ولا ليلة صفين

إياك أخي الحبيب أن تضحي بشيء من مكتسبات رمضان، إياك أن تتخلى عن سنتيمتر واحد من الأرض الجديدة التي وصلت إليها، إياك أن تترك شيئاً من طاعاتك لربك ولا ليلة صفين..

  • التصنيفات: شرح الأحاديث وبيان فقهها -


روى مسلم عن علي بن أبي طالب أن فاطمة اشتكت ما تلقى من الرحى في يدها، وأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - سبي، فذهبت فاطمة تطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - خادماً، فقال: «ألا أعلمكما خيراً مما سألتما، إذا أخذتما مضاجعكما أن تكبرا الله أربعاً وثلاثين، وتسبحاه ثلاثاً وثلاثين، وتحمداه ثلاثاً وثلاثين، فهو خير لكما من خادم»، قال علي - رضي الله تعالى - عنه: ما تركته منذ سمعته من النبي - صلى الله عليه وسلم- ، قيل له: ولا ليلة صفين؟ قال: «ولا ليلة صفين».

ياله من سؤال عظيم المغزى، ويالها من إجابة حاسمة، إجابة تلخص في عبقرية مدهشة الفارق العظيم بين جيل الصحابة وكل من جاء بعدهم، نعم، إذا أردت أن تضع يدك على كلمة السر في حياة هذا الجيل فدونك هذا الأثر الرهيب، منذ سمع علي - رضي الله تعالى عنه - نصيحة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعاها، وحفظها ثم لم يتركها قط حتى ولا ليلة صفين، وما أدراكم ما ليلة صفين، أوى علي - رضي الله تعالى عنه - إلى فراشه بعد يوم دام، وقتال منهك، وضغط عصبي يفوق احتمال العماليق، كيف لا، وهو خليفة المسلمين الذي يرى بعينيه أفضل الخلق بعد الأنبياء يقتل بعضهم بعضاً، يرى علي بن أبي طالب مصارع الأحباب والأصحاب، والدولة في مهب الريح، ثم يأوي إلى فراشه في نهاية اليوم، يحمل كل هذا الهم، والحزن، ومع ذلك ويا للعجب ـ أقصى أقصى عجب ـ إي والله، يحمل كل هذا، ومع ذلك فحين ألقى بجسده المنهك لم ينس وصية رسول الله، لم ينس الطاعة التي تعلمها، نعم لم ينسها حتى ولا ليلة صفين، تعرفون لماذا إنه منهج التلقي وهو من أعاجيب هذا الجيل وسنفرد له مقالة خاصة - إن شاء الله -، المهم هذه هي حكاية: ولا ليلة صفين، وهي ذاتها حكاية ما بعد رمضان، حكاية الثبات على الطاعة، الثبات إلى الممات.


حكاية رمضان باختصار أن الله - عز وجل - يعلم ضعفي أمام أعدائي الثلاثة: نفسي وشياطين الإنس، وشياطين الجن، ويعلم سبحانه أنهم حققوا في جولاتهم معي انتصارات تاريخية، وأن حالي معهم هو انكسارات لا تنتهي، جعل الله ختام سنة الأعمال في شعبان، والكثير منا تصعد كشوف حسابه بالسالب، يعلم سبحانه أنني أحتاج إلى فرصة لالتقاط الأنفاس، وقفاً لإطلاق النار، هدنة أحاول فيها أن أبدأ من جديد وأعد لهم ما استطعت، أحتاج في بداية سنة الأعمال إلى دفعة قوية أبتعد بها عن هؤلاء الأعداء، أحتاج إلى مركز تدريب أولد فيه من جديد، إن كثيرا من الناس عندهم حكايات عن فترة مركز التدريب في الجيش وكيف أنه دخله (فرفوراً) لا ينام إلا على فراشه، ولا يأكل إلا طعاماً معيناً، فلما دخل مركز التدريب أكل الزلط وشرب الماء العكر ونام واقفاً، هذا هو رمضان بالضبط تدخل إليه والشياطين مصفدة ونفسك ضعيفة وشياطين الإنس، كذلك يمنع عنك الطعام والشراب وتؤمر بالصبر وكظم الغيظ وغض البصر وقيام الليل وتلاوة القرآن، تؤمر بالجوع ساعات طويلة وأنت الذي لم يكن يصبر على الجوع ساعة، ولا تكاد تترك كوب الماء من يدك، وتعشق المياه الغازية، كان يصعب عليك صيام النوافل ولو قليلاً فإذا بك تصوم شهرا، تدخل إلى رمضان لا تكاد تختم القرآن في السنة مرة ويصعب عليك المحافظة على ورد تلاوة يومي فإذا بك في رمضان لا تكاد تترك مصحفك، تدخل إلى رمضان وأنت تتكاسل عن صلاة الوتر كل ليلة ولو ركعة فإذا بك تصلي كل يوم إحدى عشر ركعة تقوم بها الليل، إنه مركز تدريب ولا أروع، ومعسكر بطولات حقيقي، إنها بداية مثالية لتنطلق إنطلاقة عمرك وتكتب تاريخ نجاتك وتضع حداً لزمان الهزائم وأيام المهانة كي تصعد منصة تتويج حقيقية وتحقق فوزاَ له قيمة، إذن خرجت من رمضان وقد تمكنت من الحصول على مكتسبات هامة وفارقة وارتقيت في سلم الطاعة درجات وابتعدت عن أعدائك فراسخ، فقل لي بالله عليك كيف يهون عليك كل هذا فتعود أدراجك وتنكص على عقبيك فتهجر المصحف وتدع الجماعات وتخاصم المساجد وتترك قيام الليل ولا تصوم إلا رمضان التالي، كيف يمكن لعاقل أن يتخلى عن قمة بلغها بعد عناء ونصب، كيف يمكن لعاقل أن يعطي لخصومه الفرصة ليأسروه بعد أن ذاق حلاوة الحرية ولذة الطاعة وطعم الانتصار؟!

إياك أخي الحبيب أن تضحي بشيء من مكتسبات رمضان، إياك أن تتخلى عن سنتيمتر واحد من الأرض الجديدة التي وصلت إليها، إياك أن تترك شيئاً من طاعاتك لربك ولا ليلة صفين.
 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام