم قدرتها على دفع الأقساط وسداد الفوائد المتوجبة عليها، ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار خفض العجز في ميزانيتها، وتخفيض أسعار الفائدة على الدولار.

وبالنسبة لإعادة جدولة الديون ودور المؤسسات المالية التابعة للأمم المتحدة، فينبغي على حكومات الدول الدائنة أن تعيد تقويم شروط التزامات إعادة هيكلة الديون وجدولتها.

إن إعادة الجدولة يتطلب من الدولة المدينة أن تخضع لشرطين أساسيين يفرضهما المجتمعون في نادي باريس:
أ- أن تدفع الدولة المدينة فوائد التأخير على الأقساط المؤجلة، كعقاب لها.
ب- أن تتعهد الدولة المدينة بتنفيذ سياسات وتوجهات اقتصادية واجتماعية معينة ذات علاقة بالتجارة الخارجية، والإنفاق العام.

ولهذا قال أحد الاقتصاديين: إن وسيلة إعادة جدولة الديون ما هي إلا فخ من قبل الحكومات والمؤسسات المالية الخاصة في الدول الصناعية الدائنة؛ لإيقاع المقترضين في حبائل الديون، وزيادة تراكمها سنة بعد أخرى.

ومن هنا، فلا شك أن الدولة التي تطلب إعادة جدولة ديونها الخارجية، هي في وضع اقتصادي مأساوي، وفي أزمة اقتصادية حادة.

ومما يزيد الأمر تعقيدًا مطالب واشتراطات صندوق النقد الدولي؛ حيث يطالب الدول المدينة بـ:
1- تخفيض القيمة الخارجية للعملة الوطنية؛ أي: هبوط سعر صرفها الرسمي.
2- عدم اتباع سياسة الرقابة على الصرف، والسماح بالتعامل في النقد الأجنبي.
3- إلغاء أي قيود تتعلق بسياسة الاستيراد، وإلغاء الإجراءات المتعلقة بتشجيع الصادرات، والسماح للقطاع الخاص والعام بالاستيراد.
4- خضوع الدولة المدينة لنمط التجارة الحرة، تحت حجة ضرورة الانفتاح والمنافسة الأجنبية.

لقد أدى ظهور أزمة الاقتراض في الثمانينيات إلى القيام بجولات عديدة من المباحثات في الديون، حاول فيها المدينون العاجزون ودائنوهم الوصول إلى اتفاق يتيح تجنب قطع العلاقات المالية.


بالإجمال، كانت أزمة الاقتراض في السنوات الأخيرة المناسبة لظهور العديد من التجديدات في تحليل الآليات التي تربط بين النمو والاقتراض، ومفهوم السياسة الاقتصادية في البلدان النامية، كما في إدارة المصارف لسندات ديونها وعلاقاتها مع البلدان المدينة.

وبالتأكيد أن هذه التجديدات تسير في الاتجاه الصحيح، لكنه من الواضح أكثر فأكثر أنها لا تسمح بحل أزمة ديون العالم الثالث إلا على المدى الطويل وليس القريب.

بهذه النظرة تظهر أزمة الديون في الثمانينيات؛ تماثلاً مع أزمة الثلاثينيات التي كانت كذلك أزمة عامة، ودامت نتائجها على فعل النظام المالي الدولي طويلاً.

ختامًا أقول:
إنه يمكن للتنسيق الأوثق أكثر فأكثر بين جميع الأطراف المشتركة في القضية؛ دولاً، أو مؤسسات، أو أفرادًا، أن يفسح الأمل لمخرج أكثر ملاءمة مما آلت إليه أزمات الديون.

وقد آن أوان ذلك!!!

_____________________________________________________
الكاتب: د. زيد بن محمد الرماني